"ربما في المستقبل نعرف كيف ظهر الكون".. هيثم طلعت يكشف عن أكبر مغالطة يقع فيها الملحد
- الإثنين 25 نوفمبر 2024
الأيديولوجيا الشائعة للعلم
يمارس المفهوم
الشائع للعلم إغراءًا قويا لأنه يقوم على مجموعة من المثل ذات جاذبية كبيرة حول
كيف ينبغي للعلم أن يشتغل.
يمكن وصفها بدقة بأنّها أيديولوجيا، ولن ينضوي
تحتها العلماء من كل أنحاء العالم بشكل كبير لعدم احتوائها، في حقيقة الأمر، على
الكثير مما هو صحيح عن العلم.
يمكن تلخيص
الأيديولوجيا الشائعة للعلم تحت ثلاثة عناوين: البنية المعرفية للعلم، والتحقق من
المزاعم العلمية، وعملية مراجعة الأقران.
(1)
البنية المعرفية
للعلم
تُنظَّم المعرفة
العلمية في نظام هرمي يُشار إليه من قبل الفلاسفة باسم "البنية
المعرفية" للعلم. أولا هناك الحقائق، مثل التي يجمعها عالم النباتات عند
مراقبة نتاج تجارب تربية النباتات، أو الفيزيائي عند قياس خصائص الجسيمات دون
الذرية.
وانطلاقا من
الحقائق، سيحاول العالم صياغة تخمين، أو فرضية، تفسّر بعض السّمات الخاصة للحقائق.
ويجب اختبار هذه الفرضية من خلال التجربة، ويفضّل أن تكون تجربة من شأنها أن تنتج
تأييدا أو دحضا واضح المعالم. إنّ هذا الإجراء ذهابا وإيابا بين الفرضية والتجربة
–الحصول على الفكرة وإخضاعها للاختبار– هو جزء كبير مما يعرف بـ(المنهج العلمي).
فعندما يتم
التأكد من الفرضية عدّة مرّات، فإنّها قد تأخذ طابع القانون، مثل قانون الجاذبية
وقانون الوراثة المندلية. إنّ القوانين هي مبادئ قيّمة للعلم لأنّها تتنبأ وتفسّر
كيانات كبيرة من الحقائق.
كما أنّها تصف نظامية مهمة في الطبيعة، لكنّها
لا تفسّر بالضرورة الحقائق التي تصفها.
إنّ القانون
الذي يتم وفقه خلط المواد الكيميائية بنسب ثابتة لا يفسّر لماذا كان الأمر على هذا
النحو ولكن ينصّ ببساطة على النظامية. للحصول على تفسيرات، من الضروري الانتقال
إلى هياكل ذات مستوى أعمق تسمى نظريات.
إنّ للنظرية في
العلم معنى أكثر اتزانا من معناها في اللغة اليومية. تكون النظرية منطقية وتفسر
كيانا واسعا من المعرفة العلمية، بما في ذلك القوانين والحقائق التي تعتمد على
القوانين.
كما تستند النظرية بطبيعة الحال إلى الحقائق
والقوانين التي تفسّرها، ولكنها في نفس الوقت تحتوي على عناصر ليس عليها دليل
مباشر.
إنّ هذه العناصر، أو الكيانات التي يوصل إليها
عن طريق الاستدلال، عادة ما تكون الجزء النشط الحاسم من النظرية، رغم وضعيتها التي
لا يمكن التحقق منها.
تشرح النظرية
الذرية قانون دالتون للنسب الثابتة، ولكن في الوقت الذي صيغت فيه النظرية، ولمدة
طويلة بعد ذلك، لم يكن هناك دليل مباشر على وجود الذرات.
تم اعتماد
الجينات في النظريات حول علم الوراثة قبل وقت طويل من اكتشاف طبيعتها الفيزيائية.
تعتبر نظرية التطور مثالا آخر للنظرية التي
قُدِّرت بشكل كبير من قبل العلماء بسبب قدرتها التفسيرية الهائلة، رغم أنها تكمن
في شعور عميق جدا لدرجة يصعب معها إثباتها ودحضها مباشرة.
تمتد البنية
المعرفية للعلم من الحقائق المشاهدة الوفيرة، إلى القوانين الكامنة التي تفسّرها،
إلى النظريات التي تفسّر القوانين.
وتعتبر المرونة
من أهم خصائص هذه البنية.
إذ يمكن للقوانين أن تتغيّر أو تُعدَّل في ضوء
حقائق جديدة، وتظل النظريات قابلة لأن تُسقط من قبل ثورات فكرية تستبدلها بنظريات
أفضل وعادة ما تكون أكثر شمولية.
إنّ البنية المعرفية للعلم في توسّع مستمر. فهي
تنمو من خلال توليد فرضيات جديدة، أو تنبؤات مستمدة من النظرية، واستكشاف حقائق
جديدة لإدخالها في مجال أنظمتها التفسيرية.
(2)
التحقق من
المزاعم العلمية
إنّ العلم نشاط
عام، تقوم به مجموعة من العلماء يسبرون ويتحققون من أعمال بعضهم البعض الآخر.
ينبغي للعالم أن
يمرّ بسلسلة من الاختبارات تبدأ بــ"نظام مراجعة الأقران" (الموصوف
أدناه) من أجل الحصول على تمويل لإنجاز برنامج بحثيّ.
كما يجب عليه أن
ينشر نتائج بحثه في مجلة علمية، ولكن قبل النشر يقوم رئيس تحرير المجلة بإرسال
بحثه إلى المراجعين العلميين، المعروفين بالحكام.
يقوم الحكام بتقديم النصيحة إلى رئيس التحرير
حول هل يتمتع العمل بالجدّة، هل أقرّ بشكل جيد بالبحوث الأخرى التي بنى عليها
نتائجه، والأهم من ذلك، هل تم اعتماد المناهج المناسبة في إجراء التجربة والحجج
الصحيحة في مناقشة النتائج.
وبالتالي فإنّ
الدعوى العلمية تكون قد مرّت بنقطتين للتحقق من صلابتها قبل نشرها. ف
بمجرد وجودها
داخل الأدبيات العلمية المفتوحة، فإنّها تخضع لاختبار ثالث أكثر تشددا، ألا وهو
إعادة الإنتاج. إنّ العالم الذي يدعي اكتشافا جديدا يجب أن يقوم بذلك بطريقة تخوّل
للآخرين التحقق من دعواه.
إذًا، فإنّ
الباحث، عند وصفه للتجربة، سوف يذكر نوع المعدّات التي استُعملت والإجراء الذي
اتُّبع، وهو ما يشبه إلى حدّ كبير وصفة الطعام الذي يعدّها الطاهي.
وكلما كان الاكتشاف الجديد أكثر أهمية، سارع
الباحثون الآخرون إلى محاولة إعادة إنتاجه في مختبراتهم الخاصة.
وعليه؛ فإنّ
المعرفة العلمية تختلف عن أشكال معرفية أخرى من جهة أنه يمكن التحقق منها. إذ
تنتجها مجموعة من العلماء الذين يقومون بالتحقق من عمل بعضهم البعض الآخر بشكل
مستمر، فيستأصلون ما لا يمكن الاعتماد عليه، ويبنون على النتائج المؤكدة. فالعلم
يتمثل في مجتمع من العلماء المنخرطين في مجال إنتاج معرفة معتمدة.
(3)
عملية مراجعة
الأقران
يتمُّ تمويل
معظم النشاط العلمي بالجامعة من قبل الحكومة الفيدرالية، الراعي المهيمن للبحث
الأساسي.
إذ تحدّد
الحكومة المبلغ الماليّ الإجماليّ الذي سيتم إنفاقه في كل منطقة، إلّا أنّ لجان
العلماء هي التي تقرّر مَنْ مِنَ زملائهم جدير بتلقي المال.
هذه اللجان، التي تقوم بوظيفة استشارية للوكالات
الحكومية، تشكل "نظام مراجعة الأقران".
فباعتبارها تتألف من الخبراء الزملاء في هذا
المجال، فإنّها تصدر أحكاما بشأن قيمة طلبات المنح التفصيلية المقدمة من قبل
زملائهم.
وباعتماد قرارات لجان مراجعة الأقران، يتمُّ
توجيه الأموال إلى أولئك الذي لديهم أفضل الأفكار وأوضح الأدلة على إمكانية تحقيقها.
هذا هو مجمع
الأفكار والقيم التي تشكل أيديولوجيا العلم السائدة. وهذه هي الطريقة التي ينبغي
للعلم أن يعمل بها، بل هو يعمل الآن في جزء منه وفقها.
يتشبّث العلماء
بقوة إلى حدّ كبير بهذه الأيديولوجيا إلى درجة يجدون معها صعوبة في ملاحظة أي
أهمية في أي انحراف عنها.
ومع ذلك، فإنَّ
هذه الأيديولوجيا تعتبر وصفا ناقصا لكيفية عمل العلم على مستوى الممارسة.
فهي مستمدة من
دراسات العلم التي قام بها الفلاسفة تحديدا، بالإضافة إلى المؤرخين وعلماء
الاجتماع.
فقد رأى هؤلاء
المختصون في العلم انعكاسا لملامح ومُثُل ذات أهمية خاصة بالنسبة لتخصصاتهم وقد
تجاهلوا غيرها تماما.
بكل بساطة، كتب الفلاسفة حول منطق العلم فقط،
بينما اهتم علماء الاجتماع بــ"نماذج" السلوك العلمي، أمّا المؤرخون فقد
اعتنوا في الجزء الأكبر بالبرهنة على تقدم العلم والانتصار المشجع للعقلانية على
الخرافات.
تعتبر الأيديولوجيا
الشائعة للعلم صورة مركبة مستقاة من نتائج التخصصات الثلاثة جميعها.
ولكن بما أنّ
كلًّا منها قد قدّم توصيفا للعلم انطلاقا من منظوره ومُثله الخاصة، فإنّ الصورة
الكاملة –بشكل غير مفاجئ– هي تمثيل غير مكتمل ومثالي.
لذلك لا يوجد في الصورة مجال للاحتيال العلمي،
أو بالتأكيد لملامح عديدة أخرى للعملية العلمية.
تضِلُّ
الأيديولوجيا الشائعة الطريق بشكل جدّيٍّ بتركيزها على عملية سير العلم بدلا من
التركيز على دوافع واحتياجات العلماء. فالعلماء لا يختلفون عن الأشخاص الآخرين.
فهم عند
ارتدائهم المعطف الأبيض عند باب المخبر لا ينزعون عنهم المشاعر والطموحات
والأحاسيس بالفشل التي تحرّك أولئك المنخرطين في مناح أخرى من الحياة. يعتبر العلم
الحديث مهنة، وتمثل المقالات المنشورة في الأدبيات العلمية نقاط العبور إليها.
ينبغي للباحث، لكي يكون ناجحا، أن ينشر أكثر عدد ممكن من المقالات، وأن يأمّن
المنح الحكومية، وينشأ مخبرا ويحصّل الموارد لتوظيف طلاب الدراسات العليا، وأن
يزيد في انتاج الأوراق البحثية المنشورة، وأن يسعى للحصول على مركز رفيع في أحد
الجامعات، وأن يكتب مقالات يمكن أن تثير اهتمام اللجان التي تمنح جوائز علمية، وأن
يحصل فرصة انتخابه للأكاديمية الوطنية للعلوم، وأن يأمل يوما ما في الفوز بدعوة
إلى ستوكهولم.
ملحوظة: هذا
المقال من كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم) للمزيد يرجى مراجعة
الكتاب.