رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

فاطمة عمر تكتب: مآلات الهوية الحداثية في عالم متسارع

  • جداريات Jedariiat
  • الأربعاء 30 نوفمبر 2022, 3:30 مساءً
  • 656

لنفهم قضية الهوية حق الفهم لابد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية مطلقة، وسلبية تكتفي بالرصد والتسجيل، فالعقل الإنساني عقل توليدي يبقي ويضخّم ويهمش ويضيف ويحذف، وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان هو في صميمه رؤية للكون.

 

الهوية.. كيف تتشكل ذواتنا؟

إن هوية شعب ما تتشكّل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى. ولأن أعضاء هذا الشعب لا يعكسون الواقع كما هو، وإنما يتفاعلون معه، فعقولهم التوليدية تبقى وتستبعد وتضخّم وتهمّش، وكذا هويتهم فإنها تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم، ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، فهي ليست مجرد انعكاس بسيط لبيئتهم.

 

من هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي. ولكن عادة ما ينطلق الكثيرون من الرؤية المادية التي يسمونها “علمية”، فيدرسون الهوية في إطار النموذج المادي كما يفعل كثير من الدارسين في الغرب. واستخدام النموذج المادي يعنى استخدام الحواس الخمس، كما يعني دراسة الظواهر الإنسانية كما تُدرَس الظواهر الطبيعية. ومثل هذا المنهج يودي بالهوية تمامًا، لأنه لا يتعامل مع الواقع إلا من خلال معايير مادية، وهي معايير عاجزة بطبيعتها عن رصد الهوية في كل تركيبيتها وفرادتها.

 

إنسان السيولة المعولَم..

لقد أدى هذا المنهج إلى تعريف الإنسان باعتباره “الإنسان الطبيعي”، بمعنى أنه إنسان يتسم بسمات عامة أضيفت إليه من قبل الحضارة التي تحيط به، أي أنها ليست أصيلة فيه. وبذلك تتحول الهوية إلى مسألة مضافة آليًّا، وتغدو مجرد زخرفة، وهكذا يصبح المشروع الإنساني هو العودة إلى الإنسان الطبيعي متجاوزين الزخارف الإضافية.

 

هذه الفكرة عبرت عن نفسها في فكر حركة الاستنارة الغربية -التي توصَف بأنها عقلانية مادية- كما تعبّر عن نفسها فكر العولمة، فالعولمة هي في جوهرها العودة إلى هذا الإنسان الطبيعي، الذي لا يعرف الحدود أو الهويّة أو الخصوصيّة وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والتضحية. ولذا نجد أن خطاب العولمة يتحدث عن حرية انتقال السلع ورأس المال، والشركات عابرة القارات وحدود الدول، ولا يذكر شيئاً عن الثقافات أو الهويات المختلفة”(١).

 

 

 

الهوية في العصر الحديث بين الفردانية والجماعية

إن الفصل بين الفرد والمجتمع، والحديث عنهما كأنهما قوتان منفصلتان أو معسكران متقابلان هو من عيوب البحث النظري الذي يتصور حالات وقضايا لا وجود لها في واقع الأمر، لأن المجتمع هو مجموع أفراده، وكذا فإن الواقع المحسوس هو أن كل فرد هو في ذات الوقت كائن مستقل وعضو في جماعة. “ولذلك لا يمكن فهم حياة فرد، ولا تاريخ مجتمع دون فهمهما معاً [….]، يسعى كل فرد أن يكون ذا قيمة عند الآخرين وبالتالي فإن هذه القيمة تكمن في أحكام الآخرين. إن الشعور بالكينونة والوجود يكون من خلال تلك القيمة التي يمنحها الآخر بأحكامه، وهي أحكام دالة وجديرة بالاعتبار. أن يكون المرء كائنًا ما من أجل الآخر عملية تترجم الرغبة في تلك الهوية على نحو قطعي” (٢).

 

وهنا “تظهر المشكلة في أن هشاشة العبقرية تكمن في حاجتها إلى جمهور. وتلخص هذه العبارة إحدى معضلات الوجود الاجتماعي، فالفرد لا تترسّخ لديه العديد من السمات إلا بفضل الاعتراف الخارجي بها، اعتراف الآخرين، وكثير من تصورات الإنسان عن نفسه هي انعكاس واعٍ أو مشوّش أو ناقص أو مختزل عن تصورات الآخرين عنه” (٣) من أجل هذا “نجد أنفسنا في أحوال كثيرة في مأزق (تمثيل النفس)، بمعنى ما مدى مصداقية ما أعتقده عن نفسي وما يعتقده الآخرون عني، وتكمن صعوبة المأزق في التناقض الأبدي بين رغباتنا في الحصول على الإطراء وربما الشهرة والمكانة والاحترام وبين قدراتنا ومؤهلاتنا الشخصية، عند التعامي والانجرار خلف الرغبات تتضاءل المشكلة لدينا ونتحوّل لكائنات بائسة ومستلبة للآخرين وجاهلة بذاتها” فالنفس الحديثة لا تمتلك أي مضامين صلبة عن ذاتها لأنها تعاني من تعويم نفسي وتعيش في مرآة فارغة تستدعي قدرًا أكبر للإرشاد، و”المفهوم الحديث للهوية ينبع من تقدير الذات وأن الذات الداخلية لها قيمة، وأنها ليست مطالبة بالخضوع لقواعد المجتمع، بل إن المجتمع هو الذي يجب أن يتغير، وعليه تصبح الهوية سمة عالمية للشخصية البشرية التي تتوق إلى الاعتراف والإيمان بها”.

 

 

 

العصر الحديث وهوية التقدم

لقد أعلى العصر الحديث -بعد التحرر من القيم التقليدية- من القيم الفردية للشخص، وكيف يكتشف ذاته متفردًا عن الجموع حوله، وقد غدت علامات الطريق التقليدية أقل بريقًا وتأثيرًا وضرورة، وأصبح العالم الاجتماعي يواجهنا بتشكيلة واسعة ومحيرة من الخيارات، وللسرعة التي يتسم بها عصرنا دور في هذا، إذ يعني التغير السريع وكثرة المعلومات تشتّت المشهد وانعدام اليقين ممّا يعني أن الهُوية المتشكلة هي أيضا هُوية مترددة ومتعددة ومداها لحظي، “إن انهيار إحساس الثقة بالنفس والآخر، داخل أنظمة القيم الثقافية، وداخل الأنظمة الاجتماعية، من شأنه أن يعزز مواقف اللامسوؤلية وأن يؤدي إلى نمو النزعة السلبية والاتجاهات الفردية. حيث لا يبقى هناك شيء يمكن للمرء أن يؤمن به سوى الذات عينها ولكن هذه الذات لا يمكنها أن تكون قوية متماسكة وذلك لأنها محاطة بأطر منطقية ونماذج متضاربة ومتناقضة لذلك لا يمكن اليوم للإنسان المعاصر أن يتملك على إحساس الثقة بالنفس ويبدو أن ذلك التملّك في غاية الصعوبة. فالعمليّات التي تؤكّد النزعة الفرديّة في الغرب المعاصر تعود إلى انحلال الأنظمة المتكاملة، فالإنسان المعاصر لا ينفتح على أية تجارة ليس لها قيمة بالنسبة لوجوده الخاص”. (٤)

 

الهوية المعاصرة ووهم الحرية

لقد تم إقناعنا بأننا أحرار، وأن على كل واحد منا إيجاد هُويته المميزة، ليكون متفردًا عن أقرانه، إلا أننا في الوقت ذاته أُخضعنا إلى الاستهلاك الممنهج وتم إقناعنا أننا لا يمكن أن نجد هُويتنا دون شيء مادي نرتديه أو نقتنيه، لقد تحررنا من الرقابات ومن الأشكال التقليدية المجتمعية التي تُقوض حريتنا، ألا أننا الآن، متشابهون بنفس الدرجة في أسواقنا وعاداتنا، وأصبحت المنتجات هي تبيع لنا القيم، “وهكذا فإن الجيل الذي أراد إنشاء هويته الخاصة وكان يندد بالنزعة الاستهلاكية، اعتنقها بعد أن ساعدته في التعبير عن ذاته، فأمكنه شراء الهوية بدل إنشائها”. (٥)

 

إن تحرير الذات أنتج أنواعًا جديدة من الناس يصفون أنفسهم بأنهم أحرار من قيود المجتمع، لكن في حين شعور هؤلاء البشر الجدد بالحرية أصبحوا عالة بصورة متزايدة على هُوياتهم في السوق، وكما قال الآن تورين: “إنّ التحرر من الرقابات ومن الأشكال التقليدية للسلطة يتيح السعادة، غير أنه لا يضمنها، إنه يستدعي السعادة إلا أنه يُخضعها في نفس الوقت إلى التنظيم المُمركز للإنتاج والاستهلاك، والتأكيد بأن التقدّم هو السير باتجاه “الوفرة والحرية والسعادة” وبأن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة جدًّا الواحدة منها بالأخرى، ليس سوى إيديولوجيا يعمل التاريخ على تفنيدها باستمرار”.

 

تعليقات