نقد أطروحة دوكينز في الميمات

  • أحمد محمد
  • الإثنين 07 نوفمبر 2022, 02:18 صباحا
  • 527

يمكننا أن نعتبر أن الأطروحات الميمية تجيب على السؤالين التاليين بالإيجاب، وهو ما تنفرد به هذه الأطروحة عن الأطروحات الثقافية المعهودة في العلوم الإنسانية:

هل يمكن تجزأة الثقافة إلى وحدات معلوماتية؟

هل هذه الوحدات المعلوماتية تنسخ (مع الإقرار بتعديلات النسخ)؟

 

أما التجزأة فمستحيلة، ونابعة من الاختزال الذي تحدثنا عنه كثيرا، وهي مغالطة فلسفية سنتحدث عنها بالتفصيل في الفصل القادم، وسنبين أنها ليست الطريقة الصحيحة لتمثيل الثقافة، وهو النقد الأهم، لكن هنا سنعرض نموذجا من الاعتراضات الكثيرة جدا التي قدمها الأنثروبولوجيون، وهم أعلم بالثقافة وكيفية دراستها من البيولوجيين بلا شك، وستكتفي بالأنثروبولوجيا دون اعتراضات علم الاجتماع لأنها تتصب أكثر على تصورات الميمات التي قُدمت بعد دوكينز التي أخذت التشبيه بين الجين والميم حرفيا، واعتبرته كيانا يمكن البحث عنه[1].

 

يقول الأنثروبولوجي موريس بلوخ: يغدو الأمر أكثر صعوبة حين نتعرض لظواهر أكثر أهمية وألفة مثل معارف الفلاح التقليدية عن الطقس، إذ ننشد المستحيل إذا أردنا أن نبرهن بصورة مقنعة على أن هذه المعارف مؤلفة من عدد موجود بالفعل من وحدات منفصلة معدودة، ترى كم عدد الوحدات المتضمنة فيها؟ هل الاعتقاد بأن أنماطا معينة من السحب مؤشر على احتمال سقوط البَرَد منفصل عن المعرفة التي تفيد بأن البرد يدمر المحاصيل؟ هنا ربما ينزع علماء مبحث الميمات إلى الحديث عن "المركبات الميمية"، ولكن يظلون عاجزين عن رسم حدود لهذه المركبات الميمية شأنهم بالنسبة للميمات نفسها، التي تتألف منها هذه المركبات. ونشير هنا كمثال إلى ممارسة ختام الحلقات الرئيسية الخاصة بشعائر موسم الأمطار والتي يمارسها الناس اقتداء بالسلف، ولأن موسم الحصاد لا يبدأ إلا حين تكون المحاصيل جافة، ونسأل هل هذا يمثل جزاء من مركب ميمي خاص بالطقس أو المركب الميمي للدين أو مركب ميمي ساذج عن الطبيعة أو المركب الميمي الاجتماعي؟ أن أن كل هذه جميعا ترتبط ببعضها وتتحد في مركب ميمي عملاق؟ الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن إلا أن تأتي اعتسافا"[2].

 

ويقول عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية آدم كوبر تعليقا على قول دوكينز: "قيمة بقاء ميمة الإله في مستودع الميمات ناجية عن جاذبيتها النفسية الكبيرة، إنها تزود الإنسان بإجابة سطحية مستساغة على أسئلة إشكالية عميقة عن الوجود، وتوحي له بأن المظالم في عالمنا الأرضي سوف يجري تصحيحها في عالم آخر": هذا كلام يدخل في باب الحشو المبتذل، حين يعرضه مقال في صحيفة من صحف يوم الأحد ويمر عليه المرء مر الكرام، ولكن حين يعرضه كتاب علمي فحري أن يدعمه دليل ما، والمعروف أنه توجد دراسات كثيرة عن العقيدة الدينية كتبها علماء أنثربولوجيا وعلماء نفس ومؤرخون وباحثون آخرون، ولكن دوكينز لم يذكر أيا من هذه الدراسات، ترى هل إضافة الميمات إلى الدراسة يساعدنا بأي وسيلة على أن نفهم لماذا يؤمن بعض الناس بالأرباب (رغم الاختلاف الشديد في تصوراتهم)؟ إن النتيجة التي تقول إن ثمة ميمة خاصة "بالرب" وأنها تبقى لما لها من جاذبية نفسية تذكرنا بأدعياء الطب من الدجالي، إذ يروجون حبوبا منومة لما لها من خصائص تجلب النوم، ولكن حتى لو كانت الميمات مجرد أفكار، وعملنا على تعيين الأفكار بطريقة أكثر تحديدا مما فعل دوكينز في هذه الأمثلة فإن الواجب يقضي بأن لا نعالجها باعتبارها وحدات منعزلة عن بعضها، إن السمات الثقافية على خلاف الجينات ليست دقائق مستقلة، إن فكرة ما عن الرب لا يمكن فصلها عن الأفكار الأخرى التي ترتبط بها ارتباطا لا انفصام له في سياق العقيدة الدينية، مثال ذلك أن نزعة التوحيد اليهودية–المسيحية نسق من الافكار مختلف تماما عن نزعة تعدد الآلهة الهندوسية، كذلك فإن الأفكار عن الأرباب ليست كيانات مستقلة طليقة في عماء، ولكن فكرة الرب وثيقة الصلة بالضرورة بأفكار أخرى عن الكون من مثل الخلق أو التجسد.[3]

 

وهذا على نظير تأكيد الانثروبولوجي الانجليزي برونيسلاف مالينوفسكي قديما على أن أي سمة حياتية تؤدى "ضمن كلية ثقافية، وتشكل نسقا مترابط العناصر"، وانتقد أي مقاربة للظواهر الثقافية تُختزل في سمات تُجمع وتوصف لذاتها، دون فهمها في نسقها الشامل، فيقول: في كل ثقافة تؤدي كل عادة وكل شيء وكل فكرة وكل معتقد وكل وظيفة حيوية ما وتضطلع بمهمة ما وتمثل جزءا من الكلية العضوية غير قابل للتعويض".[4]

 

أما سؤال: هل هذه الوحدات المعلوماتية تُنسخ أو تُقلد مع الإقرار بتعديلات الناسخ فإجابته خلافية، وليس كما يجزم أنصار الميمات بالإيجاب، فبصرف النظر عن موقفنا الشخصي من مسألة ما إذا كانت النماذج أو التصنيفات البشرية (Categorization) فطرية أو مكتسبة اجتماعيا فهي مسألة محل جدل كبير، وعلى المنظّر الميمي أن يحسم هذه المسألة بالأدلة، لا بمجرد التسليم، لأنه لو كانت التصنيفات (التي هي أساس الميمات) فطرية أي موجودة في الدماغ كتمثلاث ذهنية أو أن هناك اتصال ما بين الآليات الحركية الجسدية وبناء التصورات الذهنية كما قد توحي بعض الأبحاث ويدلل بها جورج لاكوف وغيره على جسدية التصورات: فإن المشروع الميمي القائم على المحاكاة يفشل تماما، لأنه لن يكون الأمر إذن محاكاة، إنما إبداعية كما يذهب تشومسكي في اللغة، "تحدد كيفية معالجة المعلومات الداخلة إلى الدماغ وكيفية تأويلها، ولبناء تصور ذهني خاص بالفرد الذي يتلقى هذه المعلومة، فتكون هذه الاستعدادت الإدراكية مسؤولة عن تشكيل التصورات الذهنية الفردية، وعن إعادة تركيبها في تصورات ذهنية عامة تتشارك بها الجماعة"[5] أو ذاتية–جسدية كما يذهب جورج لاكوف فتكون من الجسد نفسه لا محاكاة، وفي الحالتين يكون الفرد فاعل أساسي في الثقافة لا مجرد ناقل، ويكون الفعل الاجتماعي "مثيرا" للاستعدادت الجسدية وليس "ميما" يُنسخ. أي أن المبحث الميمي الذي يسعى إلى تفسير سبب الثقافة المشتركة بين الجتمعات البشرية يفترض ضمنا لا فطرية التصنيفات، وهو أمر محل جدل كبير جدا، دون أن يقدم أي دليل.

 

خلاصة الأمر: الثقافة الإنسانية المشتركة كل لا يتجزأ، إما أن الإنسان اكتسبها ذاتيا وكان مشاركا في بناءها وبالتالي مبحث الميمات عند دوكينز غير صحيح أو قاصر في أحسن أحواله، أو أن الإنسان ورثها اجتماعيا بطريقة غير جينية، ولم يفلح مبحث الميمات عند دوكينز وعند الميميائيين الجدد في تفسير أصل هذه الميمات، لتضاف هذه المعلومات الموروثة اجتماعيا إلى المعلومات الوراثية العادية المميزة للكائن الحي، التي لم تستطع الدراوينية تفسيرها.

هذا المقال من كتاب (نقد الأخلاق التطورية: ريتشارد دوكينز نموذجا) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.

 

تعليقات