حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
يُعنى العنصر الثالث من ثالوث الداروينية الجديدة بانتقال وتوريث المعلومات الجينية. ومن غير المفاجئ أن نجد نموذجًا جديدًا من نظرية التطور يشكك في فهم الداروينية الجديدة للوراثة أيضًا.
لم يجد داروين نفسه نظرية دقيقة تفسر انتقال
الخصال بين الكائنات الحية من جيل لآخر، فاعتقد بانتقال التغيرات الحاصلة أثناء
حياة الكائن الحي إلى الذرية كنتيجة لمبدأ (الاستخدام والإهمال) للأعضاء المختلفة
والأنظمة التشريحية من خلال التكاثر.49 في هذا الصدد، شابهت نظريته للوراثة نظرية
جان بابتيست لامارك -1744 إلى 1829، أحد البيولوجيين التطوريين الأوائل- الذي
اعتقد أيضًا بتوريث الصفات المكتسبة.
افتقرت الآلية اللاماركية أيضًا للأدلة الداعمة
في ذلك الوقت، لكنها لعبت دورًا متنامي الأهمية في طريقة تفكير داروين، إذ أودى
الانتقاد المتزايد للانتقاء الطبيعي بداروين إلى أن يُضيف المزيد من الأهمية إلى
التأثير المباشر للبيئة على التغيرات التطورية. وبالفعل أكَّد داروين عند إصداره
للنسخة السادسة من كتابه (أصل الأنواع) -1872- على أهمية هذه النماذج في
الوراثة.50
لكن مع اكتشاف قوانين ماندل في عام 1900 وتحديد
الصبغيات على أنها الكينونات المادية المسؤولة عن انتقال الوراثة، فقدت النظريات
اللاماركية الأفضلية التي امتلكتها. وبعد ظهور النظرية التركيبية الداروينية
الجديدة جادل معظم علماء البيولوجيا التطورية بحقيقة كون الجينات هي موضع كل التغيرات
الموروثة في المتعضية. بعد عام 1953 عرّف البيولوجيون الجينة بتسلسل من الأسس
النكليوتيدية المرتبة بشكل خاص ضمن جزيئة DNA،
مع ذلك أدرك البيولوجيون حديثًا وجود بعض المعلومات البيولوجية (المعلومات فوق
الجينية) خارج بنية DNA،
وتنامى الاهتمام باحتمال تأثير تلك المصادر المعلوماتية غير الجينية على مسار
التطور. جذب اكتشاف قابلية المعلومات فوق الجينية للتَغيُّر والتوريث المباشر
والمستقل عن DNA الكثير
من الاهتمام اللاحق، وقاد هذا الاكتشاف بدوره إلى صياغة نظرية (اللاماركية الجديدة neo-Lamarckian) المعاصرة51، التي
تصورت أن التغيرات في البنية فوق الجينية للمتعضية تؤثر على الأجيال اللاحقة.
نجد من أشهر المدافعين في يومنا هذا عن
اللاماركية إيفا جابلونكا Eva Jablonka من جامعة تل أبيب، وماسّيمو بيليوتشي Massimo
Pigliucci من جامعة مدينة نيويورك. لم يكن لامارك
يعلم شيئًا بالطبع حول الدور المهم الذي تملكه الجينات، وقد آمن بأن توريث الخصال
المكتسبة كان قوة قائدة مهمة في التطور، لكن اللاماركيين الجدد يعرفون حقيقة
الوراثة الجينية حق المعرفة، إلا أنهم يعتقدون بأن المصدر اللاجيني للمعلومات
والبُنى ربما يلعب دورًا في تطور الشكل البيولوجي، ووفقًا لجابلونكا فإن
اللاماركية الجديدة "تفتح الباب أمام الإمكانيات التطورية التي حُرمت منها
بسبب نمط نظرية التطور المسمى بـ(التركيب التطوري الحديث)، الذي ينص على أن
التنوعات ذات صفة عشوائية، وأنها جينية (ذات أساس نكليوتيدي)، وأن الأحداث القفزية
لا تساهم على نحو مهم في التغيرات التطورية.52
قامت جابلونكا بجمع الكثير من صنوف الأدلة لدعم
ما تسميه (نظام الوراثة فوق الجينية):
ففي المقام الأول يمكن توريث التغيرات المحرضة
بيئيًا في السبل الاستقلابية لبعض الكائنات وحيدة الخلية -كالخمائر وجرثومة coli- إلى الجيل التالي بشكل مستقل عن أي
تغيرات تصيب الـDNA الخلوي.
ثانيًا، لاحظت بالفعل مرور المعلومات البنيوية
التي تعطي شكل الكائن الحي ووظائفه من الآباء إلى الذرية بشكل مستقل عن DNA عبر الأغشية والأنماط الخلوية الأخرى
ثلاثية الأبعاد.
ثالثًا، ناقشت جابلونكا عملية متيلة DNA -وهي عملية يضيف فيها أنزيم خاص
المجموعات الميثيلية CH3 إلى
الأساس النكليوتيدي ضمن الحلزون المضاعف، ويمكن لعملية كهذه أن تغير من التنظيم
الجيني وبنية الكروماتين-، وقد ذكرت جابلونكا أن التغييرات المدخلة من خلال
العمليات المعدلة للتنظيم الجيني غالبًا ما تنتقل إلى الأجيال التالية من الخلية
دون أي تغيير في تسلسل أسس DNA.
أخيرًا، استشهدت جابلونكا بعملية تُدعى الوراثة
فوق الجينية -بوساطة RNA- وهي ظاهرة مكتشفة حديثًا، هنا تعمل جزيئات RNA الصغيرة مجددًا في تناغم مع أنزيمات خاصة، لتؤثر على التعبير الجيني
والبنية الكروماتينية، ويبدو أن تلك التعديلات تورَّث بشكل مستقل عن الجينات.
فهل يمكن لأي من تلك الآليات أن تساعد في شرح
أصل الأشكال الحيوانية في الانفجار الكامبري؟ على ما يبدو: لا.
يتطلب التطور الكبروي في جوهره تغيرات ثابتة
-أي موروثة دائمًا-، لكن ما تظهره أدلة جابلونكا أنه أينما حصلت الوراثة اللاجينية
في الحيوانات فستشمل بُنى إما أنها:
غير متغيرة، كأنماط الغشاء والقوالب المستدامة
من المعلومات البنيوية.
لا تستمر عبر العديد من الأجيال.
ولا يتولد في أي من الحالتين إبداع تطوري مهم
في الأشكال الحيوانية، بل بدلًا من ذلك يجب لكي يحصل التغير التطوري باتجاه معين
في جمهرات المتعضيات ألا تكون تلك التغيرات قابلة للتوريث وحسب، بل ودائمة،
فالاستقرار -أي وراثة الخصال بشكل ثابت وغير معكوس- ضرورة حتمية لا مفر منها لأية
نظرية تطورية. هذا بالضبط هو ما يعنيه (النشوء والارتقاء).
إن أدلة جابلونكا حول ثبات الوراثة اللاجينية
هنا غامضة على أفضل تقدير، على حسب اعترافها المباشر، ولا تكشف مراجعة البيانات
التي جمعتها جابلونكا من الحيوانات عن أي حالة تكون فيها التغيرات فوق الجينية
ثابتة دومًا في أي جمهرة، فالانتقال الوراثي لتلك التغيرات عابر ويستمر فقط
-بالاعتماد على النوع الذي نحقق فيه- من بضعة أجيال وحتى أربعين جيلًا. بصراحة
تذكر جابلونكا هذا النقص في الأدلة حول الاستقرار قائلة: "نؤمن بإمكانية
توريث الاختلافات فوق الجينية في كل موقع من جينومات حقيقيات النوى، لكننا لم نحدد
بعد السبيل إلى ذلك، ولأي مدة وتحت أي ظروف".53 بالتالي، بغض النظر عن
النواحي الشاذة، تبقى الأهمية التطورية للوراثة فوق الجينية اللاماركية الجديدة
موضع شك، أو وفقًا لكلمات جابلونكا "تخيلية بشكل لا مفر منه إلى حد
ما".54
* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (شك داروين: النشوء المفاجئ لحياة الكائنات وحجة التصميم
الذكي) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.