رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

هشام عزمي يكتب: كيف بدأ الخلق

  • جداريات Jedariiat
  • الأربعاء 11 يناير 2023, 11:37 مساءً
  • 977
كيف بدأ الخلق

كيف بدأ الخلق

ينقل د. عمرو شريف عن  الأستاذ خالد محمد خالد قوله: ((لم يقم أحدٌ من علماء المسلمين بتنفيذ أمر الحق تبارك وتعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، غير أنّ دارون، دون أن يطّلع على القرآن المجيد (على ما يبدو) قد قام بتنفيذ ذلك، إذ استقل السفينة "بيجل" وطاف بها حول العالم جامعًا لعينات الأحياء من نباتٍ وحيوان، ثم أخذ يبحث ويدقق ويتأمل كيف بدأ الخالق الكريم خلق تلك الأنواع ... اهتدى دارون إلى نظريته الشهيرة، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، والتي يقول فيها بأنّ الحياة بدأت بكائناتٍ بسيطةٍ من خليةٍ واحدة، ثم أخذت ترتقي وتتطور نوعًا وراء آخر، بل نوعًا من نوع، إلى أن ظهر الإنسان أرقى المخلوقات)) .

فهو يرى أن داروين قد قام بأمر الله في القرآن الذي تخلف عنه علماء الإسلام وأمة الإسلام كلها على مدار اثني عشر قرنًا من الزمان، حتى جاء الإمام المقدام والعالم المدقق والفيلسوف المحقق  تشارلز داروين -قدس الله سره- في القرن الثالث عشر الهجري فأتى بما لم يأت به الأوائل، واستجاب لما تضافرت أمة الإسلام على مدار القرون بكل أذكيائها ونبهائها وأساطين الفقه والنظر وأرباب العقول وعلماء اللغة وأهل تفسير القرآن وتدبره والاستنباط من نصوصه فيها على تجاهله وتعطيله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

فحسب فهم د. عمرو شريف لهذه الآية، ومن قبله الأستاذ خالد محمد خالد والدكتور حسن حامد عطية، ومن بعده آخرون على نفس المنهج والسبيل، فإن الآية تعطي أمرًا مباشرًا للمسلمين بأن ينظروا في "كيفية" بدء الخلق، وأنهم إذا استجابوا لهذا الأمر، سيهتدوا إلى التطور التدريجي لجميع المخلوقات من الخلية الأولى حتى الإنسان كما اهتدى داروين من قبل. وسوف أقف عدة وقفات مع هذه الآية وهذه الطريقة في فهمها وتطبيقها على الواقع سائلاً الله الحق أن يرينا الحق ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل ويرزقنا اجتنابه.

أولاً: دعونا ننظر في السياق الذي جاءت فيه هذه الآية، وهو احتجاج نبي الله إبراهيم عليه السلام على قومه المشركين، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

فالآيات جاءت في مقام الاحتجاج على الكفار من قوم إبراهيم عليه السلام، والعقل السليم يقتضي ألا تحتج على خصمك إلا بما يدركه عقله وتسعه علومه ومعارفه، لا بما لا يبلغه ولا يدركه ولا يستطيع إليه سبيلاً. فهل كان المشركون في ذلك العصر السحيق يعلمون ما يحتج عليهم به النبي الذي قام فيهم؟ أم أنه كان يحتج عليهم بما لا طاقة لهم باستيعابه وإدراكه؟ وكيف يخطر ببالنا أن يستشهد القرآن الكريم بحجة على قوم لا تدركها عقولهم ولا تبلغها أفهامهم؟ وهو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله أعلم وأحكم وأفصح، وقد أنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو الغاية في أبواب الدين كلها، ولا سيما أصول الدين والإيمان. ومسلك القرآن في الاستدلال هو المسلك الحق الخالي عن الفساد والبطلان، لأنه حق ونور وضياء وهدى، وقد دلنا على أفضل الطرق في الاستدلال والبرهان، وفيه البراهين العقلية القاطعة، وقد نزل لقوم يتفكرون. فهو لا يرشدنا فقط لأنباء الغيب والإيمانيات والروحانيات، بل أيضًا يعلمنا طرق الاستدلال الصحيحة السليمة وكيف نرد على المنكرين. فإن ((أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك: قد بينها الرسول أحسن بيان وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله والمعاد وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وإن كان لا يحتاج إليها، فإن كثيرا من الأمور تعرف بالخبر الصادق ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين: السمعي؛ والعقلي)) .

فلا يستقيم عقلاً وشرعًا أن يحتج إبراهيم عليه السلام على قومه بما لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه عقلاً ولا حسًّا من معرفة كيفية الخلق، ثم يأتي القرآن كلام الله الحكيم ليستشهد بهذه الحجة ويقرّها ويعتمدها! هذا فضلاً عن كونه ضلالاً في الدين، فهو أيضًا بلادةٌ وسخفٌ في العقل واستخفافٌ بعقول الناس.

ثانيًا: المقصود في الآية بـ(كيف بدأ الخلق) ليس كيفية الفعل الإلهي في بدء الخلق، فهذا من الغيب المحجوب عنّا، وإنما المقصود هو الهيئة التي عليها بدء الخلق، والانطلاق من هذه الهيئة إلى ما تحمله من دلالات عقلية على قدرة الله وسائر صفاته. نجد هذا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، فليست العبرة المرادة من هذه الآيات هي تأمل كيفية الفعل الإلهي؛ هل كان مباشرًا مجردًا من الأسباب المادية؛ أم كان تسخيرًا لأسباب الريح والسحاب والطير، إنما العبرة المرادة هي التفكر في الهيئة التي صار عليها قوم عاد وأصحاب الفيل من العذاب والخراب والهلاك، والانطلاق منها إلى إدراك شدة عذاب الله وقوته وجبروته وعواقب غضبه وسخطه!

ونفس الكلام ينطبق على قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ}، قال المفسرون: ((أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على هذه الأمور، إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم وذَلَّلها وجعلها تحمل حملها باركة، ثم تنهض به، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار، يقول جلّ ثناؤه: أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القُدرة التي قدر بها على خلقها، لن يُعجزه خلق ما شابهها)) . فاستعمال اسم الاستفهام "كيف" إنما لما يدل عليه من الهيئة التي عليها الشيء، وليس تفصيل الطريقة التي يتم بها الفعل، كما تقول العرب: (كيف أصبحت؟) و(كيف أمسيت؟)، ولا يقصدون بهذا ما فعلته بالتفصيل عندما أصبحت أو أمسيت، بل الحالة التي أنت عليها في صباحك أو مساءك، فيكون جواب السؤال: أصبحت بخير، الحمد لله، أمسيت في نعمة الله، وغيرها من الردود المعتادة. ولهذا فإن قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} إنما يشير إلى الهيئة التي عليها بدء الخلق، وما هو عليه من الإتقان والإحكام والإبداع، والانطلاق منها للاستدلال على كمال قدرة الله عز وجل وخالقيته. وهذا هو عين ما تقتضيه اللغة ويفرضه السياق ويتسق مع العقل، قال المفسرون: ((قل سيروا في الأرض؛ أي: قل لهم يا محمد: سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله)) .

ثالثُا: الهدف من الاستدلال بكيف بدأ الخلق في الآية هو الرد على الكفار والمشركين الذين ينكرون البعث ويوم القيامة والحساب بعد الموت، فهو استدلال بما يسمى قياس الأولى؛ وهو الاستدلال بالأصعب لإثبات الأسهل، فخلاصة هذا الاستدلال هو أنه إذا كنت تنكرون قدرة الله على إعادتكم بعد موتكم، فإن الله الذي بدأ الخلق من عدم وكان قادرًا عليه، فمن الأولى أن يكون قادرًا على إعادته من جديد، لأن الإعادة أيسر من الابتداء. وهذا ظاهر في قوله تعالى في الآية التي تسبقها: {أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، ثم تأكيده على نفس المعنى بألفاظ أخرى في آيتنا بعدها: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فإن التنبيه على بدء الخلق جاء للاستدلال على عظيم قدرة الله وكمالها، فالله لا يعجزه بعث الناس من الموت كما لم يعجزه بدء خلقهم، فإن إعادة الخلق أهون من بدء الخلق، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، فإذا كان قادرًا على الابتداء كما يقر المشركون، فقدرته على الإعادة التي هي أهون أولى وأولى ، وهذا هو قياس الأولى الذي يستعمله القرآن.

لهذا فهم المفسرون الكلام عن كيف بدء الخلق، بأنه احتجاج على المشركين بما يعتقدونه من كون الله قد بدأ الخلق على ما فيه من تعقيد وإحكام، ليستدل به على قدرته على إعادتهم من الموت وبعثهم، فقالوا في معنى الآية: ((قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: (سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) الله الأشياء وكيف أنشأها وأحدثها؛ وكما أوجدها وأحدثها ابتداء، فلم يتعذّر عليه إحداثها مُبدئا، فكذلك لا يتعذّر عليه إنشاؤها معيدا)) ، ((لأن الكلام كان واقعاً في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فالذي لم يعجزه الإبداء فهو الذي وجب أن لا تُعجزه الإعادة)) . وهذه هي حقيقة حجة إبراهيم على قومه، وحقيقة الحجة العقلية التي أوردها القرآن في هذا السياق، وهي حجة قطعية محكمة من جنس قياس الأولى، وليس أن الله يحتج عليهم بأنه خلق المخلوقات كلها عن طريق التطور البطيء التدريجي على مدار ملايين السنين، وأن هذا التطور يدل على قدرة الله على بعث الأموات وحسابهم! فهذا فيه من تسفيه العقول وتسخيف الأفهام ما لا يمكن قبوله.

رابعًا: الاحتجاج ببدء الخلق في الآيتين {أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} و{فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} هو في جوهره احتجاجٌ عقليٌ بشيءٍ واضحٍ في الفطرة والعقل؛ يقول الرازي في التفسير: ((الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئ الله}؟ فنقول: المراد العلم الواضح الذي كالرؤية، والعاقل بعلم أن البدء من الله، لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقًا أول، فهو من الله. هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق، وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولاً وبالإعادة خلقه ثانيًا، فنقول: العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام، فذلك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ}، أي: ألم يعلموا علمًا ظاهرًا واضحًا {كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق} يخلقه من تراب يجمعه؟ فكذلك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه، بل هو أسهل بالنسبة إليكم، فإن من نحت حجارات ووضع شيئاً بجنب شيء ففرقه أمر ما، فإنه يقول وضعه شيئًا بجنب شيء في هذه النوبة أسهل عليّ، لأن الحجارات منحوتة، ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى، وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم: 27] وإليه الإشارة بقوله: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ})) .

ثم عاد وقال: ((الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي، وهو الحاصل من غير طلب، فقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} على سبيل الاستفهام، بمعنى استبعاد عدمه، وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم، فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري، وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئًا من غير تعليم وإقامة برهان له، وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة، وبعضهم لا يفهمه أصلاً، فقال: إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض، أي: سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق)) .

فالاستدلال ببدء الخلق في الآيتين هو استدلال بشيء مستقر في الفطرة والعقل، وليس أمرًا بالبحث في كيفية غيبية لم يشهدها إنسان. فهو يستدل بما استقر في فطرة الإنسان من أنه مخلوق وله خالق، وأن كل المخلوقات لابد لها من خالق، فإن لم يكن مقرًا بهذه الفطرة، فلينظر في الأرض ليرى أن هذه المخلوقات لابد لها من بداية، وبالتالي لابد لها من خالق، وأنه كما خلقها فهو قادرٌ على إعادتها، فهو قديرٌ، وهو عليه يسيرٌ.

بل إن الرازي يورد اعتراضًا حول استعمال "كيف" فيقول: ((قال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق}، علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال: أو لم يروا أن الله خلق، أو بدأ الخلق، والكيفية غير معلومة؟ فنقول: هذا القدر من الكيفية معلوم، وهو أنه خلقه ولم يكن شيئًا مذكورًا، وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة مثله)) . فإنه حتى الاستدلال بالكيفية، ليس لجوءًا إلى غيبٍ غير مشهودٍ، بل هو بالقدر المعلوم من كون الإنسان مخلوقًا ولم يكن قبل شيئًا، وأنه مخلوق من نطفة مرت بأطوار الخلق في الرحم، ثم كذلك حين خرج من الرحم طفلاً فصبيًا فشابًا فكهلا، وهكذا. فهذا كله معلومٌ مشهودٌ، وبه يتحقق المراد من الاحتجاج، وليس فيه الأمر بالنظر في كيفية غيبية لم يطلع الله عليها أحدًا من خلقه، فهذا مما تتنزه عنه العقول السليمة وأصول الاستدلال الصحيح.

خامسًا: تفصيل كيفية فعل الخلق الإلهي وكيف كانت صورته من أمور الغيب التي ليس في مقدورنا كبشر بلوغها باستخدام أدواتنا المعرفية المحدودة من الحس والعقل، يقول تعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} ، وهذا حقٌ! فإننا لم نشهد بداية خلق الكون ولا خلق الإنسان ولا خلق أي كائن آخر حتى يمكننا أن نصفه ونجزم بكيفيته، ونطاق العلم التجريبي محدودٌ فيما شهده الإنسان بحواسه أو يمكن أن يقيسه على ما شهده بحواسه، أما إذا ورد عليه أمرٌ غيبيٌ لم يشهده بحواسه ولا يمكنه قياسه على ما هو مشهود، فهو خارج نطاق العلم التجريبي. فنحن لم نشهد خلق الكون الذي نعيش فيه ولا خلق الإنسان الأول، ولم نشهد كونًا يخلق ولا إنسانًا يخلق، فلا يمكننا معرفة كيف وقع هذا الخلق .

ومن المهم في هذا المقام أن نميز بين النتيجة والسبب الفاعل والكيفية والغائية، فخلق الكون وخلق الإنسان يرشدنا إلى ضرورة وجود خالق، ومظاهر هذا الخلق تدلنا كذلك على بعض صفات هذا الخالق، وربما كذلك بعض جوانب الحكمة والغائية في الخلق، لكن لا يمكن أبدًا أن نعرف كيفية وقوع فعل الخلق وتفاصيله. وهذا الأمر في كل شيء تقريبًا، فوجود السيارة مثلاً يدلنا على وجود صانعها، ويمكننا أن نستنتج كذلك أن صانعها متصف بالعلم والقدرة والمهارة والذكاء، ويمكننا أيضًا أن نستنتج إلى حد ما الهدف من صناعة السيارة ومن وجود الإطارات والأبواب وعجلة القيادة وغيرها، لكن لا يمكننا أن نستنتج كيفية صناعة السيارة من مجرد دراستها وقيادتها، بل هذه المعرفة يملكها فقط صانعها، ولا يمكننا بلوغها إلا عن طريقه. فأمور بداية الخلق ليست من الأمور التي يمكن بلوغها بالعقل أو بالعلم التجريبي، لأنهما محدودان بالحواس وقصورها، صحيح أنه يمكننا الافتراض والتخمين أحيانًا، لكن لابد أن نضع هذا الافتراض في موضعه المعرفي الصحيح، وأنه مجرد اجتهاد عقلي يفتقر إلى وسائل الإثبات والتأكيد، وليس دليلاً معتبرًا.

فإذا كان السبيل إلى معرفة بداية الخلق موصدًا على الخلق، فلا سبيل لمعرفته إلا عن طريق الخالق نفسه، ولا يمكن القبول بأي سلطان معرفي في هذا الموضوع إلا سلطان الوحي، وما سواه فهو مجرد تخمينات واجتهادات لا يعول عليها. والغريب أن يعترض د. عمرو شريف على الاستشهاد بقوله تعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}  لنفي إمكان المعرفة البشرية لوقائع بداية الخلق، لأن الآيات تحكي عن إبليس وأعوانه، لا بني البشر ! وكأن إبليس وأعوانه لم يشهدوا خلق الكون ولا خلق أنفسهم، بينما البشر كانوا شاهدين! والآية فعلاً تحكي أن إبليس وذريته لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، وبالتالي لا يستقيم عقلاً أن يتخذهم البشر شركاء لله وأولياء من دونه، وهم لم يشهدوا شيئًا، فضلاً عن أن يكونوا شركاء فيه! وإذا كان إبليس وجنوده لم يشهدوا مع رسوخهم في الزمان السحيق، فالبشرية كلها من باب أولى لم تشهد ولم تعاين، وهذا هو موطن الشاهد في الآية. وهذا الفهم المباشر للآية فات د. عمرو ولم يهده عقله إليه رغم سهولته ووضوحه.

فهذه آية صريحة في عدم إمكان معرفة كيفية وتفاصيل بداية خلق الإنسان، وهي دليلٌ شرعيٌ قطعيٌ محكمٌ، يعضده كذلك قيام البرهان على عجز الإنسان وقصوره عن معرفة الغيب الماضي غير المشهود، وهو دليلٌ عقليٌ قطعيٌ محكمٌ. فاجتمع الشرع والعقل على عدم إمكانية معرفة كيفية وتفاصيل وقائع بدء خلق الإنسان. ولو قال د. عمرو مثلاً إننا لم نشهد ولم نعاين بداية الخلق، لكن يمكننا أن نبحث ونعمل عقولنا ونفترض ونستنتج، لكان قوله أقرب إلى الصواب، مع الوضع في الاعتبار أن هذه الفرضيات والاستنتاجات ستظل مجرد اجتهادات عقلية عارية عن البرهان والدليل، ولا يصح أن تدخل في نطاق العلم التجريبي القائم على الملاحظة والرصد والاختبار.

سادسًا: إذا سرنا في الأرض ونظرنا في الخلق، هل سنجد الدليل على صحة نظرية داروين؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ فإن النظر العقلي في المخلوقات وما هي عليه من إحكام ودقة وإتقان وتعقيد يدل على خالق عليم حكيم مصور بديع قدير، وإن العقل والفطرة يقضيان أنه لا يمكن نشوء النظام من الفوضى، ولا الدقة من العشوائية، ولا الإحكام من الصدفة. بل إن داروين نفسه لو كان نظر في الخلق حقًا لما وضع نظريته في النشوء والارتقاء، فإن المتوقع من أي عالم أن يجمع المشاهدات أولاً، ثم بعدها يضع النظرية العلمية التي تفسر هذه المشاهدات، لكن ما حدث من داروين أنه وضع نظريته في السلف المشترك لجميع الكائنات الحية على خلاف المشاهدات في سجل الحفريات، ثم زعم أن السجل ناقص وسوف يكتمل فيما بعد! وما زال السجل ناقصًا حتى اليوم، وما زالت الكائنات الوسيطة المنقرضة المزعومة غير موجودة في السجل الأحفوري، وما زالت الأسلاف المشتركة للكائنات المتشابهة مفقودة غير موجودة. ورغم أننا اليوم بعد أكثر من 150 عامًا من نشر داروين لنظريته في السلف المشترك قد اكتشفنا آلاف الكائنات المتحجرة التي لم يعرفها داروين، إلا أن الفجوات بين الكائنات المختلفة ما زالت عصية على الملء، والأمل الذي كان يداعب خيال داروين في العثور على الكائنات الوسيطة والروابط الانتقالية مع تقدم الكشوف وكثافتها وجديتها قد صار إلى سراب وهباء منثور. لكن الحقيقة الثابتة رغم ذلك هي أن داروين لم يضع نظريته التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بناء على السير في الأرض والنظر في الخلق، بل وضعها أولاً، ثم أراد من طبقات الأرض أن تنتصر لنظريته وتشهد لها!

هذه ست وقفات فيما يتعلق بهذه الآية وتناول د. عمرو شريف وغيره من أنصار التطور الإلهي لها، أرجو أن أكون وفقت في عرضها وبيانها، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يجمعنا على الهدي، وأن يجعلنا هداة مهتدين وسببًا وسبيلاً لمن اهتدى، اللهم آمين!

تعليقات