رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

مريم زهران تكتب: حين تنهار الأمم!

  • جداريات Jedariiat
  • الجمعة 28 أكتوبر 2022, 11:54 مساءً
  • 506
حين تنهار الأمم

حين تنهار الأمم

لا يخفى على أحد حال أمتنا ما وصلت إليه، بالرغم أنا كنا بالأمس القريب أسياد العالم، نحكم ونصول ونجول العالم نملأه عدلًا ورحمة، نأتي بما لم يأتي به أحدًا فنحن المسلمون أصحاب الكتاب المحفوظ والعقيدة الراسخة نحن أمة لا تعرف الفناء، فكيف وصلنا لهذا الحال وكيف هنّا على أنفسنا؟

 

إنها أسباب متراكمة تبيّنها لنا دراسة التاريخ، فأسباب انهيار الأمم ما علينا إلا اجتنابها، وﷲ وليّنا ينصرنا ويجبرنا ويُؤتينا خيرًا مما أُخِذَ منا ويعطينا وعدنا على لسان رسله، نصرًا وتمكينًا في الدنيا وجنات عدنًا في الآخرة، ألا ذلك هو الفوز العظيم؟

 

سنن الله في خلقه

يجب أن نعرف ان لله سننًا في خلقه، أجراها على كثير من الأمم قبلنا، فنرى تلك الأمم قد اتبعت بعض الطرق فقويت، أو اتبعت غيرها فضعفت وسقطت، وكما تقضي السنن الإلهية اندثر بعضها وبقي بعضها الآخر تحت مسميات عديدة، فعسى أن يسعى البعض للإصلاح بعد معرفة أسباب انهيار الأمم وسنن الله في خلقه.

 

ومن مشهور القول إنه إن عُرف السبب بطُل العجب وإذا عُرفت الأسباب تيسرت بإذن الله الحلول، فما الأسباب التي يمكن سردها -في عجالة- لانهيار الأمم.

 

الافتتان بالدنيا والغرق بها

(روي أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ قَد صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مع النبيِّ ﷺ، فَلَمَّا صَلَّى بهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ رَآهُمْ، وقالَ: أَظُنُّكُمْ قدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جَاءَ بشيءٍ؟، قالوا: أَجَلْ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ) [صحيح البخاري] لقد صدق النبي الكريم ﷺ، فالافتتان بالدنيا سبب أساسي للفساد، والتنافس الظالم فيها سبب أساسي لظهور الطبقات والمظالم بين الناس، وهكذا يفرز في المجتمع الكثير من الظواهر التي تؤثر في تديّنه وأخلاقه وأعماله، بسبب تنافسه السيئ وافتتانه المكروه في الدنيا، “فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ” وهذا يدل أن سنة الله في عباده الذين أسرفوا في حب الدنيا حتى الغرق في مفاتنها، أنهم يمهدون الطريق لهلاكهم أخلاقيًّا وفعليًّا بما يحدِثون من آثار مادّية ضارة ناتجة عن طمعهم.

 

 

 

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أذكر هنا آية من القرآن الكريم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78- 79] يفسر هذه الآية حديث لرسول الله ﷺ، يقول فيه: (مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكرًا فَلْيُغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلبهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ) [أخرجه مسلم]. وفي حديث آخر قال فيه رسول الله ﷺ: (مَا مِن نَبِيٍّ بعَثَهُ اللَّه في أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَه مِن أُمَّتِهِ حواريُّون وأَصْحَابٌ يَأْخذون بِسُنَّتِهِ، ويَقْتدُون بأَمْرِه، ثُمَّ إِنَّها تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهمْ خُلُوفٌ يقُولُون مَا لا يَفْعلُونَ، ويفْعَلُون مَا لا يُؤْمَرون، فَمَنْ جاهدهُم بِيَدهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، ومَنْ جَاهَدهُمْ بِلِسانِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَيسَ وراءَ ذلِك مِن الإِيمانِ حبَّةُ خَرْدلٍ) [أخرجه مسلم]

 

الجهل بالدين

إن أعظم ما يملأ حياة الإنسان بالمعاني هو دينه، وإيمانه بخالقه، ويقينه بأنه ما خلقه إلا ليكون إضافة نافعة للناس والخليقة، وأنه في امتحان مؤداه جنة الله أو عقابه، إلا أن كثيرًا من الناس باتوا في غفلة عن هذا فجهلوا الدين وابتعدوا عن تعلّم أحكامه ومقاصده وغاياته وجهود العلماء فيه.

 

بعيدًا عن ذلك، ترى الكثير ممن لم يتعلم سوى بضع آيات أو قرأ بدايات بعض العلوم أو أنه حفظ بعضًا من أحاديث النبي ﷺ، بدأ يفتي للناس ويتصدّر للحديث فيما لا يحق له الحديث فيه، وترى كثيرًا ممن يدعي التديّن لا يعامل الناس بالمعاملة التي أمر بها الإسلام، ويربي ولده كما يتلقّى من عادات المجتمع أو صيحات العولمة والميديا، فهل هذا اقتراب من الدين أم بعد عنه، وهل هذا علم به أم جهل؟

 

 تشويه تاريخ الأمة والجهل به

إن الأمة التي تجهل التاريخ لن تستفيد في حاضرها، وإن من يحارب تاريخه لن تبقى له هوية تحميه، هذا ما نتعلمه من سنن الله في خلقه.

 

كم مِن أبناء أمتنا العظيمة اليوم يعلم تاريخها وحياة عظمائها؟! وكم منهم مَن يعلّم أبناءه تفاصيل التاريخ الذي بناه قادة ومجهولون متميزون، أمثال يوسف بن تاشفين، وعبد الرحمن الناصر، وسيف الدين قطز، وأبي بكر اللمتوني، والشيخ عبد الله بن ياسين.

 

إن إهمال أبناء الأمة تاريخها، وسكوتهم عن تشويهه المتعمد، يفقِد الأمل بقيامها ونهوضها.

 

الانبهار بالحضارات الهالكة

حين تفقد هويتك وتنبهر بحضارات أدنى منها خلقًا، وأقل منها رتبة في أسُس الفكر، فاعلم أنك تخطو نحو ذوبانك واضمحلالك في فتنة غيرك.

 

إن كثيرًا من أبناء أمتنا يحاولون تقليد أسوأ ما في الغرب من أخلاق بكل الأشكال والطرق، وتركوا إزاء ذلك مقومات الغرب الحضارية من العلم والاجتهاد، كما أنهم تاريخ أمتهم العظيم، ليكتفوا بما يهلك الحضارات الأخرى، فهؤلاء نخشى عليهم وعلى الأمة أن يذلهم أو يزيد في إذلالهم، لأنهم اتبعوا القطيع الذي يتبع هواه بِغَيْرِ عِلْم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَاب مُنِير.

 

إن أول طريق الانهيار في المجتمعات والأمم هو انهيار الفرد نفسيًّا، ولعل أبرز ما يشكل هذا الانهيار هو الانبهار بالحضارات والثقافات التي تعلي ذاتها مركزًا مقابل محو وجود الله من حياتها، ففي هذا تحقير النفس واستهانة بما ينتمي إليه الفرد من أبناء الحضارة العربية والإسلامية، فنحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله.

 

 

 

ضياع الهوية

يتصل بالنقطة السابقة نقطة اضمحلال الهوية وإضاعتها، فحين تضيع الهوية لا يبقى للشخص حضور ذاتي يعينه على بناء نهضة يعتز بها، بل ينتظر من الآخرين أن يعملوا ليأخذ منهم.

 

وكثيرٌ من المسلمين -للأسف- إلا من رحم ربي، يحقرون بعضهم البعض، أو يصمون بعضهم بوصم التخلف لانتمائه لقومية معينة، أو لتديّنه، أو لاعتزازه بشريعة الله التي -باتت بزعمهم- لا تناسب عصرنا الحديث.

 

كثيرٌ من أبناء المسلمين في مختلف البقاع يؤمنون بأن تاريخ الإسلام أضاع حق المرأة أو أن فتوح المسلمين كانت حروبًا للنهب والسلب، رغم أن آثار الإسلام في تكريم المرأة وإخراج الشعوب والبلاد كلها من الظلمات إلى النور ماثلة أمام الأعين، ولا ينكرها إلا مكابر أو مخاتلٌ يلبّس على الناس ويدلّس عليهم.

 

ترى كثيرًا من أبناء المسلمين يسمون العرب بأبناء صحراء ويعتزّون بالفراعنة أو الفينيقيين أو الأمازيغ، ولم يعرفوا أن أعلام الأمة كلهم اعتزوا بانتمائهم لحضارة الإسلام التي أسسها العرب، فأخرجت للتاريخ أمثال ابن سينا وابن النفيس وابن خلدون والحسن بن الهيثم والكندي وابن رشد والخوارزمي والبخاري وآلاف غيرهم، ولم تضع تلك الحضارة إلا بعد تخاذل المسلمين عن السعي لرفعتها وضعف الانتماء لها وضياع هويتهم.

 

الفُرقة والتشتت

عندما تفرقت الأمة أصبحت فريسة سهلة لأعدائها، فنرى أعداء أمتنا تجمعوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ونحن ما زلنا مشتتين في أرض الله يبغض أحدنا أخاه ولا يحب له الخير، فإذا استمر هذا في أمتنا فلن ترى لها من باقية، يقول ﷺ: (عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهومن الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنَّة فليلزم الجماعة) [سنن الترمذي]

 

إن الفُرقة بين المسلمين من أكبر الفتن، التي فرقت الأمة وجعلت معاول الهدم في داخلها تتقوى ولا تفتر عن الحفر في جسدها ممهدة لخرابها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الفتنة إذا وقعت لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله” [منهاج السنة النبوية، ابن تيمية] وقد رأينا حرص المحتلين على تقسيم دولنا العربية ووضع ما يسمى بالحدود، لأنهم يدركون تمامًا أن هذه التفرقة من أقوى الطرق لتضعيف الأمة.

 

ضياع الأمانة

قال رسول الله ﷺ: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) [صحيح البخاري]

 

ولعل أبسط الأمثلة توضح هذا الحديث كما لو أننا نراه أمام أعيننا، فكثير من العلماء والخطباء والمعلمين والمصلحين ليسوا قدوات حقيقية للناس، وكذا ترى كثيرًا من الأمهات بعيدات عن نيل شرف مهمة الأمومة التي تحتاج استعدادًا نفسيًّا وفكريًّا وعقليًّا وعاطفيًّا، وإيمانًا بعظمة دورها، وثقل مهمتها في سبيل الله، وهي صناعة أجيال تنهض بالأمة، وهكذا كلما نظرت لإحدى المؤسسات ترى توسيد الأمر فيها لغير ماثلاً للعيان.

 

ضعف الشعور بالمسؤولية

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].

 

مما لا يخفى على المطلعين على التفسير أن المقصد بالآية هو إشعار الإنسان بعظمة المسؤولية التي ألقيت على عاتقه، إلا أننا رغم ذلك نرى التهاون وعدم استشعار عظمة تلك الأمانة، وإن المسؤولية التي تحملها أمتنا لهي من أعظم الأمانات، وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة الدنيا إلى عبادة ربها، بإذن الله، إعلاء لكلمته، ونشرًا للحق في الأرض، إلا أن الوهن أصاب أبناءها وقياداتها وتجارها فشلّ فاعليّتها وأرخى فوقها ظلمات الضعف.

 

أسأل ﷲ أن يمن علينا ويهدينا إلى سبيل الحق، ويعزنا بالإسلام، ويجمعنا في جنات النعيم، وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

نقلا عن منصة السبيل.

 

تعليقات