د. علي الروبي يكتب: الشريعة وحرية الإبداع!

  • أحمد عبد الله
  • السبت 11 مارس 2023, 06:31 صباحا
  • 518

الشريعة وحرية الإبداع

بين الفينة والفينة يتكرر السجال والجدال في قضية العلاقة بين الشريعة وحرية الإبداع؟ وهل يسوغ أن يكون للدين والشريعة سلطة على إبداع أهل الفنون والآداب؟ أم أنه لا بد للمبدع أن يسترسل مع فنه وإبداعه بلا قيد ولا رقابة ليبلغ الغاية فيه؟

وبطريقة أسهب وأوضح:

هل نقول إن للشريعة أن تحد أو تحول دون ظهور بعض الإبداع الفني إذا كان مخالفاً للدين والشرع؟


أم نقول إن طبيعة الإبداع ومنزلة الفنون في الحضارة الإنسانية = توجب استثناء أهل الإبداع الفني من الرقابة الشرعية على إبداعهم؛ لأن تقيدهم بأُطرٍ شرعية وأخلاقية قد يحول دون ظهور إبداعهم على وجهه الكامل؟ وكما أننا متفقون على أن الإبداع لا يجب أن يتقيد أو يخضع لمؤثر سياسي أو عُرفي= فكذلك لا يجب أن يخضع لمؤثر ديني شرعي، وأنه لا بد للمبدع أن يكون حراً طليقاً متخلصاً من كل سلطة، متحرراً من كل قيدٍ وإملاءٍ؟

والجواب عن هذا السؤال يقتضي منا أن نكون على علم بطبيعة دور الدين في حياتنا، وعلى علم أيضا بطبيعة الإبداع ودوره في حياتنا.



فأما الجهة الأولى: فهي موقع الدين والشرع عندنا، وما هي منزلتهما في نظرنا؟ وقبل ذلك: ما هو مصدرهما؟

فإن كنا ننظر للدين والشرع على أنهما مجرد مكتسب أخلاقي روحي جميل وحسن، لكنه غير خارج عن دائرة الصواب والخطأ، ومن ثَم التقييم والاستدراك= ففي هذه الحالة لا ينبغي للدين والشرع أن يكون لها سلطة على الإبداع أو غيره من شئون الحياة إلا بعد أن تقطع عقولنا ويتحقق اتفاقنا على أن ما جاء به الدين هو الحق في تلك القضية المعينة.

وهذا ما نفعله مع عاداتنا وتقاليدنا، فإننا نقيمها ونجدها أحيانا ما تكون صائبة ويكون الحق في اتباعها والسير عليها، وأحيانا أخرى يكون الصواب مخالفتها وعدم الانصياع لما تقرره. وأحيانا ما تكون العادات والتقاليد مُلزمة لأهل بقعةٍ ما، أو لأبناء طائفة عرقية ما، فهم يلتزمون بها ويتحرجون كل التحرج من الخروج عليها، بينما يرى غيرهم أن التقيد بها والنزول عند مقتضياتها= جمودٌ ورجعيةٌ وظلمٌ للنفس أو للغير.



وأما إذا كنا نؤمن بأن الدين وحيٌّ من عند الله لا يتطرق إليه الخطأ أو الحَيف، وأنه من لدن حكيم خبير، قد خلق الخلق، وأنزل إليهم شريعته لتكون قانون حياتهم= فعندئذ فالواجب علينا جميعا أن نخضع للدين والشرع؛ لأنه ما دام الدين والشرع حقا= فالخروج عن الحق ضربٌ من الباطل، وما دام الدين والشرع عدلاً= فالخروج عن العدل ضربٌ من الظلم.

وإن هذا الشرع المنزل من عند الله لم يجعل لحملته ومبلغيه ومفسريه أي مزية عن غيرهم من جهة ضرورة الالتزام بالأمر والنهي والحلال والحرام وعدم الخروج عن حدود الشرع وأوامره، بل ألزم الجميع بالانضواء تحت لوائه، ووصم الخارج عن الشريعة الحائد عنها بالضلال والزيغ.


 فإذا كان كذلك فكيف يقال: إنّ من امتلك موهبةً ما فإن ذلك يخوله أن يعلو على الشريعة ويزعم الارتفاع على عموم الناس، ويقرر أنّ للشريعة أنْ تحد من حريات وتصرفات كل أحدٍ إلا هو؛ وأن قانون الحلال والحرام يطبق على الجميع إلا عليه لأنه مبدع وصاحب موهبة؟!



وأما الجهة الأخرى، فهي جهة النظر فيما يتعلق بالإبداع وموقعه في حياة الناس؛ فنقول:

 إن الإبداع لا يخرج عن كونه سلوكاً أو نشاطاً إنسانياً لا يمكن وصفه بالخير المطلق أو الشر المطلق، بل يعرض له الخير والشر، وقد يختلف الناس في تقييمه، كما قد يختلفون في الدرجة التي ينبغي أن يبلغها العمل ليصل إلى مرتبة الإبداع؛ وعليه فالسلوك الإبداعي لابد أن يخضع لمقياس الضمير الإنساني والناموس الشرعي، مثلما يخضع للمقياس الجمالي والفني لدى الإنسان من أجل أن يكتسب صفة الإبداع.


ومتى ما كان الأمر كذلك= فالإبداع كغيره من سائر سلوك الناس تكتفي الشريعة فيه بمراقبة الضمير الذاتي ما دام متعلقاً بصاحبه فحسب، فالشريعة- مثلا-  تحرم الخمر، ولكنها لا تقتحم على الناس بيوتهم لتحد من شربهم لها، بل تمنعهم منها فيما يتعلق بالنظام العام.


فإذا كان الإبداع متعلقاً بالشخص المبدع فحسب، فلا تتدخل الشريعة في إبداعه إلا ببيان الحكم، والتذكير بالمالات الأخروية المرتبة عليه إن كان هذا اللون من الإبداع داخلاً فيما نهت عنه، أما إذا خرج الإبداع إلى دائرة المجتمع فمن حق الشريعة أن تحمي المجتمع مما تراه خطراً على أفراده في الدنيا أو الآخرة.

فإن كان من حق المبدع شاعراً أو كاتباً أو مُخرجاً أو ممثلاً أن يقدم عمله الفني على النحو الذي تمليه عليه موهبته الفنية المجردة من أي ضابطٍ أو قيدٍ، فمن حق الشريعة أن تقول رأيها في هذا العمل، وأنها تمنع هذا المبدع من عرض عمله على الفضاء العام، ما دامت ترى في عرضه ضرراً على أفراد المجتمع الذين ينتمون إليها ويخضعون لقوانينها، وليس هذا بمستنكرٍ في العقل ولا حتى في النظريات والمذاهب الفكرية المعاصرة، فإننا نرى دعاة الحرية يقفون بها عند حدود عدم الإضرار بالآخرين.


ومما يؤمن به المسلم أنّ عرض العمل الفني، الذي يحمل مخالفة شرعية، على الفضاء العام وتمكين الناس من الاطلاع عليه= فيه إضرارٌ  بالمصالح الأخروية لأفراد المجتمع، فلا جرم ألا تبيح الشريعة ذلك وألا تسمح به، كما أنها لا تسمح ولا تتهاون في المنع مما يضر بالمصالح الدنيوية لأفراد المجتمع سواء بسواء.


وعلى كل حال، فلا يضر الشريعة الغراء أن بعض الناس لا يقيم وزناً للمصالح الأخروية ولا يعتد بها عند نظره لمسألة المصلحة والمفسدة، ويكتفي بقياس الأمور بنفعها وضررها الدنيوي فحسب.

 

 

تعليقات