ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
عادة.. أتريث
قبل أن أقدم على تصفح ما تكتبه أستاذتنا الكبيرة "أ. نهى الرميسي".. وأهيئ
نفسي لجولة شيقة من القراءة والاستمتاع .. فلا شك إني مقبل في كل مرة على وجبة
أدبية دسمة بها ما لذ وطاب من فنون الأدب سردا وشعرا، وغير ذلك.. استعراض لغوي
متقن.. كأن اللغة طوعت لها نفسها، وبلاغة تندفع من وجدانها الشاعر الموهوب.. كأنها
ملكت ينابيع علم المعاني، والبيان، والبديع لتنهل منها كما تشاء، وقدرة هائلة على
الوصف الدقيق للأشياء.. تجعلنا نرى رأي العين بكلماتها أدق التفاصيل، وتتبع مذهل
للتطور التفاعلي للمشاعر الإنسانية مع أي موقف.. فنشعر وكأننا نرى الشخوص على
الورق تتنفس وتتحرك وتثور وتسكن وتنجذب وتبتعد وتحب وتكره وتضحي وتنتقم.. إلخ..،
وأمانة علمية تميزها عند تقديم أي معلومات علمية أو تاريخية.. فتخضعها أولا
للتوثيق.. ثم تقدمها على طبق أدبي بليغ من ذهب.
الحقيقة أنا حين
أقرأ لها أنبهر.. أتعلم.. أتذوق جمال الأدب والتأدب.. بل وأحيانا أتوقف عدة ساعات
عن القراءة حتى لا أفقد مذاق ما قرأته بغيره..
صدقت أستاذتنا..
حين قالت:- "أن العمل الجيد يفرض نفسه والرديء حتما سيختفي".. ولا أدري
أهي "المبروكة" .. أم مجموعتها القصصية.
*أبهرتني بداية من
"الإهداء".. فقد تغزلت في زوجها المحترم الإعلامي الكبير "أ. عادل
الخربوطلي" غزلا صريحا صارخ البلاغة وأخبرتنا عن علاقة بينية رائعة راقية
"بكلمتين فقط".. حين قالت:- {"وإلى من يناديني (قمري) وهو لا يعلم
أنه (شمسي)"}.
*ثم زادتني "المقدمة" انبهارا
من تلك الثقة في قدراتها الأدبية وفي ما كتبته خلال سنوات عمرها.. بعضها قبل 30
السنة من النشر.. حين قالت:- {"كلما أمعنت القراءة فيها، أجد كل نص من نصوصها
على حاله، مقطوعة محكمة السبك"}.. يالها من ثقة!
*تقول:- {"كان يسير بجوار القصر
المنيف يسير بخطوات ثقيلة ممتلئة بالرمال والتلال والسنين، حتى أن قدمه حين تطأ
ثرى الأرض يشعر وكأنه طائر الرخ يحط إلى مهبطه بعد السفر الطويل، وحين يرفعها
ويدفعها للأمام تستغرق تلك الدفعة سنوات، تستطيل معها لحيته وأظافره، وتنهك قواه
فيبدو كالقادم من الزمن البعيد"}.. حقا إبداع؟ فقرة صغيرة عن "القصر ومن يسير بجواره"
ولكنها كافية لإثارة الفضول لمعرفة تفاصيل القصر العجيب، وتطور مشاعر السائر
بجواره وأفعاله العجيبة مع القصر.. منذ أن {"انتابته رغبة غريبة، لكنها قوية
وملحة، رغبة في تسلق السور"}.. وحتى {"جلس صاحبنا في صدر المجلس على
الكرسي الفخم العريض، يداعبه أول ضوء للنهار يرفرف خلف زجاج النوافذ، فأطلق ضحكات
عالية ارتجت لها جنبات القصر"}.
*الطفلة مبروكة {"ترى في وجهها
طفولة تعاند قسوة الحياة فيأبى الشقاء أن يتركها إلا بعد أن يطبع على وجنتيها
تجاعيد عمر لم تعشه"}.. سؤال فلسفي مستحق {"لماذا ينجبون
"الفقراء".. أطفالا في ظروف قاسية ليهلكوهم؟! تجيب:- {"مؤكد أن هؤلاء طحن الفقر عظامهم،
ودك معها مشاعرها.. فلربما هم يتكاثرون بفعل الغريزة البشرية، ولكن.. هل منعهم فقرهم
من أن يشعروا ويفوا ويصدقوا ويحبوا؟"}. وتناقش مناقشة علمية بأسلوب أدبي رائع
بذكر علم "اليوجينيا Eugenics" وهوعلم تطبيق أساليب ومفاهيم الانتقاء على الإنسان، ووسائل تحسين
خصائصه الوراثية.. ومنها حتى ما أقدم عليه "هتلر" بالتخلص من الضعفاء
والمرضى والمعاقين.
الشابة مبروكة
{"جميلة على نحو خاص جمالا لا كالذي نعرفه وإنما هو جمال الهالة النورانية
التي تحمل الإنسان من ماديته وتحلق به عوالم رحبة شفافة تسمو على كل
الاشياء"}. علمتها فعلمتنا أن {"الحب .. أن ترتاح لأحد الاشخاص فتفضله
على غيره من الناس حتى تكون مستعدا لأن تعطيه أغلى ما تملك"}.
*أفضل ما في الحياة هو التعلم.. كل
المخلوقات تتعلم من بعضها البعض بشرط أن يكون المعلم لديه علم.. {" تعلمت منه
الكثير.. اعتاد هو أن يتحدث إليّ وعودني الشغف بعلمه لأستزيد"}.
ومهما كانت
الشجاعة فهناك المفزع المرعب.. {" أنا الذي لا أخشى شيئا في هذه الحياة..
فلطالما أفزعني بالكلام عن ..، ..، وغيرها الكثير من الأسلحة النارية."}..،
{"حدثني أنه رأى الخنجر المسموم في يد صاحب القضية، وسألني: ترى في ظهر من
يغرس خنجره؟ يغرس خنجره المسموم في ظهر أنصاره!"}..، ماذا أصاب البشر؟..
{"لقد صنع أجداده الخنجر ليصيب قلب الأعداء في المواجهة، لكنه طوره ليصيب
الأصدقاء من الخلف"}. وماذا حل بالقضية؟.. {"مات الأحبة
والصحاب؟"}..، ماذا بعد؟ {"أتت الحرب في بلاده على الأخضر واليابس،
فأصبح بلا مأوى ولا وطن؟ أذاقه العدو الغاصب مرارة الذل والتسول
والهوان؟"}..، وماذا حل بالقضية؟.. {"القضية يا قوم أنه لم تعد لديه
قضية، كل الحوادث هانت لديه"}. ولدوا وماتوا والعدو لم يفهم معنى غصن
الزيتون.. ولم يهتم {"خمسة منصورين ولدوا خلف حجر، وماتوا وفي يدهم حجر، كم
قذفوا بقلبي صوب الجندي المتدرع بأصوات اللوبي المتربص في حلق العدل؟"}..
الكلب فهم لكن {"إنه مجرد كلب ينبح"}.
*ماذا حل بأهل القرية؟ {"لقد ملأهم
القحط حنقاً، وزادهم القهر شحناءً وبغضاءً وتدابرا وتحاسدا وعجزا"}.. وما قول
الظالم؟ {"اختلفوا كما تشاؤون.. اخطفوا الأقوات واهتكوا المصون.. اسحقوا
ضعيفكم كما تفعلون.. اشربوا بإذني نهر جنون.. إن زدت قهرا.. أرقت نهرا.. أو قلت
أمرا فهو يكون.."}..، الحلم جنون أم المجنون من حَلَمَ وسَرَقَ؟:- {"لقد
قتلتم أحلامكم وأمالكم، أما أنا ما زلت أحلم أيها المجانين..، هل منكم من
يجرؤ؟"} .. {هل منكم أسعد مني.. "لولا الجوع؟"}.
*الصراع النفسي بين رغبة أن {"أفر
من هذا الموقف كله"} ورغبة {"ملحة في أن أقترب حتى أتلاشى في غيابات
الجب السحيقة"}..، {"قابلتها.. صفعتني بنظراتها..، فصافحتها مدركا أن
أمواج الشوق العاتية إلى ذلك المجهول لم تكن سوى "حلم الأبدية"}.
*تعلم اللعبة؟.. {"نجح في الإمساك
بطرف الخيط، ورص كلمات الإطراء والمديح، وكيف يضغط على بعض الكلمات، وكيف يقف هنيهة
عند بعضها، وكيف يرفع طبقات صوته عند الأخريات"}..، {"وكيف يتفننون في
تطويع اللغة وألفاظها، وكيف يتحكمون في تحريك قسمات وجوههم لتوافق تعبيرات
الكلمات.. وكأنها راقصة ماهرة تتلوى على إيقاع تدربت عليه لسنوات"}..
{"لكن الحوائط لها أذان"}..، {"سيادته كذاب وأنا أنافقه"}.
*الحدود والقيود.. {"الحدود تخلق
الجمال، فالجمال المحسوس دائما محدد في حيز من الفراغ،.. والجمال المنظور.. أيضا
محدود"} ..، {"إذا عجز العقل عن التفكير.. فعلى الجسد أن ينطلق"}.
{"إذن هل حان الوقت لكي أنضو كل أرديتي، وأبدي الوجه المتخفي خلف كتلته بصفائه
ونقائه وفرط نرجسيته؟ سأسطح كل إرهاصات النفس المضنية وأترنم بأحلام اليقظة
السافرة"}.
*قزم تحدى شجرة الصبار!. {"من نصبه
صيادا؟ لا أحد سوى بندقيتهّ.. وكلما أصاب الهدف امتلأ زهوا وغرورا، وغصن الصبار
يقف شامخاً لا يضعف ولا يلين، كان يتحمل فظل صامداً، وكلما زاد صبره أغرى القزم
بالمزيد فأسرع في رميه بالطلقات المتتالية، وفي لحظة سقط الغصن العريض الثقيل
الممتلئ بالأشواك عليه، فأرداه قتيلا"}.
*الموت.. {"لا بد من حمل الأمتعة
ولملمة المشاعر المبعثرة فلا مفر من الرحيل"}.
*حبي وحبكم.. {"إن حبكم.. لمحض
ثورة من غريزة، وإنما تشعلونها بالشراب الذي لا يجنحكم بل يثقلكم، فأما حبى شوق
روح، إنه نداء قلب لقلب"}.
*لحظات قتل.. بلغة راقية.. {"استقر
حول عنق وردة فحلق يده حول جيدها الذي طالما ارتاحت عليه يداه، وهدأت حوله حيرته،
ضغط على عنقها بكل قوته التي استمدها من قوة حبه وشدة غيرته حتى شعر أنها أصبحت
جثة هامدة"}.
*حقا هرم مقلوب.. {"أنتم ناويين
تجننوني، أتريد أن تفهمني أن هناك ثواباً وعتابا وسط هذا النظام المقلوب؟ وأن
الأمور منضبطة جدا عندكم لدرجة أن التأخير تحاسب عليه؟"}.
الحديث سيطول..
فـالمجموعة القصصية "مبروكة" وجبة أدبية رائعة راقية.. باقية.. وأقل ما
يقال عنها.. إنها بحق.. تؤكد ما ذكرته أستاذتنا عن نظرية "البقاء للأجود،
وطرد الساحة للفن الرديء".
فهنيئا للقارئ
هذه المجموعة القصصية الرائعة "مبروكة".
وتحياتي وتقديري
للكاتبة والناقدة والإعلامية الكبيرة "أ. نهى الرميسي" على إبداعها
المتأنق.. وننتظر منها المزيد.