عزة عز الدين تكتب: «بوانسيانا».. حكاية من فصلين

  • عزة عز الدين
  • الأحد 16 أبريل 2023, 04:27 صباحا
  • 469

بداية "الألفينات" تقريباً اشترينا شقة في إحدى المدن الجديدة، مدينة جميلة هادئة، كانت على الطريق العام، الذي تطل عليه الشرفة، أما باقي النوافذ فعلى حدائق نسقها مهندس زراعي محترف، وجمَّلها بالزهور وأنواع شتى من الأشجار، أغلبها شجر "البوانسيانا" بألوانِها المختلفة الأحمر والروز واللافندر،  انبهرتُ بالمكان وأقنعتُ أسرتي بالانتقال للمعيشة في الشقةِ الجديدة، عانيتُ وقتها كثيراً من نقل أولادي من مدارسهم إلى المدرسة الجديدة في المدينة  "بنت الشاطئ"، وأخيراً نجحت بعد مشقة في تسكين أولادي، وبالقطع كان إقناعهم بالانتقال من مدرستهم إلى مدرسة أخرى هو الأمر الأصعب.

 

انتقلنا واخترتُ غرفتي على أساس البوانسيانا أسفل النافذة، لم ترق لي الغرفة ذات الشرفة على الطريق العام، ولا الغرفة الأخرى، هي غرفتي التي أفتح نافذتها فتقع عيني على الأشجار الملونة التي اكتست بالبهجة،  كنتُ أظن أن هذا الهدوء والجمال والتنسيق الباهر لكل شيئ، أشياء وحدها  تجلب الاستقرار النفسي بل و السعادة.

 

 بدأ أولادي يعتادون مدرستهم الجديدة، ولكنهم افتقدوا الصحبة، افتقدوا الأصدقاء الذين بدأوا معهم منذ أعوام من مرحلة "رياض الأطفال" وكانت مدرسة أولادي واحدة أيضاً منذ البداية، راهنتُ على اندماجِهم في "بنت الشاطئ" وحياتِهم الجديدة،  ثم انتبهتُ أنني أيضاً افتقدتُ جيراني في سكني القديم،   هنا في هذه البناية أربعة بيوت فقط هي العامرة "على ما لاحظت"، منهم بيتي، الباقي شقق مقفولة.

 

  لم أنتظر كثيراً، بادرتُ بطرق الباب على جارتي في الطابق الأسفل، وكنت قد لمحتها من الشرفة تضع ملابسها المغسولة على الحبال، ثم تقف دقائق لا تزيد وتنسحب إلى الداخل.

طرقتُ بابَها، فتحتْ واستقبلتني بابتسامة ودعتني للدخول وقالت" انتِ جارتنا في الشقة الي فوقينا"  ابتسمتُ وقلت نعم،  كانت تصغرني ببضع سنوات و لم تتزوج، ثم خرجت أمها من غرفتها، رحبت بي، وبدا لي أنها تعرفني أيضاً، ولكني كنت الأكثر إقبالاً فبادرتُ بالتواصل، تعرفنا ودعوتهم لزيارتي.

 

وعند خروجي للعودة فتح باب الشقة المقابلة رجل بدت ملامحه ليست بالغريبة عليّ- أبداً- ولكني لم أعرفه،  ألقى تحية السلام فأجبتُ وصعدتُ إلى شقتي.

 

الشقة الرابعة كانت في الدور الأرضي، أمر عليها كثيراً في ذهابي وإيابي، لها شرفة بحديقة مستقلة، تجلس فيها دائماً امرأة باشة الوجه، من عمري تقريباً، ولم أتردد في مبادرة جديدة، أقبلتُ أيضاً وزرتها، لن أنسى فرحتها و حفاوة استقبالها وكرمها " أسعدها الله حيث كانت"، أبدت ريهام ضيقها من الوحدة وكيف أن الناس هنا عازفة عن التعارف رغم قلة الشقق السكنى وحاجة الجميع للتفاعل في مدينةٍ واعدة، يتحسس قاطنوها الحياة من جديد، قررتُ أن أجمع ريهام وأماني ووالدتها ودعيتهم لنزهة، المدهش أنهم قبلوا الدعوة بمنتهى الحماس، وتعجبت لماذا لم يلتقوا ويتعرفوا ويستأنسوا بجيرتهم من قبل، كل طرف ينتظر المبادرة من الآخر، ونسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورثه".

 

استمتعنا جدا بالنزهة، وانشغلت بجارتي التي لم تتزوج بعد وقد تقدم بها العمر، وتذكرت جاري الذي أعرف ملامحه جيداً، في حديث عابر مع ريهام عرفت أنه خريج تجارة عين شمس ولم يتزوج بعد، يسكن وحيداً، هو قال ذلك لزوجها، فعصرتُ ذهني حتى تذكرتُ أنه بالفعل كان زميلي بالكلية وربما ذات الدفعة،  وانشغلتُ بفكرة لم لا يتزوج أماني وهي في الشقةِ المقابلة، وتناسبه من كل الظروف حسب ما عرفت،  لم أجرؤ طبعاً للكلام معهم في هذا الموضوع الحساس، ولكني اجتهدت أن أجمعهما في " الطرقة" ببعض الحيل "المتحفظة جداً" بعد أن ذكَّرته ذات لقاء مصادف بالزمالة القديمة وتبادلنا حديثاً عابراً كانت معي فيه ريهام وزوجها.

 

تعلق بي جيراني، أحبوني وأحببتهم، وفي نهاية العام تحققت نبوءتي و تزوجت أماني جارنا وانتقلت لشقته المقابلة، كنت معها أنا وريهام تماما كأختين يزفان ثالثتهما، وكان هذا الحدث هو نهاية إقامتي.

 

 قررت أسرتي بالإجماع العودة للسكن الأصلي، حيث افتقد أولادي الأصدقاء والمعلمين ولم يجدوا البديل الأنسب في "بنت الشاطئ"، تحملتُ نفس المعاناة في نقلِهم مرة أخرى لمدارسهم، وحزمتُ حقائبي وودعت جيراني الجدد الذين تعلقت بهم، وكان عزائي أن خلقت لهم قبل عودتي حالة ألفة مفقودة، وأني سأعود لجيراني الآخرين الذين عاشرتهم بكل ود سنوات أطول.... فقط أفتقدتُ البوانسيانا أسفل نافذتي، طالما جمعتنا مناجاة وحفظت في ورودها بعضاً من أسراري، أزعم أنها حافظت عليها، وهي لا تزال راسخة أسفل نافذتي.

 

 وللحكاية بقية

في الفصل الثاني

تعليقات