باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
د/ علي حسن الروبي
هل الطينة التي خلق منها أهل غزة ( الغزّيون) مغايرة للطينة التي خلق منها سائر الناس؟
لعل هذا السؤال جال بخاطرك وأنت ترى وتسمع على مرّ الشهور والأعوام ما يقدمه أولئك الناس الذين يسكنون تلك البقعة الفقيرة المحاصرة المكتظة بالسكان، وكيف يتعاملون طبقةً بعد طبقة وجيلاً بعد جيل مع الموت المحدق الذي يحيط بهم من كل جانب وينزل بساحتهم بين الفينة والفينة.
وإنك بعد التأمل والتبصر= لتدرك أن الموت عند (الغزّيين) له صورة مباينة لصورته عند سائر الناس، كما أن لهم طريقة في التعامل معه مغايرة لطريقة سائر البشر.
فبينما ينظر الناس إلى الموت بهيبةٍ وإجلالٍ وخوفٍ وذعرٍ ويفرون من وجهه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويجعلون بينهم وبينه من الحواجز ما يقدرون على تدشينه، ويبذلون في سبيل الهرب من أموالهم بل ومن كرامتهم وعزتهم ما يقدرون على بذله.
إنّ (الغزيين) لا يكتفون بمخالفة الناس في عدم الخوف من الموت والذعر منه والهرب من وجهه، إنهم يتجاوزن هذه المرحلة من الصمود في وجه الموت وعدم الوجل من شبحه، وعدم الاكتراث بما له من هيبة في النفس البشرية، وما جبلت عليه نفوس البشر من كراهيته والفرار من وجهه بكل سبيل، يتجاوزن ذلك إلى مرحلة متقدمة وهي الهزء منه والاستخفاف به.
يبدو المزاج (الغزّي) تجاه الموت وكأنه يدخل معه في معركةٍ من التحدي والإصرار على تحطيم هيبته في النفس البشرية!
إن النفس (الغزِّية) لتطارد الموت وتبحث عنه كما لو كانت هي الطالبة له لا هو الطالب لها!
لسان حال الموت وهو يتعامل مع (الغزّيين): إنني لا أريد قتلكم الآن وسأبتعد عنكم كما أبتعد عن سائر الناس إلى أن يأتي الموعد الذي لا بد منه بيني وبينكم. أريد منكم فقط أن تحافظوا على صورتي وهيبتي بين الناس.
أريد منكم فقط أن تكون لي في نفوسكم تلك المهابة والمكانة التي لي عند سائر الناس سواكم، لا أريد منكم أن تظهروا هذا الاستخفاف والتعالي عليّ والهزء مني والتقليل من شأني أمام الناس والعالم.
أريد فقط أن تحترموني وأحترمكم، وسأعاملكم ساعتها كما أعامل سائر الناس، لن أوغل فيكم ولن أستبيح ساحتكم ولن أحصد هذه الأعداد الهائلة من الضحايا منكم في كل يوم وليلة.
كانوا عاقلين فحسب، كونوا بشراً كسائر البشر!
لكن (الغزَّيين) لا يُلقون بالاً لهذه النصائح التي يقدمها لهم الموت، ويجعلون كلامه دَبر آذانهم وتحت أقدامهم. فتجد الواحد منهم صغيراً كان أو كبيراً مستعلياً على الموت مستهزئاً به، مفتشاً عنه في مظانه، لاهثاً خلفه، مطارداً له بين طلقات الرصاص وراجمات المدافع ومقذوفات الصواريخ ودوي القنابل وقصف الطائرات.
يظل الواحد منهم يطارد الموت هنا وهناك حتى يقول الناس عنه: إنه لمجنون، وعند ذلك وبعد أن ييأس الموت من الفرار من وجهه يغتاله ويعاقبه على هذه الجرأة المتناهية في مطاردته لعله يكون عبرة لغيره من العزِّيين.
لكن هيهات هيهات أن يعتبر (الغزّيّون) أو يتعظوا بما جرى لبعضهم بعد مطاردته للموت، بل يظل أولئك الناس على ما هم فيه من استخفافٍ بالموت وهزءٍ به ومطاردة له، فيظل هو كذلك يفترسهم بصورة قاسية راجياً أن يجعلهم عبرة لسواهم. وهكذا دواليك تستمر الأمور بينه وبينهم، لا يكفون هم عن مطاردته والهزء به ولا يكف هو عن افتراسهم بقسوة!
ولا تنحصر تلك النظرة المستعلية على الموت الهازئة به في أولئك المُقْدمين على مواجهة الموت والارتماء في أحضانه، بل إننا نجدها كذلك عند أولئك الأحياء الذين نجوا من الموت أو نجا هو منهم!
فإذا كان سائر الناس خارج غزة يتعاملون مع الموت على أنه مصاب جللٌ وفاجعة كبرى تتوقف عندها حياة الأحياء، وأنه لا بد أن يبقى صداها الحزين مع أصحاب الفاجعة لأيام وأسابيع عديدة، قبل أن يتناسوها ويرجعوا إلى معهود حياتهم قبل حلول جائحة الموت بساحتهم.
وإذا كان في الناس مَن تُطفئ مصيبةُ الموت جذوةَ السعادة في قلبه وتجتث شجرةَ الأمل من فؤاده بعد موت عزيزٍ على النفس أو خليلٍ للروح، كموت أمٍّ أو أبٍ أو أخٍ أو زوجٍ أو حبيبٍ أو صديق....إلخ.
أقول: إذا كان للموت تلك الأصداء في حياة عموم الناس، فأصداء الموت وآثاره والتعامل معه في مجتمع غزة مختلفة عما هي عليه عند المجتمعات خارجها.
إن مظاهر الاستعلاء على الموت وآثاره موجودة عند الأحياء من (الغزِّيين) كوجودها في أولئك الذين واجهوا الموت وافترسهم.
لا يعرف (الغزيون) شيئاً من طقوس النياحة ولا مظاهر الفزع والجزع التي يمارسها أكثر الناس عند موت أحبابهم، فتجد الأب والأم وسائر الأسرة يتلقون نبأ وفاة ابنهم وفلذة كبدهم في معركة مع العدو بهدوء وسكينة لا يقدر سائر الناس من خارج المجتمع الغزِّي على عشر معشارها!
يحتسب الآباء أولادهم ويحتسب الأولاد آباءهم ويحتسب الإخوة إخوتهم والأصدقاء أصدقاءهم في جلدٍ وثباتٍ وسكينةٍ تذهل لها العقول وتفغر لها الأفواه!
لا يقف (الغزِّيون) مع أصداء الموت وآثاره كثيراً، ولا يعيشون مع ذكرى الأحباب الذين فارقوا طويلاً، وإنما يتجاوزن جميع ذلك ويرجعون إلى دنياهم، يمارسون شؤونهم ويزاولون أعمالهم ويخططون لمعاشهم، ويتطلعون لأمانيهم وأحلامهم، ويفرحون ويلتذون بتلك اللُّعاعة من السعادة التي تبذلها لهم الدنيا وهي راغمة في حياة شديدة القسوة محفوفة بالمخاطر والأهوال والصعوبات و( الموت) من كل جانب.