رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

محسن ديدوش يكتب: الحركة النسوية.. سجال فكري في ساحات تروم الإصلاح

  • جداريات Jedariiat
  • الثلاثاء 06 ديسمبر 2022, 6:12 مساءً
  • 346

في زمن بلغت فيه المذاهب الفكرية المادية التي تفسر حاصل ما في هذا الكون كله بالتفسير المادي مبلغًا عظيمًا، وفي ضوء هيمنة النسوية المنبثقة عن الفلسفة المادية في الغرب، واعتلائها مناصب السلطة في محاولة للمساواة بين الرجل والمرأة في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية، تبلورت في العالم العربي والإسلامي بصفة عامة حركات نسوية تتبنى المفاهيم النسوية الغربية وتسعى إلى تطبيق مفاهيمها نهاية القرن التاسع عشر.

 

طرحت هذه المفاهيم منذ ظهورها مواقف عدة في المجتمعات الإسلامية على اعتبار أن التعاليم الدينية للمسلمين لا تتوافق مع المفاهيم التي تدعو إليها هذه الحركة، فالمؤيد للمرأة والمدافع عن حقوقها والذي يرى أن المرأة مظلومة حاول أن يستقي من الوحي الرباني -القرآن الكريم- ما يدعم موقفه النسوي ويعززه، والمعارض يرى أن هذه الحركة مستوردة تسعى إلى افساد المرأة المسلمة لتخرجها من بيتها إلى مستنقعات الذل والعصيان، من هذا وذاك نشأ السجال الفكري حول قضايا المرأة المسلمة.

 

ضوابط الخوض في السجال الفكري

أولًا: دعونا نتفق على أن كل من يخوض في هذا الحديث قوله مردود عليه إن صح دليل أقوى من الطرف المخالف له، وبأن كل الأقوال والأفكار التي تم طرحها وصياغتها ليست وحيًا من عند الله تعالى فلا داعي للتعصب وتغليب العواطف.

 

ثانيًا: نحن لا نناقش الأشخاص، وإنما الأفكار محل حديثنا والخلاف القائم بيننا، لهذا يجب القول: إن تقديس البعض منا للأشخاص على ما هو حق، أقرب طريق إلى التخلف والسقوط بهذه الأمة، واستحضار قاعدة “كل بني آدم خطاء” أقرب طريق للعودة إلى سالف عهدنا وقوة عزمنا وانتشار تعاليم ديننا.

 

إعمال العقل وحمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وراجحه ومرجوحه، وصوابه من غلطه عن طريق النقد البناء الذي غايته الوصول إلى الحقيقة، ثقافة مكتسبة يجب علينا أن نسعى إليها وقد سبقنا لها علماء الإسلام في الرعيل الأول، فهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: “ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط”، وقال: “كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله ﷺ” [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/32]، وبهذا فإن علماء الأمة ومصلحيها كلهم مجتهدين في أقوالهم منهم المصيب ومنهم المخطئ من أصاب له أجران ومن أخطأ له أجر، ولكل جواد كبوة والحق لا ينفرد به بشر إلا أن يكون رسولًا له العصمة والكمال.

 

ثالثا: ثمة علماء أجلاء يبحثون في “التأصيل المنهجي لقضايا المرأة” بهدف إبراز المنهج الصحيح الذي جاءت به الشريعة الغراء، وفق مجموعة من الدلائل المستقاة من “القرآن والسنة”، لكن ضغط الواقع وطغيان العولمة، جعل تطبيق هذا التأصيل أمرًا أشبه بالمستحيل، إذ أن النظام العالمي القائم اليوم لا يقبل بأي شيء أصله قائم على تعاليم الدين، ومثال على ذلك، الكلام المستمر والتأصيل الدائم لتطبيق الشريعة في البلدان الإسلامية، إلا أن الواقع يقصي تطبيق الشريعة على الدوام.

 

 

 

فكل من خاض في هذا الموضوع لم يصلوا لمبتغاهم رغم جهدهم الكبير، فهم حملوا أنفسهم على قول الحق والثبات عليه، من غير مداهنة أو تلبيس أو خلط الأبيض بالأسود، للحصول على ذلك اللون الرمادي الذي دائما ما يرضي من غلب عليهم الهوى والذين ربطوا قلوبهم بحب الدنيا وملذاتها.

 

كما وجب على القارئ أن يستحضر كذلك أن محاولة التنظير التي يخوض فيها هؤلاء المصلحين، قد تصبح فكرة قائمة على أسس واقعية في مستقبل الأيام، وقد نُقِل عن ابن القيم كلامٌ بديع ما أراه يصلح إلا لهذا المقام حيث يقول في كتابه مدارج السالكين: “وقد كان الأولى بنا طيُّ الكلام فيه إلا ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله، غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها.. وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.

 

فلا تحملنك العاطفة على قول غير الحق، أو اتباع شيخ تحبه على مصلح آخر لا تحبه، وإن وافق كلامه الحق، واستحضر كلام الكاتب إبراهيم البليهي: “إذا بالغت أية أمة في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند إنجازات أولئك الأفذاذ فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو باستمرار” [من مقال تقديس الأشخاص أقرب طريق إلى التخلف والسقوط]

 

إن قضايا المرأة في عصرنا الحالي “في الدول العربية خصوصا” تأخذ الحصة الأكبر من الصراع الفكري القائم بين مختلف الطوائف، وقد استحوذت هذه القضية على عقول المصلحين والمنكرين وكذا المبغضين والناقمين، فحدث السجال، ونشأ الصراع، ومن كل طرف وجهت التهم، فهذا طرف يتهم الآخر بالتحجر والعيش في عصر الخيام وحلب النياق، وآخر متهم بإفسادها وإخراجها من بيتها وحصنها إلى قفص تعيش فيه ذئاب بشرية عطلت عقلها واقتصرت على إعمال غرائزها.

 

من يخوض في السجال

وبعد أن أثبتنا سابقا المنهج الذي نراه صوابا في طرق التعامل مع صراع الفكرة، وكيف يجب أن ننظر إلى الدليل لا إلى من قال الدليل، وكيف نستقبل الأقوال على أساس أنها قائمة إما على الصحة أو الخطأ. رأيت أن الفرق التي تخوض في التنظير لهذا الموضوع على ثلاثة أقسام سوف أحاول أن أذكرها بشكل موجز من غير تفرع أو توسع في الحديث.

 

الفرقة الأولى

المنبهرون بالغرب.. وهؤلاء قد قدموا الولاء التام للحضارة الغربية، ويقولون بوجوب اتباع الغرب في كل شيء من أجل تحقيق النهضة، وهم الذين قال فيهم ابن خلدون ” المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب”، وهم أتباع المذهب العلماني والنسوي والليبرالي.. إلخ، وقد يقدم أصحاب هذه الفكرة الغالي والنفيس في سبيل تحقيق طموحات الغرب وإن دعا ذلك إلى زرع جرثومة “الفكرة الخبيثة” في المجتمع الذي تعيش فيه وتأكل من أكل أهله.

 

هذه الفرقة هي السبب الرئيس في بزوغ الفرق الأخرى، والتي جاءت كرد فعل على الغلو والانحراف الذي تريده هذه الفرقة ذات التبعية الغربية، أو بمسمى آخر الفرقة التي تقدس الغرب في مأكلها ومشربها. فحكمها عند كلا الطرفين ظاهر جلي وانحرافها واضح وضوح الشمس، وهذا من المشترك الذي أجمعت على بطلانه باقي الفرق.

 

ومن الأفكار التي تدافع عليها هذه الفرقة “النسوية لأنها أساس الموضوع”: جاء في اتفاقية سيداو عدة بنود تهدف إلى التالي: إلغاء الولي في عقد الزواج، المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، إلغاء العدة في الطلاق، منع تعدد الزوجات، السماح للمسلمة بالزواج من الكافر، عدم التمييز بين المرأة والرجل في مجالات العمل، إعطاء الأهلية القانونية للمرأة المماثلة للرجل، إلغاء قوامة الرجل على المرأة…إلخ، ومن هذه البنود التي تم تطبيق أغلبها في الدول العربية نشأ الصراع.

 

 

 

الفرقة الثانية

أحب تسميتها بالوفية للتراث: هذه الفرقة لا تقبل أي شيء أصله غربي، وترفض أن تتكيف مع سير العصر وأهله “السير مع الأفكار الغربية طبعا”، ولا تقبل أن تغير أفكارها أو حتى مزج التراث بالذي قد ينفعها من الحضارة الغربية، فهي لا تبدي للتغيرات الاقتصادية والثورة الصناعية التي غيرت شكل العالم أي اهتمام، إنما فكرتها أن الرجوع إلى الأصل فضيلة، ولا نهضة في شيء جاء من الغرب، فهؤلاء من شدة حبهم لدينهم وتراثهم فضلوا بناء الحاضر بإحياء إرث الماضي.

 

والأقرب إلى هذا الفكر كلام –”فلان” لا يهمنا تحديد اسم معين بقدر ما يهم أن نتعرف على أفكار الفرقة لهذا فرضا سندعي أننا نتحدث عن شخص معين-، الذي نستشف من كلامه أن غيرته على الدين جعلته يبغض كل قول فيه رائحة من الغرب، طبعا هو لا يحمل النصوص الشرعية على مسايرة قضايا العصر، ومنه نقول إنه يرفض حمل النص على غير ظاهره بسبب مستجدات العصر وتغيراته، وبهذا فهو أقرب إلى تفسير النصوص وفق ما جاء في السنة النبوية من غير أي اجتهاد قد يطرأ بسبب تغير أساليب الحياة، فلو حملت كلامه وذهبت به إلى العصر العباسي أو الأموي غالبا لن تجد مشكلة أو صراع لأن طبيعة الحياة في ذلك الزمان كانت تقبل كلامه.

 

الفرقة الثالثة

أسميهم “أهل الوسطية والاعتدال” هذه الفرقة تحاول أن تحيي الإرث الحضاري الإسلامي، ولا ترفض فكرة الاستفادة من كل ما هو غربي إن وافق الصواب، ولم يتعارض مع النصوص الشرعية الإسلامية، فكانوا معتدلين في طرحهم حاولوا واجتهدوا في وضع منهج يراعي مستجدات العصر مع الحفاظ على الأساس الديني واعتباره اللبنة الأساس لأي بناء.

 

ولا نستطيع فهم الوسطية التي تسعى إليها هذه الفرقة بمنأى عن الاستقامة يقول تعالى: “اهدنا الصراط المستقيم” التي تحدد مدى صحة وصواب هذه الوسطية، يقول الرازي في تفسيره لهذه الآية: “إن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى (وكذلك جعلنا كم أمة وسطا) وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفى الأعمال الغضبية وفى كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الافراط والتفريط في كل الأخلاق وفى كل الأعمال”.

 

ومع أن هذه الفرقة التي يمكن القول إن –”فلان” لا يهمنا تحديد اسم معين بقدر ما يهم أن نتعرف على أفكار الفرقة لهذا فرضا سندعي أننا نتحدث عن شخص معين– يمثلها تحاول أن تضع منهج يصلح للتطبيق عمليا، إلا أنها قد تخطئ في بعض الجوانب، وقد تفسر الكلام على غير ما وضع له، لأنها اختارت الطريق الأصعب وسارت على خيط رفيع يمكن أن تسقط منه في كل حين، والأعين على هذه أقوى لأنها تقوم على رؤية مستقبلية ممنهجة، وكأنها طفل يتعلم السير لا يستعجله ولا يتركه يحاول مرة بعد مرة حتى يجد نفسه في طريق الحياة.

في مسألة القوامة وعمل المرأة التي خاض فيها أصحاب هذه الفرقة كان الميل إلى سير الأحداث العالمية ووضع المرأة في العصر الحالي أقرب، بحيث إن الأدلة التي صاغها أصحاب هذه الفرقة لم تكن قوية بل لا تصلح للاستدلال في بعض المواضع، وكان الأولى أن نرى الصورة من زوايا متعددة، ونقول إن الفكرة التي بسببها نشأة مسألة ضرورة عمل المرأة في العصر الحالي بسبب الظروف المحيطة بها، كان سببها هضم حق الرجل وإقصاءه من ميدان الشغل، والذي نراه اليوم من عزوف الشباب عن الزواج مثلا هو بسبب هذا التداخل حيث أصبح ميدان الشغل 50% من الإناث، و50% من الذكور وفي بعض الأحيان تكون نسبة الإناث أكبر من نسبة الذكور وهذا طبعا ليس أمرًا عاديًّا أو صدفة يمكن أن نغفل عنها، بل هو أمر مدبَّر بليل.. وإنه لا حرج في عمل المرأة لكننا نسأل أنفسنا وإياهم: هل هذا هو الأصل؟

 

أليس في عمل الرجال اكتفاء ذاتي للمرأة المسلمة؟ أليس من الصواب أن نتحدث عن الموضوع من كل جوانبه من غير إقصاء أو ميل لطرف من الأطراف؟ ألا يجب أن نقول اليوم هل في تحسين دور الرجل تحسين لحياة الأنثى؟ وهل الاهتمام المطلق بقضايا المرأة المسلمة من غير أن نصحب الظروف التي يعيشها الشباب المسلم أمر صواب؟ أم أننا يمكن أن نصلح حياة المرأة بمعزل عن الرجل؟

 

إن الكثير ممن يخوض في التحليل والتمحيص والتفسير لقضايا المرأة المسلمة، يرى بمنظار ضيق لا يستوعب جميع الزوايا، وهذا التوجه الأحادي جعلنا نقع في مشكلات خطيرة تجمع بين معاناة الرجل والمرأة، والحق أنه لم يكن علينا التفريق بين هذين المركبين لأن الأول يكمل الثاني وسقوط أحدهما يؤدي تلقائيا إلى سقوط الثاني.

 

نقلا عن منصة السبيل.

تعليقات