ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
أ.د. خالد فوزي حمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..
أما بعد..
فإن مسألة المجاز ووجوده في القرآن أو في اللغة أو عدم وجوده من المسائل المشتهرة المعروفة قديماً وحديثاً، لكن أحب أن أتناول ذلك من رؤية معاصرة، فقديماً قالوا: (مسألة تزوج المغربي بالمشرقية أو بالعكس ثم ولدت الزوجة ولداً يلحق بالأب وإن لم يجتمع الزوجان قط من أبشع المسائل المنقولة عن أبي حنيفة) [غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/453)]، لكني كنت أرى أن هذا المذهب فيه تعظيم للعقد، حيث تشوف الشرع لثبوت النسب، وكما قال ابن عابدين: "وإنما ثبت نسب ولد المشرقي من مغربية إقامة للعقد مقام العلوق لتصوره حقيقة" [رد المحتار (3/ 512)]. ثم وقفت على كلام لطيف للكمال ابن الهمام وهو يفرق بين ثبوت النسب من الصبي، وثبوته من مشرقي لم يلتق بمغربية، فقال: "ولا يعتبر إمكان الدخول بل النكاح قائم مقامه كما في تزوج المشرقي بمغربية. والحق أن التصور شرط، ولذا لو جاءت امرأة الصبي بولد لا يثبت نسبه، والتصور ثابت في المغربية لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيكون صاحب خطوة أو جنيا. [فتح القدير للكمال ابن الهمام (4/ 350)]. ويشير إلى ما تزعمه الصوفية عن صاحب الخطوة، أنه يخطو المسافات في لمح البصر!!
فربما كان من السهل القول بأن قول الحنفية آنف الذكر هو من
المجاز، حيث أرادوا تعظيم العقد والنسب، لكن مع كلام ابن الهمام تبين أنه يمكن
أنهم أرادوا الحقيقة أيضاً.
فماذا في عصرنا، وقد علمنا أنه يمكن نقل ماء الرجل أو بييضة المرأة ويتم التلقيح المجهري؟! هذا فضلاً عن السفر والعودة في نفس اليوم بالطائرات، دون اللجوء إلى ما قالوه من (صاحب الخطوة أو الجني)، فما كان يقال على سبيل المجاز قديماً يمكن تصوره الآن على سبيل الحقيقة.
من هذا المنطلق أحببت أن أعرض هذه القضية وأنا بالفعل أعتقد أنه لا وجود للمجاز مطلقاً في القرآن، بل ولا في لغة العرب، فإن كان بعض من سبق يعتلون بالمجاز في بعض الأمور، لقصور معارف أزمانهم عنها، إلا أنه في عصرنا ومع التطورات في الاتصالات، وعلوم الحاسب، والشبكات، وتقنيات المورفلوجيا، والهولوجرام [المورفولوجيا يعني علم التشكل، والهولوجرام: إعادة تكوين الصورة بأبعادها الثلاثة في الفضاء، انظر في معناهما: موسوعة وكيبديا]، وغيرها، فإننا نجد الكثير صار (حقيقة) مما كان يُظن أنه غير (حقيقة).
لنتخيل معاً أننا في عصر سابق نقول لأحدهم: إنه يمكن التزويج مع المسافات الشاسعة، والجميع يرى بعضهم البعض، أو التقاضي مع وجود المسافات الشاسعة بين المدعي والمدعى عليه والقاضي، فإما يبادر بالإنكار أو يميل إلى القول بالمجاز، مع أن هذه الأمور صارت حقيقة ملموسة نعلمها بل ونعمل بها.
-. إن المجاز يعرفونه بأنه هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له
لمناسبة بينهما، وهو نقيض الحقيقة، ويشترطون وجود القرينة لثبوت المجاز، أما اللفظ
المستخدم بلا قرينة فيحمل على الحقيقة، وقد
درج المتأخرون من المفسرين والأصوليين والفقهاء وغيرهم على استخدام المجاز بهذا
الاصطلاح قسيماً للحقيقة في اللغة، فجعلوا الكلام حقيقة ومجاز
لكن في واقع الأمر فإنه لم يظهر اصطلاح المجاز إلا في العصور المتأخرة عن القرون المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السِمَن).
ومن هنا أنكر بعض العلماء ثبوت المجاز في اللغة، والجمهور
على ثبوته فيها، ومنهم من أثبته في اللغة وأنكر وجوده في القرآن.
وحيث استخدمت بعض الفرق الضالة كالمعتزلة المجاز في نفي صفات الله تعالى الواردة في القرآن الكريم، لذا اشتد نكير العلماء عليهم، وفندوا أدلتهم ومنها (القول بالمجاز)، فمنهم من رآه واقعاً في اللغة والقرآن، لكنه لا يَرد على أبواب الاعتقاد بله باب الصفات، ومنهم من نفى وقوعه فيهما، ومنهم من خص القرآن بعدم وجود المجاز فيه.
يقول شيخ الإسلام: "وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم. وأول من عرف أنه تكلم بلفظ "المجاز" أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه. ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة. وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية؛ ولهذا قال من قال من الأصوليين - كأبي الحسين البصري وأمثاله - إنما تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها: نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز، فقد تكلم بلا علم، فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في "أصول الفقه" لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في "الجامع الكبير" وغيره؛ ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلا في كلام أحمد بن حنبل؛ فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله: (إنا، ونحن) ونحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة يقول الرجل: إنا سنعطيك. إنا سنفعل؛ فذكر أن هذا مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في القرآن مجازا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم. وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز كأبي الحسن الخرزي. وأبي عبد الله بن حامد. وأبي الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين. وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد: إن في القرآن مجازا لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة؛ فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز. إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة وما علمته موجودا في المائة الثانية اللهم إلا أن يكون في أواخرها والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم. قالوا: إن معنى قول أحمد: من مجاز اللغة. أي: مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك. قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له. وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز لا في القرآن ولا غيره كأبي إسحاق الإسفراييني. وقال المنازعون له: النزاع معه لفظي؛ فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلا بقرينة؛ فهذا هو المجاز وإن لم يسمه مجازا.
فيقول من ينصره: إن الذين قسموا
اللفظ: حقيقة ومجازا قالوا: الحقيقة: هو اللفظ المستعمل فيما وضع له. والمجاز: هو
اللفظ المستعمل في غير ما وضع له كلفظ الأسد والحمار إذا أريد بهما البهيمة أو
أريد بهما الشجاع والبليد.
وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعنى ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه وقد يستعمل في غير موضوعه؛ ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم أن كل مجاز فلا بد له من حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز؟
فاعترض عليهم بعض متأخريهم وقال:
اللفظ الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز فإذا استعمل في غير موضوعه فهو
مجاز لا حقيقة له.
وهذا كله إنما يصح لو علم أن
الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان
ثم بعد ذلك استعملت فيها؛ فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال.
وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية فيدعي أن قوما من
العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ويجعل هذا عاما في جميع
اللغات.
وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن
الجبائي؛ فإنه وأبا الحسن الأشعري كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع
عن مذهب المعتزلة وخالفهم في القدر والوعيد وفي الأسماء والأحكام وفي صفات الله
تعالى وبين من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه". [مجموع الفتاوى (7/89 - 91)].
ومما يبين أيضاً أن الصحيح عدم وجود مجاز في اللغة: أنه لا إسناد من عندنا لواضعها يبين أن اللفظة الفلانية كانت لكذا أو كذا، وقد اختلف العلماء في واضع اللغة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فتنازع الأشعري وأبو هاشم في مبدأ اللغات؛ فقال أبو هاشم: هي اصطلاحية وقال الأشعري: هي توقيفية. ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة؛ فقال آخرون: بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي وقال فريق رابع بالوقف. والمقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال: نحن نعلم ذلك بالدليل؛ فإنه إن لم يكن اصطلاح متقدم لم يمكن الاستعمال". [مجموع الفتاوى، (7/91 - 97)].
والقول بنفي المجاز في القرآن هو أوضح وأجلى، وقد حققه الشيخ الشنقيطي في رسالته (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)، وألتقط منها ما يلي: قال رحمه الله بعد أن ذكر القولين في منع ثبوت المجاز في اللغة أو منعه في القرآن خاصة: "والذي ندين الله به ويلزم قبوله كل منصف محقق: أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقا على كلا القولين.
أما على
القول بأنه لا مجاز في اللغة أصلا -وهو الحق- فعدم المجاز في القرآن واضح، وأمَّا
على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن.
وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدا يرمي، ليس هو بأسد، وإنما هو رجل شجاع، فيلزم على القول بأن في القرآن مجازا أن في القرآن ما يجوز نفيه.
ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم.
وعن
طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك فقالوا: "لا يد، ولا استواء، ولا
نزول"، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات؛ لأن هذه الصفات لم ترد حقائقها؛ بل
هي عندهم مجازات، فاليد مستعملة عندهم في النعمة أو القدرة، والاستواء في
الاستيلاء، والنزول نزول أمره، ونحو ذلك، فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق
القول بالمجاز.
مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة الجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل. وطريقُ مناظرة القائل بالمجاز في القرآن هي أن يقال: لا شيء من القرآن يجوز نفيه، وكل مجاز يجوز نفيه، ينتج من الشكل الثاني: لا شيء من القرآن بمجاز، وهذه النتيجة كلية سالبة صادقة، ومقدمتا القياس الاقتراني الذي أنتجها لا شك في صحة الاحتجاج بهما؛ لأن الصغرى منهما وهي قولنا: لا شيء من القرآن يجوز نفيه مقدمة صادقة يقينًا، لكذب نقيضها يقينًا، لأن نقيضها هو قولك: بعض القرآن يجوز نفيه، وهذا ضروري البطلان، والكبرى منهما وهي قولنا: وكل مجاز يجوز نفيه صادقة بإجماع القائلين بالمجاز، ويكفينا اعترافهم بصدقها؛ لأن المقدمات الجدلية يكفي في قبولها اعتراف الخصم بصدقها، وإذا صح تسليم المقدمتين صحت النتيجة التي هي قولنا: لا شيء من القرآن بمجاز، وهو المطلوب. [منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز (1/6-8)].
-. ويمكن أن يقال أيضاً: إن المجاز يعرفونه كما سبق أنه: اللفظ
المستعمل في غير ما وضع له لمناسبة بينهما، وهو نقيض الحقيقة، ويشترطون وجود
القرينة لثبوت المجاز، أما اللفظ المستخدم بلا قرينة فيحمل على الحقيقة، لكن في
واقع الأمر قد نجد (الحقيقة) أيضاً تفتقر إلى القرينة. وثبوت ذلك ينفي المجاز
كلية، وهو ما استشعره الرازي فقال: "فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في
الدنيا مجاز أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع
القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه. [المحصول
(3/15)، وانظر: إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، (1/339)].
وهذا الذي قاله الرازي مستبعداً له هو الصواب في نفس الأمر، كمأ أنه إذا ذكر اللفظ
العام إذا خص منه أفراد يكون حقيقة لا مجازاً لأنه تخصيص [تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية (1/539)]. ومن أشهر من تحدث في نظرية القرائن في العصر الحديث
الدكتور تمام حسان في كتابه اللغة العربية معناها ومبناها؛ إذ قسم القرائن إلى
قسمين: معنوية ولفظية، وبين أن القرائن تبين المعنى المقصود وتحدد المعنى. [اللغة العربية معناها ومبناها، ص191].
وغاية قول من يثبت المجاز في القرآن الادعاء أنه ثابت في
اللغة فيثبت في القرآن، وكلا الأمرين منتقض، أولاً فليس المجاز بثابت في اللغة،
فإنه لا يوجد إسناد إلى واضع اللغة، لنعلم أصل الوضع، وما جرى عليه من النقل، فقد
يكون الأمر بالعكس، كما أن اللغة نقلت على سبيل التراكيب، ولم تنقل على سبيل
المفردات، كما هو معروف في المعاجم، فإنهم يأتون بالمفردة ويقولون تأتي على معان:
منها كذا كما تقول: ويضعونها في التركيب، فكل لفظ فهو حقيقة فيما استعمل فيه
بقرينته، وكما يقوله كثير من الأصوليين في العام المخصوص، فإنهم يجعلونه حقيقة في
الباقي، وليس مجازاً. ثم إنه ليس لهم
إسناد صحيح لواضع اللغة أن كذا وضع لكذا، فلو فرضنا أن أسداً مفترساً وضع له في
حديقة الحيوانات منبر فصعد عليه، (كما يكون فيما يسمى بالسيرك)، فهل يصح عند أهل
المجاز أن يعبر عن هذه الصورة بـ(رأيت أسداً على المنبر)، أو يحتاج الأمر إلى قرينة
تدل على أن المراد الحيوان المفترس، لكثرة استعماله في الرجل الشجاع. ومثال آخر
وهو لفظ (السيارة) الدالة على من يسير كما قال تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، وقوله: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا
وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19]، وهذا الاسم الآن شائع على السيارة المركبة المعهودة،
فقولهم: "الحقيقة ما لا يحتاج إلى قرينة" ليس صحيحاً على إطلاقه، بل كل
من الألفاظ إنما تعرف من خلال التراكيب، ولذا فإن أهل اللغة إنما نقلوا التراكيب،
ولم ينقلوا المفردات، كما هو معروف في المعاجم، وهذا بين، والله أعلم". [انظر
كتابي تقريب وترتيب شرح العقيدة
الطحاوية، (1/539)، وكذا في مناظرتي للخليلي وهي مشهورة في الشبكة]
ثم ثانياً: ليس كل ما ثبت في اللغة جاء في القرآن،
فالمبالغات ثابتة في اللغة، وليس في القرآن منها شيء. ثم قد اتفق العلماء على عدم
دخول المجاز في أبواب الإيمان، لأن ذلك يزعزع الإيمان من حيث كان كل مجاز يجوز
نفيه، ونفي شيء من الاعتقادات خطر على الإيمان كله. وهي نفس الحجة التي أخذها من
ينفي وجود المجاز في القرآن، إذا لا يجوز نفي شيء منه، فهو كله على الحقيقة لا
المجاز.
ومن يثبت المجاز يضع له أنواعاً كثيرة، قال الشنقيطي: "وأما أنواع المجاز عند
أهل البلاغة فهي أربعة أقسام: وهي المجاز المفرد المذكور، والمجاز المركب، والمجاز
العقلي، ومجاز النقص والزيادة، بناءً على عدِّه من أنواع المجاز". [منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز (1/41)].
وقد سبق أن أصح قولي العلماء أن كل الكلام يحتاج إلى قرينة لِيُفْهَمَ، وكل كلام بقرينته حقيقة ولا مجاز فيه.
ولذا لم
يعرف القول بالمجاز في القرون المفضلة الأولى، وهذا الشافعي أول من صنف في أصول
الفقه، "وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة
استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلةَ الشرعية أنه سمى شيئاً منه مجازاً، ولا ذكر في
شيء مِنْ كتبه ذلك لا في الرسالة ولا في غيرها". [الحقيقة
والمجاز، ضمن مجموع الفتاوى (20/403)].
فالخلاصة أن القرائن تدل على
الحقيقة، فكل كلام بقرينته حقيقة، وهو المتبادر للذهن، فمن سمع أن خالداً
سيف من سيوف الله لم يفهم قط أن خالداً صفيحة حديدية، ومن سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس أبي طلحة: (وإنْ وجدناه لبحراً) لم
يتبادر لذهنٍ قَطُّ البحرُ المتلاطمُ الأمواج وما به مِنْ أسماك وأصداف.. كلا،
ولذلك فالقول بأن الحقيقة هي ما يتبادر للذهن يلزم منه في واقع الأمر أن لا مجاز.
-. بقي أن القول بإثبات المجاز أو عدم إثباته: هو نزاع لفظي مطلقاً
ليس دقيقاً، فالنزاع قد يكون من جهة المعنى أيضاً فليس صورياً، فالأسد حيوان
مفترس، ومحمد أسد في المعركة، أي شجاع، ولكن هل يقال كلاهما حقيقة، أو أحدهما
حقيقة، والآخر مجاز؟؟
إن
المجاز صنو التأويل يفتقر عند القائلين به إلى قرينة، وإلا صار عبثاً، وكما يقول
ابن القيم [متن القصيدة النونية لابن القيم ص78]:
يا قوم
ليس نزوله وعلوه... حقا لديكم بل هما عدمان
كذاك
ليس يقول شيئا عندكم... لا ذا ولا قولا سواه ثان
كل مجاز لا حقيقة تحته... أوِّل وزد وأنقص بلا برهان.
لكن لا بد من القول: ليس القول بإنكار المجاز هو قول أهل السنة، والقول بإثباته هو قول المعتزلة والأشاعرة، بل جماعات من أهل السنة أيضاً قالوا بإثبات المجاز، لكنهم إذا قالوا به كان في موضع الاضطرار، وليس كما يقوله أهل البدع بالزيادة والنقصان بالهوى، ولذا قال ابن القيم في النونية:
واشهد عليهم أنهم حملوا النصو .. ص
على الحقيقة لا المجاز الثاني
إلا اذا ما اضطرهم لمجازها ..
المضطر من حس ومن برهان
فهناك عصمتها إباحته ..بغير تجانف للإثم والعدوان.
حتى ظن بعضهم من هذه الأبيات أن ابن
القيم رجع عن القول بمنع المجاز، وهو غلط ممن قاله، فإن ابن القيم في كتاب الصواعق
جعله طاغوتاً، وأبطله من خمسين وجهاً، وإنما قال هذا في النونية باعتبار من قال
منهم بالمجاز كما تقدم، وليس موضع الإشارة هنا كموضع التفصيل والإطناب هناك حتى
نعارض بينهما.
ونفس الكلام نجده في كلام شيخ الإسلام، حيث قال "إن الألفاظ نوعان احدهما ما معناه مفرد كلفظ الاسد والحمار والبحر والكلب فهذا اذا قيل أسد الله وأسد رسوله أو قيل للبليد حمار أو قيل للعالم أو السخي أو الجواد امن الخيل بحرا وقيل للأسد كلب، فهذا مجاز ثم اقترنت به قرينة تبين المراد كقول النبي صلى الله عليه وسلم لفرس ابي طلحة ان وجدناه لبحرا وقوله إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين وقوله لعثمان ان الله مقمصك قميصا وقول ابن عباس الحجر الاسود يمين الله في الارض فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه أو كما قال ونحو ذلك فهنا اللفظ فيه تجوز. [مجموع الفتاوى (33/181)].
فهو في آخر كلامه قال: في آخر
الفتوي: "فإن لفظ استوى لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي - مثلا - على
سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا: كما أن لفظ "العلم" لم تستعمله
العرب في خصوص العرف القائم بقلب البشر المنقسم إلى "ضروري"
و"نظري" حقيقة واستعملته في غيره مجازا؛ بل المعنى تارة: يستعمل بلا
تعدية كما في قوله: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14]. وتارة: يعدى بحرف الغاية
كما في قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11]. وتارة: يعدى بحرف
الاستعلاء. ثم هذا تارة: يكون صفة لله. وتارة: يكون صفة لخلقه. فلا يجب أن يجعل
في أحد الموضعين حقيقة وفي الآخر مجازا. ولا يجوز أن يفهم من استواء الله
الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق؛ كما في قوله تعالى {والسماء بنيناها بأيد}
[الذاريات: 47]، وقوله تعالى {مما عملت أيدينا} [يس: 71]، وقوله تعالى {صنع الله
الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]، وقوله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور} [الأنبياء:
105]، {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} [الأعراف: 145]، فهل يستحل مسلم أن يثبت
لربه خاصية الآدمي الباني الصانع الكاتب العامل؟ أم يستحل أن ينفي عنه حقيقة العمل
والبناء كما يختص به ويليق بجلاله؟ أم يستحل أن يقول: هذه الألفاظ مصروفة عن
ظاهرها؟ أم الذي يجب أن يقول: عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه:
فعمله وصنعه وبناؤه؛ ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم. ونحن لم نفهم من قولنا: بنى
فلان. وكتب فلان: ما في عمله من المعالجة والتأثر إلا من جهة علمنا بحال
الباني؛ لا من جهة مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته
إلى الفاعل المعين. وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع
اللبس في كثير من هذا الباب. [مجموع الفتاوى (33/186)].
فحاصل كلامه أن القرائن تمنع الحمل على المجاز دون الحقيقة، فليس في كلامه إثبات للمجاز كما زعمه من فهم كلامه غلطاً.
وأختم بالقول: إن الزعم بثبوت
المجاز لا يخلو من عدة محاذير:
-. منها: أن القرآن نزل بياناً، وينافي ذلك
البيان التام القول بالمجاز، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
[القيامة: 19]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]،
فما يجوز أن يكون البيان التام مفتقراً لآراء المجازيين. وإلا لكان فيه اتهام
الشارع بنوع نقص في الإفهام والبيان، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا
بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (*) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (*) ثُمَّ لَقَطَعْنَا
مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46].
-. ثم الأصل في كل النصوص حملها على الظاهر
وهذه طريقة الصحابة، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنهـا مرفوعاً: (إن الجنة لا
يدخلها العجز) [أخرجه ابن جرير]، فقد ارتاعت المرأة لأنها حملته على الحقيقة، ولم
تنتبه للتنشئة الأخرى. وكذلك لما ذكر النبي الدجال للصحابة قالوا له: (قلنا يا
رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة
وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم
؟ قال لا اقدروا له قدره) [أخرجه مسلم]، فحملته الصحابة على ظاهره من أنه يوم،
وأمثال هذا كثير.
ومفسرو السلف حملوا كذلك النصوص
الكثيرة على الحقيقة، حتى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]، فعن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: (ياقوم
ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) إلى قوله: (فكذلك ألقى السامري) [طه: 86-87] . فألقى
موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه (قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي
إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) [طه: 94] . فترك هارون ومال
إلى السامري، ف (قال فما خطبك يا سامري) إلى قوله: (ثم لننسفنه في اليم نسفا) [طه:
95-97] ثم أخذه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجري يومئذ
إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه
خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) [البقرة: 93].
[تفسير الطبري (2/74)]. وكذلك قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل
عمران: 143]، فعن عباد ابن منصور قال: سألت الحسن عن قوله: ولقد كنتم تمنون الموت
من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه قال: فقد رأيتم القتال، وقاتلوا الآن. [تفسير
ابن أبي حاتم (3/776)].
بل كل ما ذكروه أنه من المجاز وجدنا
له تفسيره على الحقيقة، وبسط هذا يطول جداً. بل لو قيل في بعضه بالتفسير باللازم
لما كان هذا من المجاز أيضاً.
وأقول لماذا نلجأ للقول بالمجاز
أصلاً، في حين لا يوجد (مطلقاً) حاجة له فما الداعي للقول بالمجاز أصلاً؟ بل القول بالمجاز يفقدنا الكثير مما نحتاجه
من المعاني الرائعة التي تدل عليها الكلمة. فإن كان ثمة أعذار عند بعض العلماء
للقول بالمجاز سابقاً، فلا تبقى هذه الأعذار في عصرنا، بل القول بالمجاز يفتح
عليناً أبواباً من التأويل العقدي لا يعلم مداه، فإن القول بالمجاز صنو التأويل.
ثم إن القول بالمجاز هو اجتهاد بشري في تأويل كلام الله تعالى، فهو تعبير بالرأي عن النص، إذن هو تفسير بشري، فهو قاصر، في حين أن حمل النص على الحقيقة يزيد في المعاني الجمالية لمن أمعن النظر وفتح الله على قلبه.
وأخيراً؛ فمن أهم الكتب التي تناولت منع وجود المجاز في اللغة أو في القرآن خاصة؛ الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المرسلة لابن القيم، ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشنقيطي، فليراجعها من شاء. والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه:
أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة
الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا