هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
في نهاية القرن
19 ميلادي ظهرت في الدول الغربية عدة مذاهب فلسفية معاصرة تروم البحث في الأسئلة
الوجودية، على نحو من خلق الكون؟ ما الوجود؟ ما الإنسان؟ من أين أتى -الإنسان-
وإلى أين هو ذاهب؟ هل هناك بعث وجنة ونار؟ ما حقيقة ومحددات الخير والشر؟ ما معنى
الحياة؟ وعلى شاكلتها من الأسئلة التي حاول كل تيار من هذه التيارات الفلسفية من
قبيل –الماركسية، الداروينية، البراجماتية أو الفلسفة العملية”، العلموية،
الليبرالية– أن تجيب عن هذه الأسئلة وفق مبادئ تستمدها من أصول فلسفتها.
الجواب عن
السؤال.. ما الذي جرى؟
بالنظر إلى
الفلسفات الغربية التي قطعت صلتها بالسماء واعتمدت على تحليل وتفسير الكون وظواهره
الاجتماعية تفسيرا حسيا ماديا، نجد أنها قد أفسدت الإنسانية والإنسان الذي ينضوي
تحتها إلى حد تعطيل فكره وعقله، وأبعدته عن أصل نشأته وعن الحكمة من خلقه وحقيقة
عبوديته لله، ونرى ذلك في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}
[الذاريات]، إلا أنّ الإنسان أصبح مادِّيًّا شهوانيًّا لا يفكر سوى في اشباع
رغباته الجنسية والجسدية.
في حين نجد أن
الدين الإسلامي الذي بعث به محمد ﷺ قد وضع للإنسان ضوابط يقصُر العقل البشري عن
رؤية أو تصوّر ما بعدها -من الغيب- وأجاب عن بعض هذه الضوابط الغيبية الوجودية
التي انحرف غيرنا وهو يحاول الإجابة عنها.
الأسئلة
الوجودية في القرآن الكريم
لنبدأ مع السؤال
الأول: مَن خلق الكون؟
يقول لنا الله
تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ” {فصلت: 5-9].
هذه التفاصيل
الدقيقة أجاب عنها القرآن الكريم قبل أن تظهر هذه الفلسفات وبشكل يصعب على العلم
اليوم أن يدركها كلها، ففي الآيات الكريمة أشارت إلى عدة حقائق كونية، منها خالق
الكون، وأصل تكوينه ومما يتكون.
أما السؤال الذي
يبحث عن الإنسان، فإن الله يوضح لنا ويجيبنا في القرآن الكريم، فنجد أن الله
سبحانه وتعالى يقول في سورة ص: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ
مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
[المؤمنون، 12 – 14]. وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ
مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} [الطارق: 5-7]
فهذه الآيات
الكريم تؤكد حقيقة خلق الإنسان وتدحض قول الدارونية التي تقول بتطور الإنسان،
وههنا نص صريح عن أطوار خلقه سبحانه وتعالى لهذا الإنسان وعن أصل المادة التي كون
منها، مما لا يعطي مجالا لشك.
الإنسان وسؤال
المصير!
إن كان الله قد
أوضح جواب سؤال من أين أتى الإنسان؟، فما الذي يوضحه لنا القرآن في السؤال عن أين
هو ذاهب؟
يقول تعالى:
{وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنا لله
وإنا إليه راجعون} [البقرة: 155 -156] يقول القرطبي في تفسيره: “جعل الله هذه
الكلمات وهي قوله- تعالى: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ملجأ لذوي المصائب، وعصمة
للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله {إنا لله} توحيد وإقرار بالعبودية
والملك وقوله (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من
قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له”
فحقيقة الإنسان
توضّحها هذه الآية التي تبين أنّه مخلوق وعبد لله، أوجده من عدم فأمره بأن يعبده
ويقيم شرعه على أرضه ويحفظ أمانته، لقد خلقه ليعبده وإليه صائر يوم القيامة.
وهذا السؤال، لا
بد لتوضيحه من الوقوف عند مسائل أخرى، كالبعث والجزاء والحساب، فما الذي يقدمه لنا
الله إجابات عن هذا؟ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي
رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم
مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا
يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ
وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ
فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} [الحـج:5-6]، وقوله تعالى:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً. وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 123
-124].
هذه التفاصيل
الربانية عن يوم البعث من قيام الأجساد والأرواح من مرقدها بعد موتها حينما يأذن
ربها، كلها تفاصيل غيبية لا يدركها العلم وقد حددها لنا الله سبحانه وتعالى
وأخبرنا عنها في محكم تنزيله.
الإنسان ومعنى
الحياة في القرآن
يفيض علينا الله
في بيان معنى الحياة والغاية من خلق الإنسان، فيقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]
وفي الجواب عن
السؤال المركزي (لماذا خلق الإنسان؟) الذي يدور حوله البحث المعرفي، وبه يتحدد دور
الإنسان في هذه الحياة، يقدم الله لنا الإجابة بأن الإنسان لم يوجد ليأكل ويشرب
ويرضي رغباته الشهوانية، بل إنه خُلق لشيء أكبر من ذلك؟
يقول الله
سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]، فحقيقة خلق الإنسان هي إعمار الأرض وعبادة الله سبحانه وتعالى.
هل قيَّد
الإسلام حرية العقل؟
بالنظر إلى
التعاليم والضوابط التي جاء بها الإسلام، نجد أنفسنا أمام منظومة متكاملة الأركان
خالية من كل عيب منفردة بكمالها عن غيرها، كيف ذلك؟ الدين الإسلامي نظام بديع
يتميز منهجه بمسائل وقضايا غيبية توقيفية أمرها إلى الله هو الذي تكفل بها وأمر
عباده بها، وهناك مسائل وأمور اجتهادية ترك للإنسان البشري مجال البحث فيها.
فالمسلم في
العقائد التوقيفية يعتقد بأن الإسلام ينبني على خمسة أصول شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمد رسول الله، إقام الصلاة (وهي خمس صلوات في اليوم والليلة)، وإيتاء
الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت (من استطاع إليه سبيلا)، أي للقادرين على ذلك.
كما يحدد له
الإسلام أركان الإيمان التي يعقد قلبه عليها، فهو يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
وباليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره.
وعلى الجملة
هناك أمور توقيفية من الله سبحانه وتعالى ضبط بها الله سبحانه وتعالى علاقة العبد
بربه وعلاقته مع غيره من البشر فأمر بالصدق وحذّر من عاقبة الكذب، وأمر بحفظ
الأمانة ونهى عن تضييعها وعلى نحو ذلك.
وبعد أن وضع
الإسلام للمسلمين الضوابط في ثنايا الكتاب “القرآن الكريم” والسنة النبوية، ترك
المجال مفتوحا للعلماء المسلمين للاجتهاد والإبداع، ولهذا وُجِد الاختلاف وتعددت
الأقوال في الفقه وغيره من العلوم، وعلى هذا تميزت الحضارة الإسلامية عن غيرها من
الحضارات، مما أخرج لنا علماء أبدعوا في مجالاتهم، فابن الهيثم مثلا أبدع في مجال
البصريات، وعباس بن فرناس ساهم في مجال الطيران، وأبو القاسم الزهراوي كان له
الكثير من الفضل في علم الجراحة، وغيرهم كثير قدموا للإنسانية علوما تنعم بفضلها
اليوم، بينما كانت أمم كثيرة في أوروبا تقبع في الظلام الدامس.
وهذا التقسيم
الثنائي الذي نجده في الإسلام يساهم في الحد من هذه الموجات الإلحادية في العالم
الغربي، إذ أن غياب الأصول الثابتة وفتح المجال للعقل على مصراعيه دون وضع ضوابط
معينة له يقود الإنسان إلى العبثية والتخبط في ظلمات الإلحاد والمذاهب المادية
الهدامة، والحرية إن أطلقتها من قيودها وجعلتها تسبح من غير قيد أو ضابط، تؤدي إلى
الفوضى التي تقضي على المعاني الجمالية في الحياة الإنسانية، ومن حسنات الإسلام
وفضائله على الإنسانية إجابته لهم عن الأسئلة الوجودية الغيبية التي تشغل مجالات
تفكيرهم العقلي بنص آيات كتابه الكريم، وفتح لهم بالتوازي مع ذلك مجالا واسعًا
للإبداع تحت رايته.