ساحة المستشفى المعمداني (قصة قصيرة).. بقلم د. علي حسن الروبي

  • جداريات Jedariiat
  • الأربعاء 08 نوفمبر 2023, 00:11 صباحا
  • 752
أرشيفية

أرشيفية

ساحة المستشفى المعمداني

(قصة قصيرة)

 

لم تنجح في أن تتغلب على الخوف الذي أصابها عند سماع صوت القصف ودوي الانفجارات، لا سيما وأن صوت الانفجارات أصبح قريباً من مسكنها في هذه الليلة، إنّ قلبها يرتجف وتزداد ضرباته سرعة، وباءت محاولتها في إيقاف ذلك بالفشل كما تبوء كل مرة.

* " تُرى هل ستنتهي هذه الغارات كما انتهت غارات الحروب السابقة"؟

* "تُرى هل سينتهي هذا الكابوس كما انتهت كوابيس الحروب السابقة"؟

سآءلت نفسها.

لا بد أنه ستنتهي الغارات وتتوقف الحرب يوماً ما، ويعود الناس إلى حياتهم، لكن السؤال هو: هل ستشهد هي نهاية الكابوس مع مَن سيشهده وتحكي لمن بقي معها حياً كيف مرت أيام هذا الكابوس وكيف كانت ثقيلة مفزعة؟؟ أم أنها هي نفسها ستكون جزءاً من حكايات الكابوس التي سيحكيها الناجون من آتون هذه الحرب لبعضهم بعضا؟

* " ترى هل ستنجو من الموت هذه المرة كما نجت في المرات السابقة؟



ليس في كل مرة تنجح المقامرة، لا سيما المقامرة بالحياة، والإقامة في القطاع بحد ذاتها مقامرة بالحياة، فكيف إذا كانت وقت شن الحرب؟!

غارات هذا العدوان هي الأفظع والأقوى فيما شهدته في حياتها من غارات واعتداءات، لقد أنهت دراستها الجامعية قبل عامين، وتحتفظ ذاكرتها بتجربة خمسة حروب سابقة شنها العدو على القطاع، ويُفترض أن هذا السن وهذه التجارب كفيلان باعتياد صاحبهما من "الغزيين" على الغارات وصوت الانفجارات ورفع الهلع الناتج عنهما من القلب، لكنها لم تزدها هذه التجارب إلا خوفاً وفزعاً من صوت الغارات والانفجارات.



كانت تقول لها صديقاتها وأمها: إنها (خوّافة) ولا تصلح أن تكون من أهل غزة!

بل قال لها أخوها " نضال" ذات مرة مداعباً: أنتِ بقلبكِ الضعيف هذا لا بد أن يكون قد نزعكِ عرقٌ إلى أحد الأجداد ممن اختلطت دماؤهم بغير الفلسطينيين!!

لم يكن أثر رقة قلبها يتجلى في الخوف من الغارات والانفجارات فحسب، بل يظهر في غير ذلك من الجوانب، فمثلاً، قبل ثلاثة أعوام، وبينما كان أهل بيتها، حتى أمها، وقرابتها وجيرانها يجلسون في هدوء وسكينة عندما ارتقى أخوها (جهاد) شهيداً على يد العدو في إحدى عمليات المقاومة، كانت هي الوحيدة التي تبكي وتنوح ويظهر عليها التأثر الكبير بموت أخيها، ووصل الأمر إلى أن تدخّل بعضهم لزجرها عن البكاء والصياح وقد فاز أخوها بالشهادة، وأي فخر يحوزه "الغزي" فوق ذلك!

دخل والدَاها وأخوها (نضال) إلى غرفتها عندما ارتفعت أصوات الانفجارات من حولهم، وجلسوا حولها وأرادوا أن يؤنسوها ويخففوا من التوتر الذي يعلمون أنه يصيبها عند سماع تلك الانفجارات.


قالت الأم: أعيش في غزة منذ ستة عقود لم أرَ قصفاً عنيفاً كهذا القصف في هذا العدوان! لعن الله المجرمين!

- لقد تمرغت كرامتهم في الوحل يوم السابع من أكتوبر، فطبيعي أن يصيبهم هذا بالجنون. أجابها الأب.

قال نضال: لكن جنونهم تحدى الحدود فعلاً، الخسائر في الأرواح لم يسبق لها مثيل في هجمات سابقة على القطاع، وكذلك المباني والمنشآت، تدمير غير معهود، مربعات سكنية دمرت بأكملها وأحياء أصبحت أثراً بعد عين.



ثم نهض قائلاً: لكن لا فائدة مما يفعلونه، والله! لن يكسروننا مهما قتلوا منا، سنظل ندافع عن حقوقنا وأرضنا، إن صمود الناس أسطوري كالعادة. لقد رأيت طفلاً هدم منزل عائلته، وهو يتحدث مع أحد المراسلين بكل ثبات ويقول: يا صهاينة افعلوا ما شئتم لن نركع، ورأيت رجلاً آخر فقد كل أفراد أسرته في القصف وخرج من تحت الأنقاض وحيداً، ولا ينطق لسانه إلا بحمد الله، ورأين امرأة فقدت أولادها وهدم بيتها وهي – ما شاء الله – ثابتة صابرة، تحمد الله وتقول: كلنا فداء فلسطين، كلنا فداء الأقصى!

قال الأب مبتسماً: وأنت يا " زهرة" ماذا لو قُدِّر عليك أن تفقدينا، كيف ستتصرفين؟ هل ستجزعين أم تصبرين؟



قالت في أسى: إنّ قصص البطولة التي تحكون عنها تثير الإعجاب بلا ريب، لكنها تثير الأسى من وجه آخر لا تنظرون أنتم إليه، فعندما يضطر الإنسان لتغيير طبيعته الإنسانية، فهذا ينبغي أن يكون موضع أسى لا موضع إعجاب!

أردفتْ:

إن الإنسان مجبول على أن يفرح عند أسباب الفرح وعلى أن يبكي عند أسباب البكاء وأن يتألم عند أسباب الألم ويخاف عند أسباب الخوف، ويحزن عند مواطن الحزن، ويأسى عند موجبات الأسى، إنه مجبول على أن يهرب من الموت ويمسك بتلابيب الحياة والبقاء ...والناس هنا أصبحوا بضد ذلك كله.

ونتيجة لأنهم صاروا بضد ما يكون عليه الإنسان الطبيعي، فلقد أصبح العَالمَ يراهم وهم يقذفون بالقنابل ويلفظون أنفاسهم تحت البنايات ويلقون حتفهم بالعشرات في الساعة الواحدة ويعيشون بلا كهرباء ولا دواء ولا طعام ولا مرافق أساسية ولا بيوت لأيام طوال، فلا ينزعج ضمير العالم لهم ولا يحرك من أجلهم ساكناً.

لقد اعتاد العالم أن ينظر إليهم نظرة مختلفة ما داموا هم يُظهرون أنفسهم مختلفين عن سواهم من البشر!

 لماذا يتحرك العالم من أجلهم؟!

نهضت من مكانها ثم تابعتْ:

إن العالم يراهم أناساً لا يكترثون بالمصائب التي تنزل بهم، ولا يبالون بالكوارث التي تحل في حياتهم، إنهم لا يهابون الموت ولا يفرون منه ولا يبكون ويجزعون عنده، فإذا كان الموت لديهم بهذه المنزلة، فلماذا ننزعج لقتلهم وموتهم؟! دعوهم يذهبون إليه زرافات ووحداناً، ودعونا نستمتع ببطولاتهم وثباتهم ونستخرج منها مادة إعلامية وأدبية ودرامية تغنينا عن تأليف القصص والروايات وإنتاج الأفلام والمسلسلات.

إنهم يقدمون روايات حقيقية ودراما واقعية نتسلى بأخبارها قبل بدء أعمالنا اليومية أو بعد الانتهاء منها!

هذا نحن عند العالم بسبب بطولاتنا الساحرة وصمودنا الأسطوري الذي تتحدثون عنه.

قالت الأم معقبة:

قد يكون الأمر على ما وصفتِ بالفعل، لكنكِ نسيتِ أن مسلكنا هذا قد اضطررنا إليه اضطراراً ولم نسلكه طواعية، إن العدو سلبنا أرضنا وأخرجنا منها وألقانا في تلك السجون المفتوحة التي يحاصرها وينكل بسكانها متى شاء ويجود عليهم بحياة بائسة فقيرة ذليلة، وإننا متى أظهرنا الحرص على الحياة وترفها والخوف من الموت وشبحه كسائر الناس العاديين= لحمله ذلك على الاستمرار في ظلمنا وغصب حقوقنا وأرضنا، وإننا حيث لا نحفل بالحياة ولا نجفل من الموت لنحرق آخر ورقة في يده ، وفي يد كل ظالم، يرفعها في وجه المظلومين: (اخضعوا لي واستسلموا أو أحرمكم من الحياة وأوردكم حياض الموت)! فنحن حين نقابل الموت وما سواه من المصائب بهذا الصمود أو البرود الذي تتحدثين عنه= نعلن رفضنا الاستسلام أو حتى الخضوع له أو المساومة على أرضنا وحقوقنا، وأننا ماضون في استردادها بالقوة كما غصبها هو بالقوة.

قال الأب:

وأمرٌ آخر يضاف إلى ما ذكرته والداتك: إن الاحتفاء العظيم بالحياة ومباهجها والجزع الكبير من الموت ومصائب الدنيا= إنما يكون بالنظر إلى الحياة الدنيا على أنها الصورة الوحيدة للحياة، لكن الناس الذي يملكون الإيمان بالله واليقين بالآخرة يرون أن الدنيا مظهر مرحلي للحياة، وأنه قصير وسريع الانقضاء، وأن الأبدية والخلود هما المظهر الدائم والحقيقي للحياة، وأن الدنيا ليست إلا لحظة يسيرة جداً في مقابل الأبد، فالتضحية بهذه اللحظة اليسيرة في سبيل قضية عادلة ومن أجل حياة أبدية سعيدة= فعلٌ عاقلٌ وليس ضرباً من الجنون، وإذا كان الموت هو البوابة المؤدية للخلود والأبدية والحياة الحقيقية الدائمة، فلم يكون منه الجزع ولا يكون به الفرح؟!

قال نضال ساخراً:

 ما شاء الله! لو سقط صاروخ الآن فوق بنايتنا هذه= لضاع نصف الفلسفة الموجود في القطاع. أنا أُقدر تماماً أنني أمام أستاذَين جامعيين ومعيدة في الجامعة، لكن أيها الفلاسفة ليس هذا وقت مناقشة النظريات الفلسفية والأسئلة الوجودية، ونحن بلا كهرباء ولا مياه نظيفة، ونحن نواجه شبح الموت وخطر أن نصبح بلا مأوى في أي لحظة، هذا إن نجونا من الموت!

استعدوا، يا معشر الفلاسفة، لننتقل غداً إلى ساحة المستشفى المعمداني، فإن الغارات اليوم بدأت في الانتقال إلى حينا هذا بعد تدمير أكثر بنايات الحي المجاور، وإن أكثر جيراننا قد تركوا الحي، وأصبح البقاء هنا مجازفة.

جهزوا بعض ملابسكم والمستلزمات الضرورية وسأشتري خيمتين صغيرتين ننصبهما في ساحة المستشفى، كما فعل المئات من الناس؛ فهي مكان آمن.

- الحياة في الخيم صعبة جداً لا تحتمل، كما أنهم يهددون المشافي ويرسلون إليها أوامر بالإخلاء.. ردت " زهرة".

قالت الأم: أما تهديد المستشفيات فأظنه مجرد تخويف لينسحب الناس إلى جنوب القطاع، وأما بالنسبة لصعوبة الحياة في خيمة في العراء فهذا ما كنتُ أحاول إيصاله إليك، وهو أن الخيارات الصعبة مفروضة علينا فرضاً وليس أمامنا إلا قبولها، لا بد أن نقبل بالانتقال إلى ساحة المشفى أو حتى إلى صحراء جرداء والصبر على العيش في تلك الأوضاع حتى تتوقف الحرب، فهذا بكل حال أهون أن تزهق نفوسنا تحت الأعمدة الخراسانية كآلاف الشهداء الذين قضوا.

وجدتْ الحياةَ في ساحة المشفى كما توقعتها، لا تطاق، حياة لجوء ٍكاملة، شمس وحرارة داخل الخيمة نهاراً، وبرد أثناء الليل، تكدس المئات في بقعة صغيرة، زحام على دورات المياه التي ينتظرها المئات، صعوبة في الحصول على الطعام مع استهداف المخابز وتعطل الحياة بسبب الحرب.

قررت أن تستعين على تزجية الوقت بمساعدة الجرحى من النساء والأطفال الذين لا تكاد سيارات الإسعاف تتوقف عن الإلقاء بهم طوال اليوم.

مناظر تشيب لها الرؤوس وتقشعر لها الأبدان، الإصابات والدماء على أجساد الأطفال أثرها أشد بشاعة منها على أجساد الكبار وإن كانت البشاعة تنتظم جميع الإصابات، كتابة الأسر أسماء أطفالها وأفرادها على أذرعهم وسيقانهم بغية التعرف على جثثهم إذا تعرضوا للقصف وتناثرت أشلاؤهم، ارتعاش بعض الأطفال وارتعاد أجسادهم الدائم من شدة الخوف بعد نجاتهم من الانفجار وخروجهم من تحت الأنقاض، نداء الأطفال الناجين على آبائهم وأمهاتهم الذين فُقدوا في القصف،  نجاة طفل بعد موت جميع عائلته، حيث لم يبق له أحدٌ من عائلته كلها، بل لا يعرف اسمه أحدٌ، صراخ بعض النساء بل والرجال متأثرين بموت ذويهم، اختلاط المشاعر والأحاسيس لدى بعض الناجين من أصحاب الإصابات الخفيفة ما بين فرحٍ على نجاتهم من الموت وحزنٍ على فقدهم بعض أقاربهم أو حتى فقدهم منزلهم وأنهم أصبحوا من هذه الساعة مشردين بلا مأوى ...إلخ

  لم تحتمل الاستمرار في رؤية تلك المناظر وقررت التوقف عن هذا التطوع، وأن تبقى مع والديها وأخيها ما استطاعت.

في صبيحة يوم الثلاثاء (السابع عشر من أكتوبر) قالت لأمها: إنها تحس بانقباض في قلبها، وإن شعوراً بالقلق يستولي على نفسها، وإنها غير متفائلة بذلك، ولقد ظل هذا الشعور ملازماً لها طيلة اليوم وفشلت محاولاتها في الإعراض عنه والخروج من أسره.

وعندما أقبل الليل، وانطلق أبوها لشراء الخبز وبعض الطعام من متجر قريب، وانطلق أخوها لشراء بعض المستلزمات الصحية من صيدلية بعيدة= ربط عقلها بين ما تعانيه من انقباض قلبها وما هي فيه من وَجَلٍ وقلقٍ، وبين ذهابهما وأنه قد يصيبهما مكروه، فازداد قلقها وتفاقم توترها.

على غير بعيدٍ من خيمتهما كانت تحكي لأمها خبراً سعيداً جاءها للتو وسط هذه الأحداث المأساوية، فقد وصلها بريدٌ الكترونيٌّ من جامعة (اليرموك) الأردنية، يخبرها بالموافقة على طلبها الحصول على منحة الدراسات العليا في الجامعة، وأنها بعد انتهاء الحرب ستنتقل للحياة هناك مع أخيها الأكبر " ناجي" الذي يقيم في الأردن منذ سنوات، ولعلها هي الأخرى تتاح لها الفرصة للحصول على إقامة دائمة هناك.

بيد أنه أثناء حديثها سمعت صوتاً قوياً جداً، ثم عمَّ الظلام الشديد....

في حواره مع مراسل القناة الإخبارية الذي كان يغطي، من قلب الحدث، الانفجارَ الذي استهدف ساحة المستشفى المعمداني، كان والدها يقول والدموع تملأ عينيه:

" لقد تركتهما هنا، زوجتي وابنتي، وذهبت أنا وابني لشراء بعض المتعلقات الشخصية قبل أن يقع الانفجار بربع ساعة فقط، الحمد لله على كل حال، لقد وجدنا جثتيهما سليمتين لأنهما كانتا بعيداً عن مركز الانفجار، لقد رأيت بعض الجثث الأخرى تحولت إلى أشلاء متناثرة".

تمت

تعليقات