هدى أبو هاشم تكتب: "توحيد.. إيجابي ومختلف"

  • جداريات Jedariiat
  • السبت 29 أكتوبر 2022, 11:12 مساءً
  • 345

يُمثّل التوحيد إطارًا مرجعيًا، وخلفيّة فكريّة موّجهة ومسددة للحياة الإنسانيّة بأكلها: خافيها وظاهرها، صغيرها وكبيرها، شعائرها وشرائعها، وهو أساس العقيدة الإسلاميّة وقوامها، لا تصح إلا به، ولا يتحقق إلا بإفراد الله تعالى بما يختص به، لا شريك له يُعبَد معه، ولا وسيط يُقرّب إليه، ولا يُشبهه شيء مما في العوالم.

 

تيه وركام

الرسل من لدن نوح إلى عيسى، بيّنوا للناس حقيقة التّوحيد، وعرّفوهم بإلههم تعريفًا صحيحًا، وأوضحوا لهم مكانة الإنسان في الكون وغاية وجوده، لكن ضغط الظروف السياسيّة والشهوات البشريّة، والضعف الإنسانيّ، أهال ركامًا ثقيلاً على تلك الحقيقة، وأضلّت البشريّة عنها.

 

فَموسى -عليه السلام- جاء لبني إسرائيل بالرسالة التّوحيديّة الخالصة، إلا أن بني إسرائيل من قبله ومن بعده شوّهوا التّوحيد بنسب ما لا يليق بالإله من صفات، فقالوا: إن يعقوب صارع هذا الإله مرّة، وقالوا عنه: إنه يتمشّى في ظلال الحديقة ويتبرد بهوائها، وقالوا: إنه يُحِبّ رائحة الشواء، إلى آخر هذه الأساطير التي طمست عقيدة التّوحيد.

 

وجاء كذلك عيسى -عليه السلام- بالتّوحيد، ثم انتهت عقائد النصارى إلى التثليث، بين أقانيم ثلاثة: الأب، الابن، وروح القدس، مع اختلاف بين الكنيسة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة على طبيعة الأقنوم ومشيئته، كذلك ألّهت جماعة منهم السيدة مريم كما ألَّهوا عيسى، مما يجعل التّوحيد في هذه الديانة، دعوى لا حقيقة لها من واقع التصورات المتنوعة للكنائس.

 

وفي الديانات غير الإبراهيميّة: البوذيّة والهندوسيّة والزرادشتيّة والكونفوشيوسيّة وغيرها من الديانات، تصورات تعتمد على الوثنيّة، أو غموض في فِكرة الإله، أو إمكانيّة التوّحد معه، وغيرها مما يخل بحقيقة الإله.

 

أما الجزيرة العربيّة قبل البعثة، فعجّت بركام العقائد والتصوّرات، من بينها ما أخذته من الفرس وما تسرّب إليها من اليهوديّة والنصرانيّة المحرّفة، إلى جانب وثنيتها الخاصّة، إذ اِحتوت الكعبة -التي بناها نبي الله إبراهيم لعبادة الله وحده- على 360 صنمًا، لكل قبيلة وثنها المفضّل وإلهها المركزيّ.

 

وخلّفت الفوضى العقائدية هذهِ ظروفًا اِجتماعيّة مترديّة وقيم جاهليّة: ليس أولها وأد البنات، ولا آخرها الاِعتماد على القرعة لتحديد النسب في بعض الأحيان، أو الربا الفاحش الذي ينتهي بالمدين إلى أن يُملّك نفسه للدائن، إلى أن جاءت الرسالة المحمديّة الخاتمة، الداعية إلى التّوحيد الخالص، المقرّة بألّا إله إلا الله، رَحِم الله أهلها بتعهده حفظ أصولها من الضياع والتحريف، فظلَّت سالمة من كل شائبة، بعيدة عن الشِرك والغموض ونسب النقص للإله، متفردة متميزة عن سائر التصورات العقديّة في الأرض كلها.

 

 

 

 

 

من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده

لا ينحصر التّوحيد في قول شهادة لا إله إلا الله قولاً مجردًا، أو إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأنه سبحانه ربَّ كل شيء، كما كان عُبَّاد الأصنام مُقِرِّين بذلك وهم مشركون، إنما يتضمّن التّوحيد محبَّة الله، وكمال الاِنقياد لطاعته، وإخلاص العِبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأعمال والأقوال، ومن عرف هذا فَهِم قول النبي: “إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله” [البخاري، صحيح]

 

وشهادة أن لا إله إلا الله إنما هي شهادة الإنسان على قلبه أنّ لا يتعلّق إلا بالله، رغبةً ورهبةً وشوقًا ومحبّة، وتلك شهادة عظيمة وخطيرة؛ لأنها إقرارٌ واِعترافٌ بشعور، لا يدري أحد مِصداق ما فيه من الصدق إلا الله، ثم الشاهد نفسه.

 

يُبيّن فريد الأنصاري في كتابه [جماليّة الدين:67]، أن كلمة إله في أصل اِستعمالها اللغوي كلمة قلبيّة وجدانيّة، هي لفظ من الألفاظ الدّالة على أحوال القلب: كالحُبِّ والبغض والفرح والحزن والأسى والشوق. فقول المؤمن لا إله إلا الله تعبيرًا عمّا يجده في قلبه من تعلّق بربه تعالى، أي لا محبوب إلّا الله، ولا مرهوب إلّا الله، ولا يملأ عِمارة قلبه إلا قصد الله.

 

وعمارة القلب بالله، لا يمكن أن تكون إذا كان القلب عامرًا بغيره، مملوءًا بما سواه، يشاطره في المكانة والأولوية ما هو دونه، لأجل ذلك جاء النصف الأول من الشهادة بنفيٍ حاسم، بعملية إفراغ ضروريّة قبل الوصول للتّوحيد الخالص، بإعلان لا بدَّ منه أن: لا إله.

 

عملية النفي هذهِ شملت كل ما يمكن أن يخطر في البال: الأصنام، الأوثان بمعناها المادي والمباشر، أو بما ترمز له من مصالح اِقتصادية أو مفاهيم عشائريّة.

 

وتشمل عِبادة الدرهم والدينار، كذلك الأفكار والأيديولوجيات بمختلف أنواعها، ويشمل أنماط الحياة وتجلياتها ورموزها، ويشمل من باب أولى، المعبودات البشريّة، سواء كانت قادة وزعماء أو مصلحين أو مفكّرين، أو نجوم “فن ورياضة”.

 

وتشمل عِبادة الذات، أو صنم الحريّة الشخصيّة، التي تقول لكل فرد إن حريته الفرديّة هي أغلى قيمة، لكن لا ينتج عنها إلا مجاميع أفراد متشابهين جدًا، أفراد يؤمنون تمامًا أنهم أحرارًا ولكنهم لا يرون الأغلال التي تشدهم من أيديِهم وأرجلهم؛ أغلال تجعل من حريتهم مقصورة على “حياة دنيا” بكل المقاييس؛ حياة “الآن وهنا”، حياة التمتّع بأكثر ما هو عابر.

 

هذا يجعل من كل شيء عمليًا، في حياتك كلها، خاضعًا لذلك النفي، “إلا الله” باستثنائه جلَّ وعزّ، سيكون صمدًا حيث لن يصمد الآخرون ومفاهيمهم.. سيظل وحده، وسيكون وحده الذي يمكن أن نُخلّص إليه، بينما ننزع، بأيدينا، سِهام الأيديولوجيات والأوثان وأنماط الحياة، ونلتفت إليه، مخلصين له.

 

 

 

 

 

هل يستويان مثلاً؟

في الخِطاب القرآني، صوّر الله تعالى، حالة من وحّد الله بقلبه وفِكره، وحالة من أشركه غيره: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]

 

رجل فيه شركاء متشاكسون، ليس عن أشخاص اِمتلكوا جسده بالضرورة، واختلفوا فيما بينهم على اِمتلاكه، بل عن رموز وأفكار اِستلبت روحه وبصره وعقله وأسلوب تفكيره وحياته، ورجل آخر هو سَلَم لرجل، يملك رؤية واضحة، يخاطب جهة واحدة، بكل جوانبه، وأشواقه، وحاجاته، وكل اِتجاهاته، جهة واحدة يطلب منها كلّ شيء، ويتوّجه إليها بكلّ شيء، جهة واحدة يرجاها ويخشاها، يتقي غضبها ويبغي رضاها، ويتلقّى تصوراته ومفاهيمه، وقيمه وموازينه، وشرائعه وقوانينه، من مصدر واحد، ولذلك فهو يرى بشكل أوضح، ليس ثمّة رؤى متضاربة، ما من تشوّش في الرؤية هنا، أو قصر في النظر هناك، منسجم في سلوكه وشعوره، في شأن العقيدة والمنهج، شأن الاِستمداد والتلقّي، الموت والحياة، السعي والحركة، فلا تتفرّق طرقه مزقًا، ولا يتجه إلى شتّى السُيُل والآفاق، ولا يسلك شتّى الطرق على غير اتفاق.

 

هل يستوي من تشتته الرؤى والأفكار وتجعله (فرطًا) لا يعرف ماذا يريد وأين هو، مع من اِستطاع أن يحدد

 

هدفه واتجاهه وموقعه أصلاً؟

 

التوحيد: ميلاد الإنسان

التوحيد، بمعناه الواسع هذا، إذا اِعتنقه الإنسان، يصبح في خير حالاته، أكثر قربًا والتصاقًا بحقيقة الأشياء، في أوجّ قوته، وفي أوجّ تناسقه مع الكون.. هذا التناسق الذي يتيح له أن يُنشئ أعظم الآثار وأن يؤدي أعظم الأدوار، كما قال ابن تيميّة في كتاب [مجموع الفتاوى: 13/202] “إن: لا إله إلا الله أصدق الكلام […] فإذا صحَّت صحَّ بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصحِّها العبد فالفساد له في علومه وأعماله”.

 

وعلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] علَّق ابن القيّم: “الكلمة الطيِّبة هي شهادة أن لا إله إلا الله”، أي أنه تعالى شبَّه التّوحيد الثابت الراسخ في القلب، بالشجرة الطيِّبة الثابتة تُثمِر الأعمال الصالحة المَقبولة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها.

 

ويرى سيد قطب -رحمه الله- في كتابه [خصائص التصوّر الإسلامي:201]، أن لتّوحيد آثارًا في القلب والعقل متفردة، لا ينشئها تصوّر آخر، كالاِنضباط والاِستقامة والوضوح، فالمسلم يستقيم في التعامل بقلبه وعقله مع ربّه، لا يضطرب ولا يطيش.

 

والمسلم يعرف من تصوّره لربّه، ما يحب ربّه وما يكره، ويستيقن أن لا سبيل إلى رضاه إلا بالإيمان به، والاِستقامة على منهجه وطريقه، فيتوجّه إليه -وحده- بالشعائر التعبديّة، ويتلقّى منه -وحده- التوجيه والتشريع، ومنهج الحياة، ونِظام المعيشة، وقواعد الاِرتباطات.

 

أما عن الأثر الأهم الذي يُنشئه التّوحيد في ضمير المسلم، وفي حياته، وفي كيان المجتمع، فهو “تحرير الإنسان أو بتعبير آخر، ميلاد الإنسان”، لأنه يُخرج من شاء من عِبادة العِباد إلى عِبادة الله، ويُرجع أمرهم إلى الله -وحده- في المحيا والممات، في الدنيا والآخرة، “والإنسان بمعناه الكامل، لا يوجد في الأرض، إلا يوم تتحرر رقبته، وتتحرر حياته، من سلطان العِباد -في أيَّة صورة من الصوة- كما يتحرر ضميره واِعتقاده من هذا السلطان سواء”، كما يقول قطب.

 

 

 

الحرية: العبوديّة لله

الإنسان في النهاية، خُلق من طين، والطين مادّة مطواعة، تستطيع أن تشكلّها كما تريد، هنا تحديدًا يأتي معنى العِبادة -في مفهومها الأوسع- وهو إعادة التشكيل.. أن تتشكّل كما يُريد معبودك أن تكون.. وحيثما يُريدك أن تكون..

 

والإنسان، كل إنسانٍ لديه حاجة فطرية تُجبره على الخضوع لشيءٍ ما، لا بد أن يُدين بشيء، أن يكون متبوعًا لشيء، لا بد للإنسان أن يكون عبدًا، إذ إن في فطرة الإنسان اِفتقار ذاتي إلى قوة غيبيّة كاملة غنيّة يرجو منها النفع، ويستدفع بها الضر، ويتذلل لها.

 

وهذه العبوديّة الحتميّة للإنسان، لا تنفي وجود حريّة في حياته، حريّة واحدة فقط، هي حريّة اِختياره لعبوديته، بين كل العبوديات التي يمر بها وتمر به، حريّة الاِختيار بين أن يكون عبدًا لله، أو لسواه.

 

يقول ابن تيميّة [العبوديّة: 86] مؤكدًا ذلك: فلا بدَّ لكلِ عبدٍ من مرادٍ محبوب، هو منتهى حبِّه وإرادتِهِ، فمن لم يكن الله منتهى حبِّه وإرداته، بل اِستكبر عن ذلك، فلا بدَّ له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدًا لذلك المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، أو غير ذلك مما يُعبد من دون الله.

 

والتّوحيد بطبيعته يقتضي، بحسب ابن تيميّة إخلاص الحبِّ لله، بحيث يكون الله هو غاية المراد، ونهاية المقصد، وهو المحبوب الأول، وكل ما سواه يُحِبّ لأجله، وعدم حصول ذلك معناه أن حقيقة  “لا إله إلا الله” لم تُحقق، ولم يحقَّق كذلك التوحيد والعبوديّة والمحبَّة لله، وكان في القلب من نقص التّوحيد -بل من الألم والحسرة والعذاب- بحسب ذلك.

 

في سياق ذلك كلّه، تُستشعر دعوة الشيخ سلمان العودة -فكّ الله أسره- في إحدى فيديوهاته مناجيًا ربَّه: “أعطني حريـّة بقدر عبوديتي لكَ”، وجاءت مفردة “بقدر” دالّة على أن في كمال محبَّـة الله والعبودية له تحرر القلب ممن سواه، وقِلّة المحبَّـة والعبودية له تستدل على وجود عبودية لغيره.

 

تعليقات