رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

قراءة في رواية «واد جده» للأديب مصطفى البلكي للدكتورة «حنان إسماعيل»

  • جداريات Jedariiat
  • الإثنين 07 أغسطس 2023, 3:48 مساءً
  • 841

رواية "واد جده" رواية أنثروبولوجية اجتماعية من الدرجة الأولى، تنقل لنا تراث الصعيد بعاداته وتقاليده بدءا من طريقة صياغة عنوانها إلى إهدائها يقول فيه "إلى من قالت لي إن الكلمات في جيوبي" يطيب لي أن تكون هذه الرحلة من نسائم وجودك، وهو ما يتوافق مع مقولته الشائعة "أنا صنيعة النساء"، وإذا تأملنا حروف هذا الإهداء فإنه يرشدنا إلى أن أديبنا حكاء من الدرجة الأولى يولد السرد على كفيه.

جاءت الرواية في 17 فصل على شكل طوق زمني بدأ في عام 2011 وانتهى في نفس العام.

حملت فصول الرواية العناوين  2011، واد جده ١٩٥٢، الأشرار لا يقرؤون، بائع متجول، كاتب مجهول، الحياة على الضفة الأخرى، خنجر، شرفة الموت، يناير ١٩٧٧، سبتمبر ١٩٨٨، جسور معلقة، الجدارية، يوم الحزن ٢٨ سبتمبر، عزف حزين، 8 أكتوبر ١٩٨١، كسر القيد .

جاءت الرواية بلسان البطل واد جده كراوي عليم يُفَصِّل لنا ليس فقط الأحداث والمواقف بل وما يعتريها من مشاعر حزن أو سعادة أو توتر أو إحباط، وما يجول بخاطره من مخاوف وهواجس وتطلعات وخيبة أمل، وهو ضحوك كطفل، بكاء كشيخ . به براءة تجعله دائما محط تقدير ومحبة الجميع .

 وبفضل تعلمه فن الحكي من صغره نمت اللغة بداخله فصار يسيطر على مشاعر من أمامه ويقوده ؛ فصار قائدا للأطفال من صغره، ثم قائدا للصوص ثم قائدا للباعة المتجولين فدرويشا له مريدين وأتباع .

ورغم أنه لص إلا أن ثقافته جعلته راويا فيلسوفا يحدثنا عن الموت وعن الشقاء وعن الحب ويجيد السيطرة على دواخلنا.

بدأ واد جده مستعرضا الأحداث من ثورة يوليو 52 وحتى أحداث يناير 2011.

بدأت الأحداث برجوع بطل الرواية إلى قريته ليسرد لنا بداية حكايته من خلال حوار مع صديقه مصلح ممسكا بكشاف في يده ليسلط الضوء على دهاليز الأحداث والواقع الذي عاش خلاله حياته.

نجد أنفسنا حيارى أمام شخصية واد جده التي دفعته ظروف ولادته ونشأته لأن يكون شخصية معادية للمجتمع الذي جعله كهذا، فبداية أخذ يراقب أحوال الناس وأمورهم، ثم انضم لعصابة وأصبح أهم أعضائها ثم عندما تجئ الثورة ويُؤْمَرُ بأن يصفي أعضاءها ويندرج تحت لواء الحكومة، صورة راصدة للتحولات المجتمعية والتي تتلون شخصية واد جده معها.

وفي جانب آخر يظهر جانب خفي لشخصية واد جده وهو المثقف الشغوف بالقراءة حتى إنه استولى على مكتبة ضخمة قد سرقتها العصابة، وكشف عن جانب آخر للنظام وهو معاداته للماركسية واتهامها بالكفر فطلبوا من واد جده أن يتخلص من مكتبته. بل واعتقلوه، لينقل لنا الكاتب صور النكايات والتعذيب الموجود في المعتقلات من ضرب مبرح واعتداءات جنسية تسحق الكرامة.

 

والأدهى أنهم استولوا على منزله (مقر العصابة) وحولوه إلى قسم للشرطة.

ولم يكن يُهوِّن عليه سجنَه سوى صوت تلك المرأة التي اتخذته بطلا ونادت باسمه وهم يقبضون عليه ويسحبونه إلى المعتقل، تخيَّل صوتَها وجسدَها وأنوثتها التي شبهها بالفنانة شادية فكانت ونيسة له حتى خرج من المعتقل.

وبعد شهور، خرج ليبدأ حياة جديدة بعمل يتناسب مع شغفه وفضوله للمعرفة استأجر عربة يد خشبية ليتجول بها في القرية كبائع متجول واختار أهم سمه من سماته تدل الناس عليه، وهي مكونة من شقين، الأول: كلمات لها لحن موسيقي، الثاني: طريقة الإلقاء والتي تثير الفضول فتجعل الناس تسارع إلى الشرفات لتكشف شفرة هذا البائع ماذا يقول وماذا يبيع؟ وهو سر نجاحه.

ونجح بالفعل ونصبه الباعة الجائلون حاكمًا عليهم .

وبعد فترة، اكتشف واد جده أن حياته مليئة بالأسرار مفعمة بالحكايات فقرر أن يسجلها كبطل أسطوري يروي أسراره. لكن هل للص أن يروي مذكراته؟

تسلل إلى وكر العصابة خلسة والذي استولت عليه الشرطة وحولوه إلى قسم للشرطة، لكنه وحده من يعرف دهاليزه وأسراره، ليلهمه المكان سر الكتابة، وكان له ما أراد، لكنه استلهم فكرة أعظم من كتابة حكايات الناس، فقد جاءته فكرة عظيمة لمحتوى الكتاب وهي كتابة سير اللصوص وحيلهم.

واستطاع أن ينجز مهمته بنجاح عظيم، وذهب إلى القاهرة ليقدمه لأحد المطابع لتطبعه له، وسجل له عنوانا وهو "اتبع لغز الحياة" لكنه نسي أن يكتب اسمه عليه.

ولحسن طالعه سقطت عين أحد ضباط الشرطة الذي جاء إلى المطبعة ليستلم بعض الدفاتر على كتابه فأخذه ليعرضه على قادته، وبالفعل نال كتابه اعجاب الجهات الشرطية، واشتروا جميع نسخه، وقرروا تدريسه لطلاب كلية الشرطة.

في فصل الجدارية نجد انتقالة عظيمة لواد جده من سارد حكاء إلى رسام قدير، يمسك بريشته ويصور لنا جميع الشخصيات التي مرت وأثرت بحياته، ومن منهم كان حاضر الصورة؟ وأيهم كان حضوره ضبابي؟، كانت أكثرهم حضورا راجية بمشاعرها وأنوثتها ثم جده وجدته وقريته والشونة ، وكان أقلهم حضورا هي أمه التي استدعى كلمة جدته أنه يشبهها في أن يخلق لها صورة قريبة، ولأنه صادق مع نفسه رسمها كغريق ، وكتب اسمها أسفل صورتها حتى لا ينسى أن تلك هي أمه، وهو مالم يفعله مع الشخصيات الأخرى.

علاقة واد جده بالمرأة:

كانت علاقة واد جده وطيدة بجدته فهي من تولت رعايته وعلمته الحكي وأشياء أخرى كثيرة، وانقطعت صلته بأمه.

أما العلاقات النسائية في حياته فكانت عابرة وليدة اللحظة فلم يسع إليها ، والمرأة ذات الشعر الأبيض التي تزوجها ثم خانته لكن كتب القاضي براءته لأنه قتلها دفاعا عن شرفه .

إلى أن قابل راجية المطربة الحزينة ذات القوام الممشوق التي جذبته إلى عقلها قبل جسدتها فسكنت روحه قبل قلبه.

لكنه بعد ذلك انتاب التأرجح مشاعره بين راجية وهمت، يحب راجية ويرى في همت شيئا مختلفا، إلى أن انتصرت مشاعره في النهاية، لكنه صدم حين رآها فاقدة للذاكرة وأنها لا تعرفه.

لكنه شعر بالمسئولية تجاهها فاصطحبها إلى بيته ، لكنها انتحرت فصار يسأل نفسه : هل ما فعلته معها هذا صحيح؟

وإذا تابعنا بمزيد من التفصيل فصول الرواية سنجد بعض الفصول ركزت على الأوضاع السياسية في المجتمع آنذاك ؛

واد جده ١٩٥٢

يذيع الراديو بيان القيادة العامة للجيش عن هزيمة حرب فلسطين عام ١٩٤٨ والأوضاع الاجتماعية في ذلك الوقت.

بائع متجول

تعرض لثورة يوليو ٥٢ وحملة الاعتقالات والتعذيب والاعتداءات الجنسية وانتهاكات حقوق الإنسان في السجون .

الحياة على الضفة الأخرى

تناول وفاة الزعيم جمال عبد الناصر والحزن الذي عشش في البيوت إثر فقدانه.

وبعدها انتقالة إلى انتصارنا في حرب أكتوبر ٧٣ وبيان جديد من القوات المسلحة المصرية.

يناير ١٩٧٧

تناول فيه أحداث الشغب وتخريب الممتلكات العامة ضمت كل طوائف الشعب، العمال والطلبة والفلاحين وأصحاب المحلات، نتج عنه هرج ومرج وإتلاف واجهات المحلات وحرق مبنى المحطة وتصدي الجهات الأمنية لهم بإطلاق الرصاص والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجين.

سبتمبر ١٩٨١

تناول هذا الفصل زيارة الرئيس السادات للقدس، وإقصائه لكل الرافضين للاتفاقية، وجمع شتات من لا يمكن جمعهم في مكان واحد من شيوعيين ويساريين واسلاميين وملحدين وكسب عداوات جديدة وقال عنهم دعاة فتنة.

أيضا رصد الفصل لبعض التغيرات الاقتصادية؛ كارتفاع سعر الذهب ليصبح بـ 12 جنيها وارتفاع قيمة الدولار أيضا الذي أصبح بـ ٨١ قرشا، أيضا ارتفاع سعر متر الأرض للمباني. كذلك رصد لحريق القاهرة.

عزف حزين:

يرصد لواقعة العرض العسكري في ذكرى السادس من أكتوبر والحادث الغادر لمقتل الرئيس السادات وهو في منصة العرض العسكري.

2011

تعرض لثورة 2011 والملابسات الاجتماعية آنذاك.

الرواية تاريخية تهتم بالتأريخ للمجتمع المصري، لقد كان عمر الرواية بين ثورتين؛ بما يدل أن المجتمع المصري في حالة حراك مستمر.

هناك سقطة واحدة في الرواية ؛ كيف لا توجد أحداث منذ عام 1981 وحتى 2011 وعلى مدى ثلاثين عاما؟ بينما سرد في الثلاثين عاما الأولى الأحداث والمشاعر والهواجس؟ ربما يكون هروبا من نفسه، أو محاولة لاستعادتها، وربما بسبب تحطيم الجدارية. لكنه عندما عاد للقرية وقابل مصلح وأعطاه رقم هاتف راجية شعر أنه أخيرا وجد نفسه ، لكنها كانت فاقدة للذاكرة.

وفي نهاية مقالي أعترف؛  لقد نقل إلينا واد جده كل هذه الأحداث والملامح والمشاعر وهو في حالة صمت أغلب الوقت، فقط مجرد حديث للنفس، وتحليق بالروح كطائر، فكيف به لو تحدث؟!



تعليقات