ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
من عدة سنوات سألني أحد الشباب على أحد مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت عن حركات وهيئات الصلاة، لأنه يراها عبارة عن حركات غريبة: قيام وركوع وسجود، من وجهة نظره، فكان يسألني كيف يطلب الله ممن يريد عبادته أن يفعل هذه الحركات الغريبة!
والحقيقة أن هذا "الاستغراب" سببه أن السائل لا يدرك ما في هيئات الصلاة وحركاتها من معانٍ إيمانيةٍ تنعكس على القلب، في الوقوف بين يدي الله في خشوع، والسجود والركوع له في خضوع وتسليم، وتدبر معاني الآيات والأذكار والأدعية، فعندما تقرأ الفاتحة وآياتها يقف قلبك عند معاني الآيات وانعكاسها على قلبك وروحك، وعندما تقول: سبحان ربي الأعلى! أو سبحان ربي العظيم! تستحضر علو الله وعظمته وجلاله وعزته، وعندما تقول: سمع الله لمن حمده! تستحضر نعم الله وأفضاله عليك ووجوب حمدك له وشكره عليها، وهكذا.
ففي حركات الصلاة معانٍ تنعكس على القلب والروح، في الوقوف بين يدي الله منكس الرأس ويديك على صدرك في خشوع، فهذه الهيئة تحمل معاني الخضوع والاستسلام بين يدي الله عز وجل، كذلك في الركوع والسجود وغيرهما. وبخلاف الحركات هناك ما ينتاب المؤمن الخاشع من أحوال قلبية جليلة من الأنس بذكر الله والبكاء والتضرع من خشية الله، والتلذذ بالقرب من الله! فهذه الأحوال القلبية التي من المفروض أن نعيشها أثناء الوقوف أمام الله جل وعلا في الصلاة. لكن الإنسان اللاهي المنشغل بالدنيا حتى شغلت تفكيره واستهلكت عقله وقلبه، فلم يعد هناك مكان في صلاته لهذه المعاني والأحوال، فإذا صلى كانت صلاته بلا حياة ولا قلب ولا عاطفة، يردد كلماتها بلا تأثر، ويتنقل بين هيئاتها بلا روح! فالإنسان الذي يعاني من هذا الجفاف الروحي الشديد، لا تكون صلاته فعلا إلا عبارة عن كلمات جوفاء ترددها الشفاه، وحركات غريبة تقوم بها المفاصل والعضلات!
لأجل هذا لا يستشعر الشاب لذة العبادة، وحلاوة الإيمان، والوقوف بين يدي الله، والأنس بذكر الله، والبكاء من خشية الله، وغيرها من المشاعر، فتكون النتيجة أنه يبحث عن اللذة والمتعة في غيرها، من لذة إلى لذة، ومن شهوة إلى شهوة، حتى يستهلكه تمامًا طريق البعد عن الله، وعندها لا يكون الانحراف الفكري عسيرًا، لأنه ناء وابتعد، وليس لديه ما يخسره في دينه، لأنه لا يرى في الدين الإشباع الروحي والعاطفي المطلوب، فيسعى للبحث عنه بعيدًا عن الدين، في الشهوات المحرمة، وفي الأفكار المنحرفة التي تبرر هذه الشهوات، مثل: الإلحاد والليبرالية والحرية الجنسية.
وقد يؤدي هذا الجفاف الروحي والصقيع العاطفي إلى بحث الإنسان عن ارتواء الروح ودفء العاطفة وسعادة القلب واطمئنان النفس في البدائل، مثل: العلاج بالطاقة، والفلسفات الشرقية، والإلحاد الروحي!
فهذه كلها طرق تؤدي بالمرء إلى الوقوع في فخاخ الانحرافات الفكرية الوافدة، وكلها تبدأ بالجفاف العاطفي والظمأ الروحي الذي يعود في الأصل إلى فشل الإنسان في استحضار المعاني القلبية والإيمانية في عباداته.
لهذا أنا لا استغرب كثيرًا عندما أجد من يواظب على الصلاة في المسجد مثلاً، وهو يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة، أو يأكل أموالهم بالباطل! وقد تجد علامة الصلاة في جبهته مثل ثمرة الكمثرى وهو قد أكل حق أخواته البنات في الميراث! فالعبرة ليست فقط بأداء الصلاة، بل بإقامة الصلاة في محراب النفس، واستحضار معانيها، وأن يجد المرء أثر ذلك في نفسه وقلبه وروحه وإيمانه، ثم ينعكس هذا على سلوكه، وهذه حقًا هي الصلاة التي تسمو بصاحبها وتهديه وتنهاه عن المنكرات، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} ، قال أبو العالية: ((إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله. فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه)) .
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا يحرمنا من نعمة الوقوف بين يديه، ونعوذ به من عين لا تدمع، وقلب لا يخشع، ودعوة لا يستجاب لها!