رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. هشام عزمي يكتب: الشر المحض

  • جداريات Jedariiat
  • الأحد 22 أكتوبر 2023, 02:54 صباحا
  • 131
هشام عزمي

هشام عزمي

دعونا نتخيل طفلاً صغيرًا يلعب في حديقة وحده، على ما يبدو، ولا يظهر والده بجواره أو حوله، فيمكن لنا ساعتها الافتراض أنه ربما الأب موجود لكننا لا يمكننا أن نراه بسبب الزحام مثلاً أو لكونه خارج نطاق رؤيتنا المحدودة.  

لكن دعونا نتخيل أن هذا الطفل أثناء اللعب وهو يتسلق أحد الأشجار سقط من عليها وشُجّت رأسه وسال الدم على وجهه وتفجرت دموعه وعلا بكائه وصياحه وصراخه، ومع هذا لم يظهر والده في المشهد ولم يهرع لنجدته، عندها يحق لنا الاستنتاج أن هذا الأب غير موجود.

هذا المثال السابق هو ملخص حجة نفي وجود الله بسبب وجود الشر المحض free evil أو ما يترجمه البعض إلى العربية بلفظ الشر المجاني. وهي تقوم على مقدمتين ونتيجة:

مقدمة حسية: يوجد في العالم أمثلة كثيرة على شرور محضة مطلقة تتضمن معاناة شديدة جدًا لا يظهر فيها أي لمحة من الخير أو يتصور وجود أي خير في مآلها، وفي قدرة الله منعها وإزالتها دون أن يترتب على هذا تفويت خير أكبر أو أعظم. باختصار يوجد شر محض لا يترتب عليه خير أكبر منه.

مقدمة عقلية: الله لا يحب ولا يريد وجود الشر المحض الذي لا يترتب عليه خير أكبر منه، ويقوم بمنعه وإزالته طالما لا يتضمن ذلك تفويت خير أكبر.

النتيجة: الله غير موجود.

هذه باختصار هي ما يعرف بحجة الشر البرهانية Evidential Argument from Evil التي استعملها الفيلسوف الملحد وليام رو William Rowe لنفي وجود الله[1]، وهي تنطلق من حجة الشر المحض، وسميت برهانية لأنها تعتمد من وجهة نظر واضعها على برهان حسي مشاهد هو وقائع الشرر المحض غير المبرر في العالم. فهي تقوم على أنه إذا كان يمكن تفسير أشكال عديدة من الشرور الموجودة في العالم بأنها قد يغلب عليها جوانب الخير، أو قد يترتب عليها خير عظيم، أو قد يكون في تفويتها شر أكبر منها، فإنه إذا كان الشر الموجود فيه معاناة شديدة وعذاب أليم لا يمكن تبريره في ضوء أي من المعطيات السابقة، فإن هذا يعني عدم وجود الخالق المتصف بصفات الكمال في العلم والقدرة والحكمة والرحمة والعناية والتدبير. ويضربون لهذا أمثلة عديدة كغزال حاصره الحريق في الغابة حتى أكلت النار جسده وهو حي، ثم ظل بعدها أيامًا في معاناة وألم حتى مات، أو بحادثة مشهورة لطفلة عمرها خمس سنوات في ولاية ميتشجان بأمريكا قام صديق والدتها باغتصابها وضربها بوحشية وخنقها حتى الموت في رأس سنة عام 1986.

بل نحن في هذه السياقات نستحضر آلامًا ومجاعات لشعوب كاملة، كما وقع لأهل البوسنة من مطاردة وتعذيب واغتصاب للنساء وبقر لبطون الحوامل ووحشية وإبادة جماعية، أو ما وقع لأهلنا في سورية أو فلسطين أو الهند أو غيرها. فهذه كلها أمثلة ونماذج فيها معاناة شديدة وآلام فظيعة قد يعتبرها هؤلاء من الشر المحض الذي لا خير فيه بوجه من الوجوه. واعتذر لعزيزي القارئ عن الإطالة في تقرير هذه الحجة، إذ أنها من أبرز حجج القوم لنفي وجود الله جل وعلا، ولابد من بيانها بيانًا صحيحًا حتى يمكن الجواب عنها وإظهار ما فيها من خلل.

أما الجواب عنها فإنه يكمن في عدم التسليم بالمقدمة الحسية من هذه الحجة، بينما المقدمة العقلية نحن نتفق معها تمامًا، لأن الله جل وعلا لا يخلق شرًا محضًا ليس فيه خير بوجه من الوجوه، ولا يخلق ما فيه الشر أكبر من الخير، ولا حتى ما فيه الخير والشر متساويان، لأنه تبارك وتعالى لا يحب الشر ولا يرضاه، ولا يخلقه إلا إذا كان مترتبًا عليه أو صاحبه خيرٌ أعظم وأكبر، أما إذا كان الخير أقل من الشر أو متساويًا معه، فلا يخلقه الله ولا يكون في مخلوقاته جل وعلا، فضلاً عن أن يخلق تبارك وتعالى شرًا محضًا لا خير فيه بوجه من الوجوه، ((إذ ليس فيما خلق الله سبحانه شرٌ محضٌ أصلاً، بل هو شرٌ بالإضافة))[2]. فبالنسبة للمقدمة الحسية عن وجود الشر المحض، نحن لا نقبلها ولا نسلم بها، لأسباب عديدة:

أولاً: وصف أمر ما بأنه شر محض لا خير فيه يتطلب من المرء أن يكون علمه محيطًا شاملاً مطلقًا لكي يحكم على أمر ما بأنه يخلو تمامًا من كل وجوه الخير الممكنة. وطالما الإنسان علمه محدود وعقله محدود وبصيرته محدودة وحكمته محدودة، فمن الغرور المعرفي أن يحكم على أي أمر مهما كان أنه يخلو تمامًا من الخير ولا يمكن أن يترتب عليه خير في يوم من الأيام! فإن علم الإنسان قاصر محدود، ولا يستطيع مثلا أن يحكم على فعل ما بأنه شر بينما من الممكن أن تكون نتائجه وتوابعه في المستقبل تؤدي إلى خير أعظم وأكبر بكثير، وبما أن هذه النتائج والتوابع مستمرة في المستقبل، ولا يمكن تحديد نهايتها أو وقت انقضائها، فلا يمكن فعلا أن يحكم الإنسان محدود العلم على أمر ما بأنه شر إلا إذا أحاط بكل شيء علمًا.

ولسنا بحاجة في هذا المقام أن نثبت أن في كل شر موجود في العالم جوانبَ من الخير مصاحبة له أو مترتبة عليه، ولا مضطرين للبرهان على أن في وجود هذه الشرور من المصالح والمنافع والخيرات ما يبرر وقوعها، بل العكس؛ الملحد هو الذي يقع عليه عبء البرهنة على أنه يستحيل عقلاً تفسير كل هذه الشرور، وهذا دونه خرط القتاد! بل إنه لا يوجد ملحد واحد قد أثبت، أو حتى حاول أن يثبت، أن هناك من الشرور في العالم ما يستحيل تفسيره، بل إن المرء قد يعجب من ماهية البرهان الذي يمكن أن يسوقه الملحد لإثبات مثل هذا الأمر! لهذا فإن قصارى جهدهم في هذا الباب هو الإقرار بأن هذه الحجة إنما هي احتمالية في جوهرها، وليست قاطعة أو محكمة باعتراف واضعها وليام رو نفسه، فهو يرى أن هذه الحجة تؤيد الإلحاد وتنفي وجود الله، لكن هذا لا يمنع من وجود حجج أخرى مستقلة تثبت وجود الله، وفي حالة كون هذه الحجج الأخيرة أقوى وأعلى معرفيًا من حجة الشر البرهانية، فإنه ينبغي الخضوع والتسليم لها، فحجة الشر البرهانية في النهاية مجرد استنتاج قد يخطئ وقد يصيب، لا تستلزم نفي وجود الخالق بالضرورة العقلية أو تفيد اليقين المحكم القطعي. فهدف رو من حجته أنه إذا نحينا جانبًا أي حجج أو أدلة أو براهين تدعو لإثبات وجود الله، فإن حجة الشر البرهانية تقدم سببًا جيدًا للاعتقاد بأن الله غير موجود[3]. فهي في أفضل حالاتها المعرفية تعتبر مجرد شبهة في وجه البراهين العقلية القاطعة بوجود الله جل وعلا، وهي في الحقيقة احتجاج بالجهل Argument from Ignorance فنحن نجهل الحكمة من هذه الشرور المعينة، ومدار الاحتجاج بها على نفي وجود الله هو الجهالة، وتراكم الجهالات وتكاثرها وتزاحمها لا يمكن أن يولد علمًا أو أن يكون مرجحًا أمام قوة الأدلة والبراهين اليقينية على وجود الله تبارك وتعالى.

ثانيًا: الله جل وعلا علمه مطلق وحكمته مطلقة، بينما الإنسان علمه محدود وحكمته محدودة، وهذا الفارق في العلم والحكمة يقتضي وجود أشياء كثيرة جدًا جدًا لا يعلمها الإنسان ولا يستوعبها، بقدر اتساع هذا الفارق. لهذا فإن وجود أمور لا يظهر منها خير ألبته لا يعني أنها كذلك في علم الله وحكمته، بل إن فيها من الخير ما يعجز الإنسان عن تصوره وتقديره بعلمه المحدود وعقله المحدود.

 

ومقتضى العقل والغريزة الإنسانية أن المرء إذا صدر ممن يفوقه علمًا وحكمة وخبرة فعلاً أو تصرفًا يوهم الجهل أو الخطأ، فإنه يتريث ويفكر ويمعن النظر قبل أن يحكم بخطأ هذا الفعل أو جهالته، كمبتدئ يلعب الشطرنج أمام بطل العالم، وقد قام هذا الأخير بالتضحية ببيدق مثلاً، فهل جهل هذا المبتدئ بالنتائج بعيدة المدى المترتبة على هذه الخطوة من بطل العالم في الشطرنج تعني أن لا فائدة منها ولا غاية لها ولا مصلحة مقصودة من ورائها؟ لهذا إذا تقرر لدينا أن الله مطلق العلم واسع الحكمة وكل شيء عنده بمقدار، فإننا إذا وجدنا في وقائع العالم ما يوحي بغير ذلك، علينا أن نرده إلى حكمة الله الواسعة المطلقة، وأن نوقن أن لها حكمة تتجاوز علومنا ومعارفنا المحدودة، فإن مسلك العقلاء في كل زمان ومكان أن يردوا المتشابهات إلى المحكمات والظنيات إلى القطعيات والفروع إلى الأصول والجزئيات إلى الكليات، فعندما نرى صورة من صور الألم الشديد أو العذاب يتعرض لها مخلوق من المخلوقات، ولم يتحقق لنا في مفردات الأمر ما به نعلم الحكمة الدقيقة من نزول ذلك الشر بذاك المخلوق، فليس لنا أن ننتقل عن الأصل الراسخ المتقرر عندنا بضرورة العقل والفطرة، إلى ما ينافيه وينقضه. وهذا في جميع أبواب العلم.  

 

ولنقرب الموضوع إلى الأذهان دعونا نتخيل طفلاً في الرابعة من عمره مصابًا بالسرطان، يصحبه والده إلى المستشفى ليجري جراحة تلو الأخرى، ويتلقى جلسات العلاج الكيماوي بما فيها من إبر مؤلمة وعذاب، والعلاج الإشعاعي الذي يتساقط له شعره ويتسلخ له جلده، ويعاني من كل آلام العلاج ومرارته وشدته، فهل يمكن لهذا الطفل الصغير أن يستوعب حسابات وموازنات الشر والخير التي يجريها والده بين قسوة العلاج وتكلفته المادية والمعنوية الباهظة وبين الخير المترتب عليه من شفاء وصحة وعافية؟

ولهذا سعى البعض للرد على هذه الحجة بقلبها، كما فعل الفيلسوف البريطاني جورج إدوارد مور George Edward Moore فيما يعرف باسم التبديل الموري Moore's Shift، وهو عبارة عن قلب الحجة بإثبات نقيض نتيجتها، فتكون كالآتي:

المقدمة الأولى: الله موجود.

المقدمة الثانية: الله لا يحب ولا يريد الشر المحض.

النتيجة: لا يوجد شر محض.

فإنه بالنسبة إلى المؤمن الذي يرى أن وجود الله حقيقة ظاهرة بينة، يُعتبر وجود الشر المحض مستحيلاً تمامًا، وأن كل ما يُساق من أمثلة أو نماذج عبارة عن افتراضات ومتشابهات لا ترقى لمرتبة يقينية البراهين القائمة على وجود الله واتصافه بصفات الكمال في العلم والقدرة والحكمة والرحمة والعناية والتدبير. وصاحب حجة الشر البرهانية وليام رو نفسه كان على بصيرة بهذا الضعف في حجته كما أشرنا أعلاه. فالشر المحض الحقيقي من كل وجه لا يدخل في الوجود، إذا لو دخل في الوجود لم يكن شرًا محضًا[4].

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

[1] William Rowe, The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism, American Philosophical Quarterly 16/4, 1979, 335-41

[2] ابن تيمية، مجموعة الفتاوى ج14 ص154

[3] Howard-Snyder, Daniel and Paul Moses, Divine Hiddenness: New Essays. New York: Cambridge University Press, 2001, p. 136

[4] ابن تيمية، جامع الرسائل ج1 ص139

تعليقات