"أشواق الزنزانة".. رواية تتجول في أغوار النفس البشرية لمحمد هلال

  • جداريات Jedariiat
  • الثلاثاء 15 أغسطس 2023, 04:58 صباحا
  • 994

قراءة بقلم / د. حنان إسماعيل

 

 رواية "أشواق الزنزانة 13" هي أحدث مؤلفات الكاتب الصحفي بالأهرام محمد هلال.. عضو اتحاد كتاب مصر وعضو نقابة الصحفيين.. وقد تميزت الرواية بتكنيك جديد في السرد والموضوع من حيث المعنى والمبنى.. ويمكننا أن نجزم ذلك قولًا واحدًا بأنها رواية نفسية من الدرجة الأولى، تعتمد في معظمها على حديث النفس وما يجول فيها من أحزان وقلق وتوتر ومخاوف وهواجس وتوجس، أدواتها الفكرية في ذلك تعتمد على ركيزتين أساسيتين هما في دوران عجلة أحداثها.. الأول إصابة بطل الرواية بمرض نادر جدًا لا يصيب إلا الرجال يسمى مرض بيروني الذي اتخذ اسمه من اسم الطبيب الفرنسي الذي اكتشفه.. أصاب البطل فجعله عاجزًا عن أداء مهام رجولته التي كان يباهي بفحولته فيها، وقد دفعه هذا العجز إلى قتل زوجته دون ترتيب مسبق رغم عشقه الجنوني لها حتى آخر لحظات عمره , وبالتالي دخوله السجن وجريان أحداث الرواية.

 الركيزة الثانية المهمة هنا هي أثر مهنة البطل وهي أمين مكتبة في أحدى المدارس الثانوية وبراعته في فنون المكتبات وشغفه الكبير بالقراءة وحلمه أن يرى اسمه على غلاف كتاب من التي تحويها رفوف المكتبات..

 

قد تتعجبون كيف أثرت مهنة البطل على سلوكياته، سأشرح لكم بالتفصيل.

 

أثرت وظيفة البطل ودراسته على طباعه وعاداته على مدى الرواية فهو إنسان مثقف مغرم بالثقافة والاطلاع واسع المعرفة ويظهر ذلك جليا على سلوكه. إنسان شعاره المحبب لقلبه في الحياة مقولته " عقل بلا قراءة مثل بركة ماء آسن؛ طعم ردئ ورائحة سيئة.. عقل قارئ مثل حديقة غَنّاء، تسرُّ الناظرين وتُهدهِد قلوب المحبين".

هو إنسان يعشق القراءة هاوٍ للعلم يليق به أن يكون وزيرا للثقافة في يوم ما، وهنا يكون السؤال أو على الأصح سؤال الدهشة: كيف لرجل بهذه الثقافة الرفيعة أن يتدهور به الحال ليكون نزيل السجون؟

يظهر لنا جليا أن تلك الجريمة التي زجت به إلى غياهب السجن لم تكن سلوكا إجراميا دفينا، بل كانت حالة طارئة دفعته إليها ثورة الرجولة والكرامة فقد سقطت عينه على مشهد خيانة بيِّن تأباه النخوة والرجولة.

 

ونستطيع أن نجزم أنه محض اضطراب نفسي أصابه ووقع تحت سيطرته بسبب المرض الجنسي اللعين الذي أصابه فجأة فأفقده رجولته وصوابه فقتل زوجته وحبيبة عمره التي يعشقها وندم أشد الندم على قتلها، بل كان يجد لها العذر فهو الذي عودها على هذا الشبق الجنسي الذي لم تستطع أو لم تطيق معه أن تتعامل مع الحالة المرضية الطارئة لزوجها تحت وطأة رغبتها العالية.

 

ونجده في سنوات سجنه والتي تمثل أغلب أحداث الرواية سجينا مختلفا عن باقي المساجين، تأنف روحه ويرفض جسده ممارسة الرذيلة كما يفعل بعض السجناء، بل أنه اضطر إلى ايذاء أحد المساجين والذي حاول دفعه دفعا إلى ممارسة الرذيلة فرفض بشدة محدثا له عاهة مستديمة.

 

تتوالى أحداث الرواية من خلال حديث الذات للبطل الذي يصور معاناته مع هذا المرض اللعين مع تقنية الفلاش باك التي تعرض للقارئ بعض الأحداث التي غابت عنه قبل بدء أحداث الرواية، يتخللها بعض الحوارات مع الأبطال الآخرين.

 

بشأن عنوان الرواية قد يتبادر الى الذهن أن كلمة أشواق تعود الى قصة حب للبطل داخل السجن بينما من يتأمل شخصية البطل كما سلف أن أوضحنا سنجده انسان مثقف من الطراز الأول.

 

ويشي إلينا الكاتب بسر عنوان روايته في منتصف الرواية تقريبا وتحديدا في ص ١٢٨ ويفسر بأن هذه الأشواق هي غرامه ونهمه بالقراءة ليس بحكم وظيفته كأمين مكتبة وإنما كعاشق للكتب، ويفصح أن الهدف من الأدب هو الكشف عن الحقيقة وتحقيق الخير والجمال.

 

قضية أخرى مهمة يطرحها الكاتب وهي العلاقة بين الإبداع والنقد، وهل هناك إجحاف لقدر المبدع؟

أيضا مشكلة تقديس الأدب الغربي أو الأسماء الكبيرة من الأدباء والافتتان بها بما يسمى في علم النفس " عبادة الأبطال"..

قضية أخرى خطيرة يعرضها الكاتب وهي " مسئولية المؤلف عن أفكار شخصياته " فهناك من يقول: فلولا اقتناعه بها ما عرضها في عمله وما قام بتشخيصها.

ولكن من ناحية اخرى فلكي يكتمل النص الروائي أو المسرحي عليه أن يعرض المؤمن والملحد، الخير والشرير، الطفل والعجوز، الفاشل والعبقري، وهكذا كل متضادات الحياة. ففي أي تلك الشخصيات تقبع شخصية وأفكار المؤلف؟

وإن كانت الحقيقة الخفية هي الحقيقة المؤلف هو الفني الماهر الذي ينسج خيوط جميع الشخصيات في نول واحد.

وإذا كانت الأفكار الطيبة سببًا في إصلاح الكون وبعض الأفكار الخبيثة كانت سببا في فساد الكون فهل يعاقب المؤلف؟

هذه بعض الأفكار الفلسفية التي عرضها البطل وهي تنبع من صميم ثقافته الواسعة. وهى على كل حال قضية جديرة بالمناقشة.

 

وتمضى بنا أفكار الرواية فنرى الكاتب يعرض لفكرة جديدة فحواها أن الخيال هو سر الإنسانية؛ فبالخيال قد يسعد الإنسان أو يشقى، كما أن الخيال هو سر الإبداع الأدبي ولولاه لكانت جميع النصوص تقارير اخبارية.. وتزيد أهميته في نصوص الخيال العلمي فالنص هنا استباقي يسبق المكان والزمان ويختلق أحداثا لم تحدث بعد، وانما يتوقع حدوثها، وهذا ورد بالفعل في تاريخ السينما. وهى أيضًا قضية جديرة بالمناقشة الجادة.

 

يتعرض الكاتب أيضًا في مساحة كبيرة من روايته الى عالم السجون وما فيها من سلبيات، فالسجن أو الحبس تعريفه انه عقوبة سالبة للحرية وتنص مواد القانون على مواصفات معينة للسجون وحقوق للمساجين. لكنه يعرض لنا المساحة الخاصة الضيقة التي يعيش فيها المساجين وعدم توفر مواصفات الحياة الصحية من طعام ونظافة بل وسب وإهانة وانتهاكات جنسية، والتساهل الموجود من قبل الإدارة وتغميض عينيها عما يحدث من مخالفات.

 

أيضا انتشار تعاطي المخدرات في السجون، واستعمال البطش والقوة والتعمد لإهانة كل نزيل جديد بهدف كسر عينه كي ينصاع لأوامر النوبطشي.

 

نجد البطل في منتصف الرواية يهتم بجلد الذات يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله

نقطة أخرى تطرق اليها الكاتب وهي نفسية الى حد كبير وهي شعور البطل بالأزمة حين شعوره بأن مرضه نادر وليس له علاج، وسعيه حثيثا للبحث عن العلاج وجلبه وان ارتفع سعره عن طريق محاميه، وشعوره ببعض الأمان حين قرأ في كتب السلف ان هذا المرض موجود منذ قديم الأزل بل ونظم فيه شاعرا من العصر العباسي ـــــــــ زمن المجون والجواري الحسان ـــــ يدعى أبا حكيمة ديوانًا من الشعر، فكان ذلك تعزية لنفس البطل بأنه ليس وحده في هذا الابتلاء العظيم.. كما يقال " إن المصائب يجمعن المصابينا ".

 

يليق بنا أن نطلق على البطل السجين المثقف أو السجين المثالي فهو يبحث داخل الزنزانة في بطون كتب التاريخ عمن يشبهونه ليأنس بهم فيستدعيهم ويبعد عن أولئك المجرمون الشواذ الذين تعفاهم النفس.

 

نجده ذات يوم يلفت انتباهه أحد رفقاء السجن، يمسك برواية اسمها "الجميلات النائمات" للأديب الياباني "ياسوناري كواباتا"، أيقظت أشواق القراءة من مرقدها في صدره. كانت هى المرة الأولى التي يقرأ فيها ترجمة لأديب ياباني، شجعه على قراءتها صغر حجم الرواية وأنه يمكنه قراءتها في جلسة واحدة.

 يرى في ايغوشي بطل الرواية حالة مماثلة لحالته بعد إصابته ببيروني، ربما وجد عنده الحل البديل لكن بشكل مغاير فكل ما وجده ان العجائز ليس لديهم حل سوى بالاستمتاع بتأمل الجمال النائم عاريًا فقط.. وكأن متعة الرؤية البصرية هى آخر مايبقى للإنسان من متع الحياة الجسدية.. وهكذا كانت رواية الجميلات النائمات... صبايا فاتنات مخدرات ممددان كطقس من أداء وظيفتهن في هذا الفندق الخاص بذلك.. وعجائز من كبار السن يتأملنهن.

 

حتى ان دموع البطل سالت عند وفاة ايغوشي رواية كواباتا بطل وحيدا، ربما كان ينعي نفسه. ولم تفتن الرواية اليابانية البطل المصري وحده بل أثارت من اعجاب الكاتب العالمي جابريل ماركيز نفسه فكتب في مقدمتها معترفًا بافتتانه بها وأنه كان يتمنى أن يكون مؤلفها.. بل كانت كتابته أشبه برواية داخل الرواية.

 

لقد أطلعنا الكاتب على شخصيات مثقفة تتمثل في البطل وصديقه قارئ الأدب المترجم والأديب- والذي أدهشنا بوصف حاله وقت الكتابة-واللذان يخلقان جوا موازيا للشخصيات الاجرامية التي تعج بهم السجون.

 

هناك ملحوظة مهمة جدا وهي أن الكاتب يضع قبضة يده على أمور مهمة منها بعض السقطات والتجاوزات الموجودة في الوسط الأدبي والذي ينخدع بها من يجهلها فتكون العواقب وخيمة عليه. كذلك أنه ليس من لديه الحكايات قادر على الكتابة، فهي كنز ومنحة ربانية.

 

هناك بعض الإسهابات النصية في الرواية في مساحة المحلات التي تبيع المعدات والاجهزة الطبية فتطرق فيها الصراع الكامن بين النصائح الطبية والعلاجات وبين الأكاذيب التي يروجها اصحاب هذه المحال وآلية الضغط على الحالة النفسية للمريض الذي يتعلق كالغريق بقشه.

 

أيضا عندما تخيل نفسه كواباتا وأن لديه جميلات مثله فذهب خياله أنه اجتمع بهن في زنزانته، وراح يستعرض ذكورته وخبرته في مجال النساء، ويدلل على معرفته بأنواعهن مانحًا كل واحدة منهن صفة تليق بها.. الوردة الحمراء، والقمر والمتوحشة وزهرة التيوليب والبنفسجة الضخمة والزعفران والغزالة والوردة السمراء ومميزات وعيوب كل منهن وكيف كان يتعامل مع كل واحدة منهن في فوران شبابه الأول.

 رغم كل ما يواجه البطل نجده شخصية متفائلة لا تعرف لليأس طريقا، فهو بعد اصابته بهذا المرض اللعين الذي أصاب رجولته في مقتل فكر في الانتحار، إلا أنه لم يفكر في الاقدام على هذا الفعل حبًا في الحياة.

 

ثم نجده يلجأ إلى جميع السبل الممكنة وغير الممكنة من اجل الاستشفاء؛ نجده في البداية يلجأ للطب والأطباء، ثم يذهب لمحال بيع الأجهزة التعويضية والبديلة، فيشتري جهازا لكنه ما لبث ان اصابه بالتهابات شديدة ولم يفلح البتة بعد ان كلفه آلاف الدولارات فيعرف انه وقع في وكر خداعهم.

 

ثم يلجأ للشيخ الذي يضغط على منبت التدين والصوفية في قلبه ويقنعه من خلال كلمات رصينة ان لديه الشفاء فيصدقه وينبت الأمل في الشفاء في قلبه من جديد. وسار على طريقه واتبع تعليماته وكان في أوج فرحته بأنه قد تعافى ليتكسر الأمل داخله عند اول مواقعة له مع زوجته.

 

ورغم كل المعاناة التي مر بها على مدى الوقت فمازال بداخله الأمل أن يخترع العلماء علاجا شافيا لحالته.

 

أخيرًا يمكننا القول أن الرواية مدهشة ومختلفة وتناقش قضية لم يتعرض لها غيره فهي جديدة في موضوعها وكذا في تكنيك السرد النفسي الذي يحتاج منا وقفات ووقفات.



تعليقات