هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
القدوة المنسيَّة والنموذج الغائب، نموذج الصحابيّة الصالحة التقيّة المُربِّية والحَيِيَّة، التي نكاد لا نجد مكانًا لذكرها في خضمِّ المنازعات النسويّة الذكوريّة عن مكان المرأة المناسب بين المطبخ والوظيفة، حيث يتجاذبها قطبا الخضوع للزوج أو لرب العمل، وكأنّ التطرّق لهذه النماذج ترفٌ كلاميٌّ وتكلّفٌ في غير وقته.
إن الخطابات النسائية الحديثة تحمل شعورًا ملازمًا بضرورة تجاوز هذا النموذج إلى ما هو أكثر مناسبة لواقع حاليٍّ متعطّش لسَوق نماذج الصحابيات المجاهدات والمتاجرات والعاملات.
بَيد أنّ ما يجعل الصحابيات رضي الله عنهن قدوة للمسلمات في المقام الأول هو اتباعهنّ لشرع الله سبحانه ولهدي نَبيِّه، وبامتيازهنّ بالورع والحياء والخوف من الله، وصبرهنّ في سبيل الحق، وحفاظهنّ على أداء الواجب دون التخلي عنه في سبيل المباح أو المستحب.
ومع إغفال تلك الأركان الأساسيّة السالفة الذكر من سِير الصحابيات، تظهر سِيَرهنَّ كالأساطير، منقوصةً فارغةً من عبرتها ومضمونها، ويظهر الخطاب بدوره فاقداً لواقعيّته وتوازنه المنشود.
بين هَرَمُ الأولويات وسيدة نساء العالمين
لمَّا كان خير الهدي هدي نَبيِّنا، وخير قدوة للمسلمات من بعده هنَّ أمهات المؤمنين وآل بيت النبي من النساء والصحابيات، فلا جَرَمَ أنّ الاقتداء بهنّ في الواجب يكون سابقًا للاتباع في المباح والمستحبّ، ومن يقفز فوق الواجب متجاوزاً له، متجاهلاً لما هو أصلح وأحفظ للدِّين، فقد خاض مع الخائضين وترك المحكم إلى المتشابه.
ومن السِّيَر الشّبه غائبة عن الأوساط المعاصرة سيرة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها، سيدة نساء عالمها والعالمين من بعدها، ابنة إمام المُرسلين محمد ﷺ من زوجته خديجة أم المؤمنين، وزوجة عليٍّ رضي الله عنه، وأمّ رَيحانَتَي رسول الله الحسن والحسين.
عن فضلها روى أحمد في المسند: (خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ) [أخرجه أحمد في المسند]
وقد يعود سبب التغيِيب -المتعمّد ربما- إلى ما تَحمِله هذه السيرة المباركة من قِيَمٍ تتفوّق على قيم العصر اللّاهثة خلف تحرير المرأة، وعلى الرغم من تفوّقها عليهم إلَّا أنّها سيرة قريبة من حَيَوات غالب النساء، واقعيّة تشابِهُهم، عندما تُبحر في جمالها لا بدَّ وأن تَجد فيها أيّ فتاة السَّلوَى مهما تعدَّدت الظروف وتفرّقت الأحوال، السَّلوَى لكل فتاة يتيمة الأمِّ، ترى أباها يؤذى ويحارب في سبيل الحق، ولمن تجاهد في سبيل الالتزام بدين الله مع كل الفتن المحيطة بها، ولكل فتاة فارقت بيت والدها إلى بيت الزوجيّة متجهّزة لحياة صعبة تفيض بالمسؤوليات، وللزوجة والأم المنهكة من الخدمة في منزلها ولا معين لها إلّا الله، ولكل امرأة زرعوا فيها وهمًا أنَّ رعاية الأسرة وطاعة الزوج في المعروف وتربية الأبناء مع الصبر والاحتساب يجعلها أدنى قيمةً، وهي عند الله عظيمةٌ في الدنيا والآخرة بإذنه تعالى.
وبحسب ما ورد لم تروِ فاطمة رضي الله عنها من الأحاديث الكثير فنقلت عن رسول الله خمسة عشر حديثًا، واحد منهم متَّفق عليه[3]، لم تكن صاحبة تجارة ومال، وعرف عنها وعن زوجها الفقر الشديد، لم تعمل في حسبةٍ ولا في قضاء ولم تحمل بيدها سيفًا واكتفت بالتطبيب وغيره مما يستعان عليه بالنساء في المعارك عند الحاجة، فما الذي جعلها سيدة النساء في الدنيا والآخرة؟ وخيرُ قدوةٍ لهن؟
قال رسول الله ﷺ: (حسبُكَ مِن نساءِ العالَمينَ مَريمُ بِنتُ عِمرانَ، وخَديجةُ بِنتُ خوَيْلدٍ، وفاطمةُ بِنتُ محمَّدٍ، وآسيةُ امرأةُ فِرعَونَ) [أخرجه الترمذي في المسند وهو صحيح]، “أي: يَكْفيك من النِّساءِ الواصلةِ إلى مَراتبِ الكمالِ في الاقتِداءِ بهنَّ، وذكْرِ مَحاسِنِهنَّ ومَناقبِهنَّ، وزُهدِهنَّ في الدُّنيا وإقبالِهنَّ على العُقبى، فتَكْفيك مَعرِفَتُك بفضْلِهنَّ عن مَعرفةِ سائرِ النِّساءِ”.
لا يغني النسب
ارتباط نسبها بدخولها الجنة مَنفِيٌّ، وإن زادها النسب شرفاً ورِفعةً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. [أخرجه البخاري في الصحيح]، لأنّ “المعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولاً وعملا واعتقادا، أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي، كما قال ﷺ: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة، ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء”.[من مجموع فتاوى ابن باز بتصرف (3/98)].
وهنا نسأل: ماذا كان صنيعها حتى استحقّت هذا الشرف والفضل؟
بِرُّها برسول الله أباً ونبياً
كانت تساند أباها في دعوته الشاقة وترعاه وتُخفِّف عنه ما يلقاه من أذى المشركين، وقد أوتيت من العزّة والشجاعة في سِنٍّ صغيرة ما جعلها تقف في وجه ثُلَّةٍ من المشركين تنهرهم وتشتمهم على استهزائهم برسول الله وهي تزيل أحشاء الإبل من على كتف أبيها بعد أن رماها أشقى المشركين عليه أثناء صلاته أذية له.
وكانت أقرب بناته إليه وأكثرهنّ شبهاً به، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبَه سمتًا وَهديًا ودلًّا برسولِ اللَّهِ ﷺ من فاطمةَ كانت إذا دخلت عليهِ قامَ إليها فأخذَ بيدِها وقبَّلَها وأجلسَها في مجلسِه وَكانَ إذا دخلَ عليها قامت فأخذت بيدِه فقبَّلتهُ وأجلستهُ في مجلسِها. [سنن أبي داود]
وهي أول أهله لحوقا به بعد وفاته، عن عبد الله بن الحارث، قال: [مكَثت فاطمة بعد النبي ﷺ ستة أشهر وهي تذوب][5]، حزناً على فراقه ﷺ.
العفة والحياء
لازمت صفة الحياء فاطمة وعرفت عنها، وكيف لا ووالدها كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، فقد روى البزار عن علي رضي الله عنه أنه كان عند رسول الله ﷺ فقال: أي شيء خير للمرأة فسكتوا، فلما رجعت قلت لفاطمة: أي شيء خير للنساء؟ قالت: لا يراهن الرجال، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: إن فاطمة بضعة مني.
وعن ابن عبد البر: فاطمة رضي الله عنها أول من غطى نعشها في الإسلام” ، فقد استقبحت ما يُفعل بالنساء بعد الموت حيث يُطرح عليها الثوب فيَصِف جسدها، فطلبت من أسماء بنت عميس أن تُغطِّيها بعد موتها بطريقةٍ عرضتها عليها أسماء قد سبق أن تعلّمتها في الحبشة[8]، فقد بلغ الورع والحياء بها مبلغاً جعلها تهتمّ بستر جسدها بعد الموت، فأين نحن من هذا وفينا أقوامٌ يحلِّلون فعل المكروه والمنكرات ما يعجز اللسان عن وصفه لأجل ما يسمى ليلة العمر.
صبرها على التقشف والفقر
“وهكذا كانت حياتهم في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد، وهي إلى شَظَف العيش أقرب منها إلى رغده” ، فقد كانت بداية حياة عليّ وفاطمة الزوجيّة رضي الله عنهما، بصداق زهيدٍ وزَفّة متواضعة وبيت صغير بسرير و وسادة وإناء و وعاء وحصير، ولو أنّ أباً في هذا الزمان زوج ابنته كتلك الزِّيجة لقال قائل قد فرَّط الأب بابنته – حاشى لله ورسوله – ولكنه ﷺ أحبّ لابنته رجلاً يحبه من آل بيته ذو فضل وحكمة وقوة، وامتثالاً لأمر الله بتزويجهما، وما كان من فاطمة إلّا الرضى بأمر الله على علمها بفقر زوجها، فقد قاست الجوع الشديد وتَمَلَّك منها التعب، تعمل في بيتها وتطحن الحبَّ بتدوير الحجر الثقيل فوقه لتصنع منه خبزاً لعائلتها، حتى أُنهكت وتَورّمت يداها، ولم يكن زوجها أفضل حالاً منها.
ولما بلغ الجهد منهما مبلغاً شديداً، ذهبت فاطمة إلى أبيها تطلب على استحياءٍ خادماً لها ولزوجها من الأسرى، فقوبِل الطلب بالرفض مع رؤية النبيّ لحالِ ابنته وهو أشدّ الناس اشفاقاً عليها، وذلك لأنّ الحكمة والعدل يقتضيان دفع الضرر عن الأُمة بما هو أولى من إطعام بطون الجياع من أهل الصُّفّة، وبقي لهما ﷺ الأب الحاني المعلم يعلّمهما الذّكر والصّبر ويدعو لهما ويذكّرهما بالآخرة، وقسّم بينهما العمل، فاطمة في الأعمال الداخلية وعليّ في الخارجية فرضيت رضي الله عنها بحكمه ولم تكثر عليه لئلّا تستعطف أو تستجدي قلب الأب العطوف.
التأدّب مع الزوج وحسن المعشر
لقد عاشت مع زوجها عليٍّ صابرة محتسبة، لا تُكثر الشكوى والتذمر، وفي قصّة الميراث الشهيرة بين أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما لطيفةٌ صغيرة تدلّنا على حسن تعامل فاطمة مع زوجها، روى البيهقي بسند عن الشعبي أنه قال لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق، فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر الصديق يستأذن عليك؟ فقالت أتحب أن آذن له، قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها… ثم ترضاها حتى رضيت] ، قال الذهبي معلقاً: عملت السنة رضي الله عنها فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره وما ذاك إلا إحسان وزيادةٌ في الأدب لتستأذن زوجها في أمر يخصّها وقد سبق وعرضه عليها، فكيف بأمورٍ أسرية تشاركيّة أكثر خصوصية؟.
ولفاطمة من المناقب الكثير وما تقدم من القول إلا غيض من فيض، فقد كانت تقية صِدّيقة، عن رواية الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدًا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي وَلَدها.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء “وقد كان النبي يحبها ويكرمها ويسر إليها. ومناقبها غزيرة. وكانت صابرة دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله” فما أفضلها من قدوة وما أحسنها من سيرة ترتاح القلوب لذكرها وتطمئن، فحَرِيٌّ بنا ألّا يفارقنا شذى عطر سيرتها المباركة.