هل رأيت حشرة سرعوف الورقة الميْتة؟
- الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
تعتبر الفلسفة المادية المعلومات طرقا يمكن أن تبنى المادة من خلالها. حيث لو كانت المادة مبنية بأسلوب وحيد لإقصاء الأساليب الأخرى، فهي إذن تنقل المعلومات. لكن قدرة المادة على نقل المعلومات بحد ذاتها تبدو لا إشكال فيها؛ فالمعلومات يمكن أن تُتضمن في المادة، ووجود المادة متوافق مع المعلومات.
لكن السؤال الهام بالنسبة للمادية هو ما إذا كان يمكن للمادة وحدها أن تمدنا بسبب مناسب للمعلومات، والسؤال الأكثر جرأة، هل المادة نفسها شكل من أشكال المعلومات؟ شهد الجيلان الأخيران انزلاق المعلومات من قبضة المادة؛ فمثلاً فكر نوربرت وينر Norbert Wiener –مؤسس علم السبرانية Cybernetics– أن المعلومات لا يمكن أن تندرج تحت المادة: "المعلومات هي معلومات، ليست مادة ولا طاقة، لا يمكن للمادية التي لا تعترف بذلك أن تعيش في يومنا هذا".[1]
بالنسبة للمادية، حينما تحمل المادة معلومات فإن ذلك يحدث بالصدفة التامة، بمعنى أن ذلك يحدث بقوى غير غائية، وليس قوى غائية. فكر في مجموعة مرتبة من الصخور بطريقة معينة في مفترق طرق، وقد يكون هذا الترتيب علامة للمسافر ليتخذ يمينًا، ومن ثم ينقل هذا الترتيب معلومات. لأن الذكاء قصد به التواصل مع ذكاء آخر، ومن شأن هذه المعلومات (المحتوية لمعنى) أن تتضمن معلومات دلالية، ليس مجرد معلومات بمعنى ترتيب أو تعقيد أو صدفة لا دلالة فيها. لكن من منظور مادي كل هذه الدلالات أو المقاصد تذاب نهائيا في تفاعلات مادية لا غائية، فلو صحت المادية فإن ترتيب الصخور وكذلك ترتيب المخ المسؤول عن ترتيب الصخور كلاهما نتاجًا لعمليات لا غائية في حاصل الأمر.
لكن لماذا ينبغي أن نفكر في صحة المادية؟ في الواقع هناك سبب في التفكير في أن المادية خاطئة، وأن المعلومات (حتى المعلومات القائمة على غاية أو قصد) أكثر أصالة من المادة. أتذكر استماعي ذات مرة إلى محاضرة يدق فيها المتحدث على مكتب ليقول: إن هذه المادة هي الأكثر حقيقية من كل شيء، وكما يقول المسرحيون هذا ليس سيئًا، لكن هذا العرض يخفى أن هذه المادة غامضة في الواقع، بالتأكيد يمكننا أن ندق على موضوعات متوسطة الحجم، تتألف من مادة كالمكاتب لنقول: إن المادة حقيقة، لكن ما هي المادة حقا؟ جمال المادة في كونها موزعة على العالم كطاولة بلياردو عملاقة تحمل الحقيقة كلها ككرات بلياردو محددة (مكونات المادة)، تتفاعل ميكانيكيًّا مع كرات بلياردو أخرى (موضوعات مادية أخرى).
تقدم المادية بسهولة صورة مفاهيمية بسيطة لما يُفترض أنه المكونات الأساسية للواقع، لكن هذه الصورة في أحسن أحوالها لا تأتي إلا بالوهم، فالحق أنها تخفي تجاهلاً واسعًا للطبيعة الحقيقية للواقع.
لنرى لماذا المادة ليست مفهومًا واضحًا كما يزع الماديون، من المفيد أن نرى كيف لعبت المادية دورها في فلسفة العلم من نيوتن إلى أينشتاين، وقلت فلسفة العلم وليس العلم نفسه لأن العلم (بظهور ميكانيكا نيوتن) كان سعيدًا تمامًا بالتصور المادي للطبيعة، ففي ميكانيكا نيوتن تُعامل الموضوعات المتحركة ككتل نقطية مستقرة في مراكز تلك الكتل (سيسعد ديموقريطس هذا التصور)، لكن عندما حاول الفلاسفة فهم هذا التصور المادي للعالم وجدوا صعوبة فيه، وما جعل ميكانيكا نيوتن مقنعة جدًّا كان نجاحها في الملاحظة التطبيقية، وبالتالي فبدون هذا الدعم التطبيقي وتبصر ميكانيكا نيوتن يبدو أنه لا وجه لتفضيل الميكانيكا النيوتينية على العلم الأرسطي العتيق؛ لذا فالسؤال المطروح الآن: ما الذي تمت ملاحظته فعلاً من قِبل العلماء ذوي العقلية التجريبية؟
عندما تأمل الفيلسوف جون لوك (معاصر نيوتن والتجريبي المغالي) هذا السؤال اصطدم بطريق مسدود، ثمة شيء (مادة) يجب أن يكمن وراء ملاحظاتنا، لكن ما هو؟ لعل أشهر اقتباس من كتاب لوك المشهور "مقال متعلق بالفهم بالإنساني "هو إجابته لهذا السؤال: "لا أعرف ما هو"[2]، ربما قال نيوتن توافقًا مع ميكانيكا نيوتن: أن المادة المطلقة (الشيء الأساسي وراء ملاحظتنا) هي الجسيمات النقطية للمادة[3]، لكن الإشكال على لوك (كتجريبي حقيقي) هو أنه ليس هناك ملاحظة مباشرة لهذه المادة المطلقة، وإذا تمكننا من هذه الملاحظة فلماذا ينبغي أن نثق في أنها تبلغنا المستوى الأدنى للحقيقة؟[4] واقع الأمر أنه لا يمكننا أبدًا أن نلاحظ المادة كمادة، وقد أدلى جورج بركلي بهذه النقطة على النحو التالي (على جانب مثاليته):
لا أجادل ضد وجود أي شيء يمكن لنا إدراكه سواء بالحواس أو بالاستبطان، هذه الأشياء التي أراها بعيني وألمسها بيدي موجودة حقًّا، لكن المهم هو أن الشيء الوحيد الذي ننكره هو ما يسميه الفلاسفة المادة أو الموضوع المادي، وفي فعلنا هذا ليس هناك أي ضرر على بقية الجنس البشري، الذي أجرؤ أن أقول: إننا لن نفقده أبدًا، وصحيح أن الملحد يرغب في وجهة نظر الاسم الذي لا مدلول له لدعم انحرافه، وقد يجد الفلاسفة أنهم فقدوا مقبضًا عظيمًا للعبث والنزاع.[5]
إن المادة هي تجريد مستمد من مجموعة متنوعة من الأشياء التي لاحظناها بحواسنا، هذا يجعل المادة أمرًا مشكلاً كأساس أنطولوجي، وهي المعضلة القديمة التي واجهت ديموقريطس (كما رأينا في الفصل الأول) الذي اعتبر أن الواقع بأسره مكون من ذرات في الفراغ، لكنه لم يستطع بعد ذلك أن يبرر هذه النظرية المادية التي تفترض أن كل أدلتها آتية من الحواس، مانحة الحواس الأسبقية المنطقية على المادة، وبالتالي تجعل المادة في أحسن الأحوال استدلالاً من البيانات الحسية.
دعنا نسهب الحديث عن هذه النقطة أكثر، لأنها يُستخف بها بسهولة في ثقافتنا المادية، إذا رغبت في أن تكون ماديًّا فقط من خلال جعلك المادية مقالة إيمانية فأنت مُرحب بك، لكن هذه المادية القائمة على الإيمان ليس من نوع المادية التي نواجهها اليوم، فنحن نواجه مادية علمية تحاول تبرير المادية على أسس علمية، ولكن كيف تستخدم العلم لتبرير نفسها؟ من خلال الادعاء بأن نجاح العلم يتدفق مباشرةً من محاولة فهم العالم من منظور مادي.[6]
أود الآن أن أسلم ببعض الظواهر التي يبدو أنها تفسَّر بشكل كافٍ على أسس مادية، كحركة الكواكب والمجرات مثلاً، لكن هناك الكثير من الأشياء الأقرب لنا؛ كالوعي واللغة والقصد رغم أن تعلقاتها بالمادة أبعد ما تكون عن الوصف التام من منظور مادي، رغم اعتراضات الماديين مثل دانيال دينيت وبول تشيرشلاند، اللذان يعلنان أن الحل المادي لكل المشاكل العميقة للطبيعة الإنسانية على الأبواب، وأن كل من يراهن أنه سيفوز ضد المادية سيخسر في النهاية[7]، لكن حتى لو كان الماديون على أسس أقوى فيما يتعلق بهذه المشاكل العميقة التي لم تحل بعد، فنجاح العلم المادي نادرًا ما يكون أساسًا لحجة دامغة للأنطولوجيا الأساسية.
لنسلم جدلاً أن العلم المادي أصبح ناجحًا بشكل ساحق (ليس كما هو الحال الآن، مشروع تفسيري ذو فجوات واسعة)، لكن حتى في هذه الحالة لماذا ينبغي أن نتخذ المادة كأساس للواقع؟ إن نجاح العلم (كحقيقة ظرفية مؤقتة) يمكن أن يخبرنا في أحسن الأحوال أن ممارسته الحالية نجحت على أسس مادية الآن، لكن لا يمكن أن يخبرنا أن هذا النجاح سيتواصل في المستقبل على أسس مادية، وبالتالي يجب أن تُتخذ المادية كفرضية عمل من أجل بحث وتصور جوانب معينة من الطبيعة، لكن هذا بعيد كل البعد عن التمسك العقدي بالمادية كفرض فلسفي أولي على كل من حاول فهم البنية الطبيعية الصحيحة للطبيعة.
لكن يظل هناك إشكال أعمق في تشييد المادية كمبدأ جوهري للعلم، ألمح إليه ديمقريطس، ورآه لوك ومن تبعه من التجريبيين بشكل أوضح، ألا وهو أن العلم التجريبي لم يلاحظ أبدًا المادة كما هي، بل يستدل بالضرورة عليها من الملاحظة، الملاحظة من منظور العلم التجريبي أسبق منطقيًّا من المادة.
الآن من المثير للاهتمام أن نتتبع أين ذهبت فلسفة العلم في ذلك، إن العلم (الذي لا يفكر لذاته) على الأقل كما يمارس من قِبل العلماء (هناك استثناءات كـ"بير دوهيم"[8] ينزع إلى تبني التجريبية، سواء كانت من النوع الميتافيزيقي الصارم الذي يعتبر كل الواقع مادة أو من النوع المنهجي المعتدل الذي يعتبر العلم دراسة محدودة على نحو صحيح بالتصنيفات المادية، أما بموجب الفلسفة (التي تثمن نظام الفكر المتسق والمتماسك) خصوصًا عندما تنعكس على التحقيق العلمي كممارسة علمية، فمن الصعب –إن لم يكن من المستحيل– أن تبرر المادية خصوصًا كفلسفة أولية.
ما الذي يقف وراء الملاحظة؟ إجابة هذا السؤال ليست سهلة من المنظور المادي أو غيره، فالإشكال أن الملاحظة نفسها لا يمكن أن تخبرنا بما يقف وراءها، ومن هنا قال لوك "لا أعرف ما هو"، قد يبدو أن الملاحظة تخبرنا بأن ما وراءها هو المادة، لكن الملاحظة التي تظهر لنا ليست بالضرورة في الواقع، وليس لأن الأشياء تبدو مادية أن نقول: إنها كذلك، أو: هي كل ما هنالك.
ليس هناك وسيلة للوقوف على ما هو خارج فعل الملاحظة والتحقق من أن الواقع ليس في الحقيقة متطابقًا مع الملاحظة (ما شأن هذا التحقق إلا مزيد من الملاحظة، التي تحبط الهدف المقصود من هذه الممارسة)، فمن أين إذًا تلك الثقة في أن الملاحظة تقدم لنا رؤية صحيحة للعالم؟[9]
لاستعادة الثقة توسل ديكارت بالإله الذي لا يخدعنا أبدًا[10]، واتخذ كانط مقاربة أكثر علمانية؛ حيث رأى أن عقلنا لديه دور فعال في تركيب المظاهر والظواهر التي تقدمها لنا الملاحظة[11]، وقدم هذا بعض الموضوعية إلى العالَم الظاهراتي، لكن بالنسبة لـكانط الشيء في ذاته (noumena) الذي يقف وراء المظاهر لا يمكن معرفته، وبالتالي يتلاقى مع قول لوك "لا أعرف ما هو".
أما باركلي فقد قلب الإشكال على رأسه، فبالنسبة له لا عقل مستقل عن العالم أو المادة أو غير ذلك قد يُلاحظ، لكن العقول فقط (في فعل الملاحظة) تعطي الواقعية إلى الأشياء، لا تنكر مثالية باركلي واقعية الأشياء، بل قدرة الأشياء على أن توجد بعيدًا عن العقول، فبالنسبة له لا بد من أن تُدرك الأشياء (جاعلاً الموضوعات المادية تعبيرًا بفعل العقل لا العكس) كما هو الحال عند الماديين[12]، قد تبدو خطوة باركلي خطوة إلى الإمام في فهم العلاقة بين الملاحظ والعالم، لكن بعدها نحن بحاجة إلى تحقيق في طبيعة الملاحظين والملاحظة.
يبدو أن ما تقدمه الملاحظة لنا في أبسط صورها ملاحظين كاملي الأهلية، بل خبرات حسية، بل وشكية هيوم يمكن اعتبارها رد فعل لباركلي؛ حيث إن التجريبية المحضة لا تقود إلى ملاحظين، بل إلى خبرات حسية تقوم عليها الملاحظة.[13]
تحاول فلسفة العلم من كانط مرورًا بـإرنست ماخ إلى حلقة فيينا في العشرينيات والثلاثينيات، تركيب الخبرات الحسية بطريقة تتفادى الشك، وتفسر كيف يمكن للعلم أن يُعتبر معرفة (في الواقع هو أفضل شكل من أشكال المعرفة)، رأى كانط مثلًا أن التركيب يتطلب الهندسة الإقليدية (أو المستوية)، والتي ساعدته في تأمين علم نيوتن، لكن بمرور الزمن أتت حلقة فيينا مع أينشتاين، وتتطلب التركيب هندسة غير إقليدية (أو منحنية).
ركزت حلقة فيينا خصوصًا على المنطق في تركيب الخبرات الحسية (ولذا وصفت حركتهم بـ "الوضعية المنطقية" أو "التجريبية المنطقية)، لم يكن هذا منطق أرسطو، بل منطق قوي جديد طوره عدد من فلاسفة الرياضيات كـجوتلوب فريجه وبرتراند راسل وكورت جودل[14]، لكن للأسف لم تستطع الخبرة الحسية (حتى بعد أن بُينت في لغة صورية وركبها عدد من أقوى المناطقة) على الحصول على ما هو أبعد من الخبرة الحسية، فضلاً عن إثراء الواقع الذي ندركه في لحظاتنا الشحيحة (عند تأملنا مثلاً للخير والحق والجمال).
رأينا في الفصل الثالث ما يمكن تسميته "مشكلة تانج"، وطبقنا ذلك على المادية، فبمجرد أن يجزّأ المشروب الصباحي "تانج" عصير البرتقال إلى مسحوق مكوّن من مجسمات عصير البرتقال، لا يمكن أبدًا إعادته إلى عصير برتقال تام طازج، وكذلك المادة، عندما تُرد إلى عناصرها الأساسية نفشل في الحصول على الواقع بتمامه.
في الواقع رغم الملاحظات المقتصدة لعدد من الماديين لا تقدم لنا المادة أي دليل على امتلاك الوسائل اللازمة لإتمام مهمة إعادتها، ويختلف الماديون مع هذا التقييم المتشائم للمادة، ومن ثم يدافعون عن واقع مادي مستقل ماديًّا في وجوده عنا، ولطالما كان الماديون واقعيين فلسفيًّا، متبنيين ميتافيزيقا أو فلسفة أولية تقتضي أن الواقع الكامن وراء المظهر مستقل وجوديًّا عنا (والواقع في هذه الحالة مادي خالص).
أما التجريبيون المناطقة فعلى العكس، رفضوا الميتافيزيقا[15]، جاعلين من الخبرة الحسية (في أكثر صورها المباشرة والتحليلية: "أمامنا لون أحمر")، كأساس لفلسفتهم، وبطبيعة الحال لم يقدروا على النظر إلى ما وراء مظهر (يكمن المظهر في الخبرة الحسية) أي واقع تحتي (الذي تهتم به الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولية)[16]، وبالتالي كان التجريبيون المناطقة مضادين للواقع، وليسوا واقعيين، ورغم ذلك واجهت الخبرة الحسية (كما تصورها التجريبيون المناطقة) نفس مشكلة تانج التي واجهت المادية.
مهمة المادية هي إظهار كيف يعاد تشكيل العالم ماديًّا، ومهمة التجريبية المنطقية بيان كيف يعاد تشكيل العالم حسيًّا، رغم أن التجريبية المنطقية انهارت في الأربعينيات والخمسينيات، حيث تبين أن فهمها التحققي للمعنى إما غير متماسك أو غير قابل للحل، وكان كتابها الأخير في نظري هو ما نشره رودلف كارناب عام 1928: "البناء المنطقي للعالم".[17]
كتب كارناب بالألمانية، وحتى هذا العنوان مترجم من العنوان الأصلي الألماني: "Der logische Aufbau der Welt"، وكلمة "Aufbau" كلمة ديناميكية تشير إلى الفعل والبناء العلمي، والكلمة الإنجليزية المستخدمة في ترجمتها " structure" كلمة ساكنة، فأفقد هدف عنوان الكتاب وكذلك هدف الكتاب.
كانت مهمة كارناب في كتابه رسم كيف يمكن إعادة تشكيل المعرفة الإنسانية من خلال الفاعلية المنظمة للمنطق على خبرتنا الحسية (أو بشكل أدق: الخبرة الحسية كما تُلفظ في اللغة الصورية)، لكن كان الكتاب خطوطًا عريضة لإعادة بناء التجريبية المنطقية لكل العلوم، وحتى القراءة المسحية السريعة للكتاب تبين أن هذا المنطق والخبرة الحسية معًا أقل شأنًا بكثير من إعادة بناء العالم، حتى لو تمسك التجريبيون المناطقة بأن ذلك العالم هو عالم الظواهر (في مقابل تمسك الماديون بعالم مادي مستقل وجوديًّا).
يحاول كارناب في كتابه "البناء المنطقي للعالم" أن يجعل للعلم معنى وفقًا للعلم (حتى الباراسيكولوجي![18]، لكن لم يقدم تفاصيل البناء المنطقي الكامل من حيث الخبرة الحسية، وما كتبه كارناب بعد ذلك وزملاؤه لم يملأ تلك التفاصيل.
هذا التاريخ المختصر لفلسفة العلم مفرط البساطة بلا شك، لكنه منوِّر، ليس فقط لأنه يبين كيف أن المادية والتجريبية (سواء في دمجهما أو انفرادهما) فشلتا في دعم الموارد الضرورية لتصور مناسب للعالم، بل لما يكشف عنه من سبيل نمضي فيه قدمًا، إن مشكلة المادية والتجريبية في إعادة بناء العالم (سواء من منظور المادة كأساس أو الخبرات الحسية كأساس، على الترتيب) معلوماتية في الأصل، فعندما نقوم بالممارسة العلمية لا نلتقي بالمادة في حالتها الخام ولا نلتقي بالخبرات الحسية في حالتها الخام، بل نواجه نماذج معينة فنستبعد نماذج أخرى.
بعبارة أخرى: نحن نواجه معلومات، أما السمات الحسية والمادية المرتبطة بتلك النماذج فثانوية، وفي واقع الأمر هذه السمات نفسها منمذجة، وبالتالي معلوماتية، إن النماذج (أو ما يعادلها من أنواع المعلومات المتصورة) أساسية.
يوحي اتخاذي للنماذج كأساس أنني أدافع عن الأفلاطونية، لكني لا أفعل، فالنماذج التي أتحدث عنها لا تكمن (أو على الأقل لا تكمن حصرًا) في السماء الأفلاطونية، بل النماذج التي أتحدث عنها تتعلق بما هو قريب وشخصي، فكر في العمل المتأخر لمصادم الهدرونات الكبير لاكتشاف بوزون هيجز؛ فـبوزون هيجز كما هو جسيم أساسي في الفيزياء المعاصرة هو قادر على التعامل مع التكنولوجيا الحالية.
يحتاج الفيزيائيون في الواقع إلى مصادمات تعمل عند مستويات طاقة أعلى تريليون مرة من مصادم الهدرونات الكبير (ومن ثم بقطر النظام الشمسي بأكمله) للكشف عن بوزون X و Y (الجسيمان الأساسيات اللتان تنبأت بهما النظرية الموحدة العظمى) والخطوة التالية هي الأعلى في حديقة الجسيمات[19].
لكن ما هي هذه الجسيمات؟ وكيف تظهر نفسها إلينا؟ الجسيمات الأساسية ليست موضوعات للحدس المباشر، ولا بديهية، ولا يمكن ملاحظتها بأي حس مباشر، بل بالكشف عن جسيمات لها "توقيع" مميز تنبأت به نظرية فيزيائية (يتحدث الفيزيائيون عن "خلق" هذه الجسيمات من خلال التركيز الدقيق لطاقات عالية بطرق دقيقة، ثم تسجيل القطع المبعثرة من التفاعلات التي تتضمن هذه الجسيمات).
كتب صديقي العزيز وزميلي ستيفن ماير كتابًا بعنوان (توقيع في الخلية)، يدلل فيه على أن الحمض النووي للخلية يحتوي على معلومات من النوع الذي لا يمكن اختزاله إلى عمليات مادية خالصة، بل يحتاج إلى ذكاء.[20]
لا يهم هنا ما إذا كان مصيبًا أو مخطئًا فيما يتعلق بأن الخلية نتاج للذكاء، ما أريد لفت النظر إليه هنا هو أن عنوان هذا الكتاب يبرز بحق كل تداولات العلم في العمليات التي تترك توقيعات (التي تُظهر نماذج مخصصة معينة وتستبعد أخرى)، أو بكلمة أخرى: كل تداولات العلم في المعلومات أصلاً، ما كتبته ليس تصديقًا على الذرائعية أو الأداتية التي تعرف الجسيمات بنماذج تفاعلاتها أو نشاطها فقط، بل يسعدني أن أعتبر الموضوعات الفيزيائية حقيقية، لكن حقيقيتها دائمًا ما يُستدل عليها من النماذج في نظري، وهي المعلومات التي تخلفها.
كقاعدة عامة: نعرف الشيء بما يتركه من نماذج، فمجال الجاذبية مثلاً يؤدي إلى نماذج معينة من الحركة فيما بين الجسيمات الضخمة، علاوة على أن هذه الجسيمات تُظهر كتلتها من خلال نماذج معينة من التفاعل مع بعضها البعض ومع مجالات الجاذبية، وبالتالي ندرك في مهد نيوتن أن الكرات لديها كتلة لأنها تُظهر نماذج من الحركة، هنا دائرية ما، لكنها ليست دائرية مفرغة، ويمكن تجنبها، لأن نماذج التفاعل (بمجرد وجودها) يمكن أن يُدقق فيها من خلال البحث عن أنماط مزيدة من التفاعل لم تظهر بعد (في الحقيقة؛ في فعل الملاحظة وجود نموذج التفاعل نفسه بحاجة إلى أن يُتفاعل معه)، أما العين التي تنظر من أعلى فترى الأشياء دون تفاعل فلا يمكن أن توجد هذه العين، ولا حتى بالنسبة للإله، إن مشكلة القياس في ميكانيكا الكوانتم حالة خاصة من هذه المشكلة العامة.[21]
إذن ما هو حقيقي وفقًا لهذا المنظور المعلوماتي هو قدرة الشيء على إنتاج مجموعة مميزة من النماذج، بعبارة أخرى: لنقول: إن لشيء ما وجود ومن ثم حقيقي هو أن نصفه بأن له القدرة على إنتاج أنواع معينة من المعلومات واستبعاد أخرى، وبمصطلحات أرسطو قد نقول أن الواقعية هي مقياس من حيث القدرة على إنتاج المعلومات.
رغم تعاطفي مع أفلاطون وأرسطو لا شيء مما أقوله هنا يتضمن تمثيلاً مجملاً لفلسفتيهما، فأنا أعمل على مستوى مألوف تمامًا، فنحن نعرف الأشياء بالنماذج التي تخلفها، وقدرتها على ترك تلك النماذج تشكل هويتها وتجعل منها حقيقة.
أين تكمن تلك النماذج؟ إنها تكمن في العالم (العالم الفعلي)، ونحن نكتشفها بتحديد مصفوفات احتمالية، ثم تحديد أي الاحتمالات داخل هذه المصفوفات قد تحققت لتستبعد احتمالات أخرى (تذكر الفصل الخامس)، وبالتالي لتحديد ما إذا كان هيجز بوزون حقيقيًّا أم لا ينظر المرء إلى القطع المبعثرة المختلفة احتماليًّا (المصفوفة) التي قد يلقي بها إعداد معين لمصادم هادرون الكبير، ثم تحديد ما إذا كانت قطعة مبعثرة وُجدت فعليًّا تتسبب في نموذج مميز تنبأ به نموذج قياسي لفيزياء الجسيمات، علمًا بأن ما أصفه هنا ليس إعادة بناء مثالي لما قام به فيزيائيو المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) بل هو ما قاموا به بالضبط.[22]
هذا ما يقوم به الفيزيائيون بشكل عام، وهو تحديد مصفوفة احتمالية ثم تحديد الاحتمالات المتحققة، وكل التجارب تتبع تلك الإجراءات، كتجربة قطرة الزيت لروبرت ميلكان، وتجربة الغرفة السحابية لشارلز ويسلون، وتجارب البازلاء لـجريجور مندل وتأكيد آرثر إدينجتون للنسبية العامة من خلال مشاهدة كسوف الشمس بل وحتى استخدام تشارلز داروين الجغرافيا البيولوجية لدعم التطور.
لا شيء في المقاربة المعلوماتية للتحقيق العلمي ينتهك التجريبية، سواء في المعنى الروحي أو الحرفي؛ حيث إن ما تقوله الملاحظة لنا ما إذا كانت احتمالية ما قد تحققت داخل مصفوفة احتمالية ما، ومن ثم تحفظ المقاربة المعلوماتية للمراقب دوره الحاسم في العلم، لكن المقاربة المعلوماتية للتحقيق العلمي تستغني عن التظاهر بأن الملاحظة يمكن أن تستقل عن سياق التحقيق، أو ما هو أسوأ من ذلك: يمكن أن تُبنى من الخبرات الحسية الأساسية.[23]
لا يمكن أبدًا أن تأتي الخبرات الحسية إلينا منفردة، ولكن يتم تركيبها دائمًا في إدراكات كاملة، ولا تحدث الإدراكات أمام صفحة بيضاء، بل دائمًا منحازة بانتباه في ضوء الاهتمام والمعرفة الخلفية، توجه المصفوفة الاحتمالية انتباهنا وتدعونا إلى تلقي نماذج معينة تستبعد أخرى.
إن البيانات الحسية للتجريبيين المناطقة متدفقة منطقيًّا من هنا (متدفقة بفارق كبير) ومن الاهتمام العلمي العارض، في الواقع يمكن للعديد من التركيبات المختلفة للبيانات الحسية أن تسفر عن نماذج متماثلة لها نفس الأهمية العلمية (كما يجد العلماء المصابون بعمى الألوان إزعاجًا بسبب ذلك، لكن ليس عقبة أساسية أمام البحث العلمي).
أين ما تخلفه المادة إذن؟ إن المادة رائعة بقدرٍ ما، لكن ليس بالقدر الذي يريده الماديون، فالمادة (كتجريد من أنواع مختلفة من الموضوعات المادية) لا تترك أي نموذج أو توقيع مميز، ولذا فالمادة من منظور المعلومات ليست حقيقية.
الثابت أن هناك أنواعًا مختلفة من المادة حقيقية أو قد تكون حقيقية، فكل الجسيمات التي لها كتلة مثل البروتونات والإلكترونات والجسيمات عديمة الكتلة تقريبًا؛ كالفوتونات والنيوترونات ومجالات الطاقة والمادة السوداء والطاقة السوداء والأوتار، والأوتار الفائقة، والأغشية... إلخ يمكن أن توصف بالحقيقية، لكن للقيام بذلك يجب أن يَعرض كل نوع من أنواع المادة توقيعًا مميزًا في ظروف محددة (أي في علاقة مع أشياء معروف أنها حقيقية).
رغم ذلك فمادة على هذا النحو ليست حقيقية، بل فقط تجريد، كما أن فكرة "متوسط الأطفال في الأسرة الأمريكية هو 2.3 طفل" فكرة تجريدية، مثل هذه التجريدات لديها بعض الارتباط بالواقع، لكنها نفسها ليست واقعية.
إذن هل باتخاذي مقاربة معلوماتية للتحقيق العلمي يعني أنني تخلصت من المادية بإجراء تعريفي؟ إذا كان الحال كذلك فسيكون سهلاً جدًّا، في الواقع المادية ما زالت خيارًا قائمًا، لكن يجب الآن أن ترسخ نفسها بكدح شريف وليس بانتحال الامتيازات التي لم تكتسبها.
لا يكفي المادي أن يقول: "كل شيء مادة، أثبت أني مخطئ"، بل يجب عليه أن يرسخ أن كل شيء مادة أصلاً، والسبيل إلى ذلك هو أن يمدنا بلائحة كاملة للموضوعات المادية الأساسية (تسرد الأنواع المختلفة من الموضوعات المادية جنبًا إلى جنب مع توقيعاتها المميزة)، ثم يبين أن كل الواقع كما نعرفه يمكن أن يعاد بناءه بصورة يمكن تعقلها.
لاحظ أننا الآن نفتقر إلى هذه اللائحة الأساسية، ناهيك عن كيف أن كل هذه الكيانات (الجسيمات) الأساسية يمكن أن تعمل معًا لإعادة بناء الواقع، إن المادية في جوهرها مشروع اختزالي (الاختزال إلى المادة)، ويجب أن تفصّل هذا الاختزال إلى صور معينة تتخذها المادة، لا مجرد التأكيد على هذا الاختزال كمقالة إيمانية.
في جعل المعلومات الأساس لا يعني الانتقاص من أهمية المادة، فالمادة لا يزال مسموحًا لها أن تثبت نفسها، لكن لا كفكرة مجردة، بل في صور معينة لها؛ فحيث إن المادة تتخذ صورًا معينة تُظهر توقيعات مميزة، وبتلك التوقيعات (لا غيرها) يمكن لنا أن ندرِك، وأي شيء وراء هذه التوقيعات سيُستدل عليه.
خذ مثلا جسيم ألفا أو بيتا متحركًا خلال غرفة سحابية، سيخلف جسيم ألفا الأثقل مسارًا مميزًا (توقيع) يختلف عن جسيم بيتا الأخف، ومن هذه التوقيعات نستدل على وجود هذه الجسيمات، وأن نفرق بينها.
وفي حالة أي موضوع مادي عمومًا مثل هذه الاستدلالات موثوقة، ولا خلاف فيها، لكن واقعية هذه الموضوعات المادية تتوسطها التوقيعات، والتي تأتي من خلال النماذج، وذلك من خلال المعلومات المميزة لهذه الموضوعات.
السؤال المطروح الآن هو: ما هو الأكثر واقعية، الموضوعات المادية أم الخصائص المعلوماتية للموضوعات المادية؟ سأقول: إن المعلومات هي الأكثر واقعية، فالمشكلة أننا لا يمكن أن نحصل على ما هو خارج المعلومات لنعانق المادة كما هي، الأمر لا يشبه فيلم " The Matrix"، الذي يمكن للناس فيه أن يخرجوا من المصفوفة ثم يرون أنفسهم داخل المصفوفة دماغًا في وعاء، فنحن نعيش ونتحرك ونوجد داخل مصفوفة معلوماتية، ولا يمكننا الخروج منها.
علاوة على ذلك؛ وفقًا للتقرير اليهودي المسيحي عن الخلق قد لا يوجد هناك أي خارج، فلو كان الخلق كلمةً فعالة تحدث بها الله[24] (كما يُعلّم هذا التقليد الديني) فالخلق نفسه فعل معلوماتي ابتداءً، علاوة على أن الفعل الممتد لهذا الخلق من جميع جوانبه سيكون سلسة من الأصداء الناجمة عن هذا الفعل الابتدائي، وبالنظر إلى هذا التقرير عن الخلق يصبح البحث عن البنية الأكثر أساسية للواقع من المعلومات عقيمًا، على أي حال هذا البحث سيكون دائريًّا، فلا يمكن أبدًا الحصول على ما هو خارج دائرة المعلومات.
* ملحوظة:
هذا المقال هو من كتاب (كومينيون: ما وراء طبيعة المعلومات) للمزيد يرجى مراجعة
الكتاب (نقلا عن مركز براهين).