كاتب عماني: «الدين حتمية الوجود الإنساني»

  • جداريات Jedariiat
  • الخميس 29 ديسمبر 2022, 02:44 صباحا
  • 422

قال الكاتب العماني خميس العدوي إن الدين هو حتمية الوجود الإنساني، موضخا أنه ما عُرف الإنسان إلا متدينا، وما قامت حضارة إلا كان الدين جذوة شعلتها، وما أسست دولة إلا على سيف سطوته.

وتابع في مقال نشرته صحيفة "عمان" أن في التأريخ المعاصر عبرة، فمَن أسسوا إسرائيل -وقد قُدّم بعضهم بأنه ملحد أو لا ديني في معتقده- عرفوا أهمية الدين في تكوين الإنسان وهيكلة الدولة، فأقاموا دولتهم على أساس ديني، ومع ذلك؛ لنا الحق أن نتساءل عن حقيقة معتقدهم، فما مقدار صدقهم في تقديم أنفسهم -أو تقديم الناس لهم- بأنهم ملاحدة، وقد أخذ الدين بشغاف قلوبهم حتى اتخذوا منه قواعد لتأسيس كيانهم ومنطلقات لإدارة سياستهم، هذا أمر يحتاج إلى تأمل، ليس هنا موضعه، وإنما أتيت به مثالاً لأولئك الذين يتصورون بأن الدين يمكن التخلي عنه.

وتابع: مطلع ديسمبر 2022م.. أعلنت الإذاعة البريطانية BBC عن إحصائية للأديان في إنجلترا وويلز، وقد نشرها «مكتب الإحصاء الوطني» ببريطانيا، عن عام 2021م، مع مقارنتها بإحصائية عام 2011م، كشفت عن تراجع المنتسبين إلى المسيحية إلى أقل من نصف السكان، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ بريطانيا؛ سادنة الكنيسة البروتستانتية، حيث أصبحت نسبة المسيحيين 46.2%، بانخفاض قدره 13% مقارنة بعام 2011م، في حين؛ ارتفعت نسبة اللادينيين إلى 37.2%، بزيادة قدرها 12%، مع زيادة في نسبة المسلمين والهندوس بسبب هجرتهم إلى بريطانيا.

 

وأردف: في لقاء حول الإحصائية مع لورا بودهت أستاذة علم الأديان في جامعة King’s College بلندن، قالت: إن اللادينية.. (هي مصطلح جامع لتجمّع كبير من الأشخاص، بعضهم من الملحدين، والكثيرون منهم محايدون دينياً؛ هم الذين يقولون لا نعرف لأي دين ننتمي، وآخرون روحانيون، يقومون بطقوس روحانية، ولكن لا يريدون أن يُعَرَّفوا كمنتمين لدين محدد؛ لاسيما لدين المؤسّسة)؛ وتقصد الكنيسة المسيحية.

 

وأوضح أن الإحصائية تجعلنا أمام تغيّر عالمي في البُنية الدينية برمتها، وليس في بريطانيا وحدها، بل تجعلنا نعيد النظر في مفهوم الدين ذاته، كما علينا ألا نسلّم -دون فحص- بما تقول به الإحصائية، فقد يكون مَن لم ينتسب لـ«دين المؤسسة»؛ وصل فعلاً إلى «دين الله»، ولا يريد أن يرتبط بدين طقوسي لم يعد يراه متوافقاً مع عمق إيمانه.

وأشار إلى توصيف لورا بودهت للادينية معتبر، فاللادينية.. لا تعني بالضرورة الإلحاد، أما بقية الأقسام التي ذكرتها فهي تؤمن بإله خارج مفهوم «إله الأديان» المعروفة، بما فيها الروحانية التي تؤمن بقوة تنبثّ في هذا الكون، بل حتى الإلحاد لا يعني كله النفي التام لوجود «قوة خالقة» للوجود.

 

وشدد أنه علينا ألا نغفل عن استحضار الشيوعية العالمية، التي حكمت نصف العالم، وتبنت الإلحاد عقيدةً، واستعملتها حربةً في التمدد السياسي، إلا أنها تهاوت أمام الدين، صحيح؛ أن السياسة الغربية استخدمت ضد الشيوعية شتى الأسلحة؛ من الحروب المدمرة حتى الحرب الباردة، مروراً بالقوتين الخشنة والناعمة، إلا أن رسوخ الدين في نفوس الناس هو من أهم ما دفع بالمجتمعات إلى أن تلفظ الشيوعية، وتنبعث من تحت ركامها، معلنة تمسكها بدينها، معيدة بناء هياكلها الاجتماعية وحقولها الثقافية على الدين من جديد.

 

وأكمل: لا أعرف أمراً كالدين اختلف فيه الناس، فقد اختلفوا في معناه وأصله، وفي فروعه وتطبيقاته، وقد حصل ذلك حتى في الدين الواحد، مصداقاً لقول الله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6]، وهذا لا ينفي حقيقة الدين، بل يؤكدها، فاتفاق الناس على تدينهم ينبئ بأن الدين أعمق من «التفسير الدنيوي» الذي يرجعه إلى الظواهر النفسية والاجتماعية، وأوسع من «التفسير الديني» الذي يحصره في الإيمان بالأنبياء وشرائعهم.

 

ولفت إلى أن كثير من الناس لا يقرّون بالدين إلا من خلال شرائعهم، فكل دين لديهم ما خلا دينهم باطل، وفيما أعلم؛ لا يوجد كتاب منزل اعتمد أصل الدين مثل القرآن.

 

وشدد على أن أصل الدين هو الروح؛ تلك النفخة الإلهية التي غرسها الله في النفس الإنسانية، فكل إنسان يحمل بذرة الدين بين جوانحه؛ مهما كان معتقده، وعن الروح انبثق: الإيمان والخُلُق والوعي، مما يجعل الإنسان متديناً بجبلّته، ولا يوجد هذا عند غيره. فالحيوان.. لا روح له، لأنه لا يستطيع أن يؤمن، ولا أن يتحلى بالأخلاق، ولا وعي له.،وما نرى في بعضه من بوادر تعقل هي غير واعية، وإنما هي فطرية بقدر أن تحفظ له نوعه، وحتى إن قال قائل: بأنها تعقّل، والتعقل نوع من الوعي. فلا يجعل منه كائناً متديناً، لأن الدين هو مجموع الأصول الثلاثة المنبثقة عن الروح، فالروح.. أصل الدين، والدين.. هو تمظهر للروح.

وتابع: قد يتصور البعض أن الإيمان بالدين قاصر على مَن أُرِسل إليه نبي، وأنزل عليه شرع، وهذا نظر مَن لم يستوعب حقيقة الروح وموقعها في نفس الإنسان،  إن الدين يمكن أن يرتسم في النفس بأي دليل دالٍ على وجود الله، ولو بخفقان جناحي طائر، أو جريان نهر، أو أية آية يعي بها الإنسان وجهاً من وجوه الحق الإلهي، بل إن دليل وجود الله ينبثق من داخل النفس، ولو لم يستبن له دليل خارجي.

 

وأردف،: الأكثر من ذلك؛ إن كل إنسان هو على اتصال دائم بالله، فيجد كلمته في قلبه، فلا النبي يتلو آيات تشريعه دون أن ينزل الله وحيه على قلبه، ولا المتصوف يرقى في مقامات التقرب إلى الله من غير أن يلقي في روعه السير إليه، ولا الحكيم يصيب الحكمة ولم يلقنه الله جوامعها، ولا الفيلسوف يشيد صروح النظر إلى الوجود قبل أن يقبض أثراً من تأييد الله، ولا المهندس يبدع في تصميم العمران دون أن يلهمه الله زوايا خارطته، وهكذا سائر إبداع البشر، ولا يرتبط ذلك بالمعتقد الديني، فالبشر.. سواء، وإنما يحصل ذلك للإنسان بكونه متصلاً بالله، لا بكونه معتقداً.

 

واختتم: إنَّ الإنسان إنْ تمكن من الخلوص إلى أصل الدين بنفسه، متحرراً من علائق الاجتماع البشري وعوائقه، لكان على ذروة تدينه. ولكن أنى له ذلك، فهو لا يمكن أن يعيش منفصلاً عن البيئة من حوله، التي تحمّله كثيراً من أوزارها، فتصرفه عن صفاء الدين، بل قد تؤدي به إلى تشوش معناه في نفسه، وهو ما ينعكس على واقعه، من إنكار الإيمان بالله، أو انحرافه عن الخُلُق القويم، أو هيمنة الوعي الزائف على عقله، والدين.. لا يمكن أن يكون معلقاً في الفراغ، فلابد أن يظهر برؤية ذهنية وسلوك عملي لدى الناس، فيأتي الوحي الإلهي ليقوّم الإنسان على سَنَن دينه الجبلّي، ولن يكون قابلاً لهذا التقويم حتى تصفو نفسه مع الله. ولا عذر للإنسان ألّا يكون على أصل الدين؛ بأن يستمسك بالإيمان بالله، ويلتزم الخُلُق، ويعي السير على الصراط المستقيم في الحياة، ولو لم يصله وحي نبي، أو معبر عن ذلك الوحي.

 

 

 

تعليقات