قصة "انتظار الحناوي" للأديب المهندس هشام العطار.. رؤية بقلم د حنان إسماعيل

  • جداريات Jedariiat
  • الثلاثاء 22 أغسطس 2023, 01:55 صباحا
  • 750

قصة انتظار الحناوي نجحت في تصوير البيروقراطية التي تمتع بها النظام الإداري منذ أقدم العصور في أسوأ صورها، استطاع الكاتب بسلاسة منقطع النظير تصوير القهر والظلم بل والبطش الذي تعرض له الشعب المصري متمثلا في عائلة الحناوي.منذ العصر العثماني وحتى عصرنا الحالي من خلال نافذة بيت السناري التي يحتمي داخلها العسكر أو علية القوم بينما تمرق عينيه من خلال النافذة لتعرض لنا أحوال السوقه أو عامة الشعب الكادحة.

وبأضدادها تظهر الأشياء:

عرض للغني الفاحش مقابل الفقر المدقع، عرض لجابي الضرائب الذين يتعسفون في جمعها من أجل زيادة ثرواتهم من خلال مص دماء الشعب، كما عرض للمشروعات التي لا يتم إنجازها سوى من جيب الشعب وليست من موازنة الدولة.

عرض للرشاوي التي تدفع من تحت الترابيزة والتي لم تتوقف من عصر لآخر بل تزداد قيمتها.

عرض لبطش السلطة في الاستيلاء على ممتلكات المواطنين حتى وهم ينحدرون في المستوى الاقتصادي والاجتماعي فبعد أن كانوا أصحاب أملاك وكانوا يتضررون من نسبة المكوس وهي ربع العشر إلى نسبة العشر إلى نسبة الثمن دون أدنى اعتبار لحالة هؤلاء المنحدرين إلى الهاوية.

ويستمر الكاتب في رصد تلك التحولات الاجتماعية من خلال المقعد القريب من نافذة بيت السناري والتي تعاقب عليه الجد ثم الأب ثم الحفيد مع تردي في جميع الأوضاع من سيء إلى أسوأ.

وأرى أن الكاتب تأثر تأثرا عظيما حين حضر ندوة في بيت السناري الذي أدهشته بنايته وتصميم حجراته، فتتبع تاريخ إبراهيم كتخدا السناري عام 1209ه / 1794م وهو سوداني الأصل ونزح إلى مصر وتحديدا مدينة المنصورة حيث عمل بوابًا ودخل في معية الأغنياء وقرر بناء دار له هو بيت السناري.

أثار هذا التاريخ قريحة الكاتب لتصوير تلك الأجواء في قصته انتظار الحناوي، وهو عنوان جذاب لافت للنظر لا تكاد تقرأه حتى تُصر على معرفة القصة كاملة.

 

نص القصة:

انتظار الحناوي

في ذلك الشتاء البارد إخترق نافذتي شعاع شمس فأذاب بعضا من برودة غرفتي فخرجت ألتمس الدفء بساحة البضائع أمام الوكالة فوجدت أن القصر الجديد الذى شيَّده مراد بيك على ضفة النيل المقابلة ببولاق قد اكتمل بناؤه.

على جانب النهر مرت رياح بطيئة لها وقع الصقيع فضمت شجرة التين أوراقها كآذان قطيع أفيال يحمون رؤوسهم من سهام مدببة تطلق عليهم من مكان بعيد وإذا بجابي المكوس يمتطى حماره الابيض يشد لجامه .. يخترق صفوف الاشجار ليتقدم نحو الوكالة فبادرته بالتحية

"حمد الله ع السلامة يا زكى افندي .. تفضل عند المحاسب فخذ واجب الضيافة وسيعطيك المبلغ المطلوب كالعادة فقد جهزناه لك منذ أسبوع"

-اشكرك يا شيخ حناوي ولكن المكوس زيدت إلى العشر .

- العشر!!! لقد كنا ندفع لكم نصف العشر بالكاد فكيف تزيدونها للضعف بكل بساطة.

- لعلك تعلم أن الفرنجة متربصون بثغر الاسكندرية و تجهيز المؤن و صنع السلاح يحتاج إلى مال .

- اسمعني يا زكى افندي

لا يوجد فى خزانتنا اليوم سوى نصف العشر كالعادة .. اقبلها الآن وسنعطيك من فضل الله، أما أنا فسأذهب في طلب مراد بيك ليعفيني من الزيادة.

ألا يكفى خراج الزكاة لاستكمال تجهيز المحاربين ؟

- أنا رهن إشارتك ولكن إذا قبلت النصيحة فعليك بإبراهيم السنارى ، لقد نصَّبه مراد بيك كتخدا و هو الآن في يده الحل و الربط .

- إبراهيم ..ذلك الدجال السوداني صار كتخدا !!!

زحفت ابتسامة باهتة حتى غطت وجه زكى افندي ثم انصرف إلى المحاسب.

اعتليت مُهرتي و توجهت لبيت السنارى، استأذنت الحرس فأدخلوني إلى بهو الاستقبال فألفيته يعج بالمنتظرين من التجار و النقباء و أصحاب الأطيان . وبعد ساعة ظهر رجل في ثياب مزركشة و شارب بجناحي صقر ، رماني بنظرة حادة كما لو كان اكتشف وجودي، فجأة فتقدم نحوى بكوب من القهوة اليمنية قائلا "مرحبا بك في بيت السنارى" فرميت فى جيبة دينارا و أفصحت له عن رغبتي في مقابلة الكتخدا فقال انتظر حتى أعطيه خبرا. تخيرت مِقعدًا مجاورا للشرفة فزاغ بصري إلي الشارع فظهرت حوانيت القصابين و الحدادين و تأملت أفواجا من المارة يروحون و يسرحون منهم من يكتسون بالعباءات الأزهرية ويضعون العمامات وآخرون يرتدون قمصانا و سراويلا و يزينون رؤوسهم بطرابيش و فلاحين و فلاحات و باعة منتشرون يعرضون الفاكهة و الخضروات على الأرصفة.

و طال الانتظار دهرًا ، تعاقب فيه الليل و النهار مرارا ، حتى اختفت حوانيت القصابين و الحدادين و حل محلها دكاكين ذات واجهات زجاجية تعرض نمارق و أباريق نحاسية و جواهر ذهبية . ثم طال الانتظار حتى رأيت أفنديات من الفرنجة يشدون أربطة حول أعناقهم ويحشرون رؤوسهم فى قبعات ضيقة بيضاء. وتحول بصرى إلى داخل قاعة الانتظار لأجد تمثالا لنابليون بزيه العسكري الأزرق. إلى أن قطع شعاع بصري رجل أسمر يرتدى حلة بيضاء و يطوق رقبته برابطة عنق كالفراشة فقال "مرحبا بك في بيت السنارى" وسألني عن سبب انتظاري .. فقلت .. أنا محمود أصغر أحفاد الشيخ الحناوي و أود مقابلة الخواجة "جلياردوب" مدير هذا المتحف فقد علمت ان له كلمة مسموعة لدى وزير المالية لكى يخفف الضرائب على محلاتنا فقد زادوها إلى الثمن ولكنا لا نستطيع الدفع فقد تبدل الحال و بعنا الوكالة التي كان يمتلكها جدى و اكتفينا بالدكاكين التي كانت تابعة للوكالة لنبيع فيها الزيوت العطرية في السوق . لقد أعطاني الرجل أذنا صاغية فأمسكت بيده و ناولته جنيها كاملا فابتهج و دقت طبول قلبه فأخبرني أن له صداقه قوية مع الخواجة و أنه يستطيع أن يقنعه أن يلغي الضرائب تماما . فذهب و غاب تم عاد ليبشرني بأن الخواجة سيفاوض الوزير على إعفاء محلات الحناوي من كامل الضرائب ولكن الأمر يحتاج أن يتنازل أولاد الحناوي عن الدكان الرئيسي لصالح الخواجة ليكون مقرا إداريا للمتحف . عدت بالمقترح لأبى و إخوتي و أبناء عمومتي لنتدارس الفكرة ثم عدت انتظر الخواجة لإتمام الاتفاق.

فانتظرت طويلا بجوار الشرفة و طال الانتظار دهرا تعاقب فيه الليل و النهار مرارا حتى لمحت مجموعة من الموظفين يدخلون إلى البهو فجاء الساعي ببدلة صفراء يسألني "أهلا بيك فى بيت السنارى .. أجيب لك كوبايه شاى؟ ولا فنجان قهوة ؟" فأخرجت له عشرين جنيها وسألته" هل حضر المدير؟"

في إحدى الغرف الأثرية كان مدير الدار يجلس خلف كومه من الأوراق الصفراء على مكتب من الصاج الرمادي المتسخ بدوائر بنية من آثار أكواب الشاي .. بادرت بالكلام قائلا :"أنا صابر حفيد الشيخ الحناوي".

قال المدير : أنتم أصحاب محل الحناوي المشهور ؟

- نعم يا سيدى لقد كنا أصحابه و لكن لم يعد المحل ملكنا، لقد بعناه و بعنا الاسم بالمزاد سدادا للديون يا سيدى ..

ولقد سمعت أن هذه الدار قد آلت ملكيتها إلى هيئة الآثار.. فهل أجد وظيفه لديكم؟

أجاب المدير من خلف الأوراق : للأسف التوظيف متوقف في الوقت الحالي، ولكن يمكنك الانتظار.  فتخير مقعدا بجوار الشرفة المطلة على الشارع.

ومازال الحناوي إلى الآن منتظرا...


تعليقات