د. خالد فوزي حمزة يكتب: نفخ الروح في الجنين

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 26 أكتوبر 2022, 06:20 صباحا
  • 1236

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد..

فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (*) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (*) ثُمَّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]، وقال: {هُوَ الّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 6]، وقال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (*) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (*) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9].

فهذه الآيات الكريمات تبين أطواراً من أطوار خلق الإنسان، وقد ورد في السنة أحاديث عن ذلك ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما. ثم يكون علقة مثل ذلك. ثم يكون مضغة مثل ذلك. ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب: عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ..) [لفظ البخاري]، وقد فهم كثيرون أن المراد بقوله (مثل ذلك): أي: في العدد، فصاروا يطلقون أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة، أي أربعة أشهر، وبنى بعضهم عليها أحكاماً منها جواز الإجهاض قبل أربعة أشهر، أو كراهته فحسب، ونحو ذلك.


إلا أن الحديث ليس فيه إلا أربعين واحدة، وهو متوافق مع حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم ولفظه: عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)، وفي رواية (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)، فأنت ترى أن حديث ابن مسعود يتوافق مع حديث حذيفة بن أسيد، في أن كلا منهما ذكر (الأربعين الواحدة).


ويبقى الكلام في توجيه معنى (مثل ذلك)، والظاهر أن المراد منها المثلية في الجمع وليس في العدد، يعني يكون معناه: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما. يكون نطفة ثم يكون علقة. ثم يكون مضغة، فالجمع كله في الأربعين، ويؤيده رواية مسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فهي تبين أنه يكون (في ذلك) أي في نفس الأربعين، وبالتالي تتفق الروايات.

فتكون الأربعين الأولى محل الجمع للأطوار الثلاث النطفة فالعلقة فالمضغة.

ولكن نظراً إلا أن الحركات (الإرادية الظاهرية) لا تظهر بوضوح إلا بعد أربعة أشهر، فقد ظن كثير من العلماء أن المراد بالمثلية العدد.


وقد حاول بعض العلماء الجمع أو الترجيح بين حديث ابن مسعود وحديث حذيفة كمن قال المراد بالأربعين في حديث حذيفة هي الأربعين الثالثة، وهو ما رده ابن القيم بشدة وقال: (وهذا بعيد جدا من لفظ الحديث ولفظه يأباه كل الإباء) [التبيان في أقسام القرآن 1/214]، إلا أن ابن القيم مال إلى وقوع التقدير مرتين: (فالأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق، والتقدير الثاني عند كمال خلقه ونفخ الروح فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره وهذا تقدير عقد تمام خلقه وتصويره).

وقد أطال في تحفة المودود بأحكام المولود (1/258)، في الكلام على التوفيق بين الحديثين، لكن ذكر وجوهاً من الجمع بعيدة أيضاً، وكرر ذلك أيضاً في شفاء العليل (6/6).

وهي كلها تقضي أن طور المضغة يبدأ بعد الثمانين، ولو نظرنا في (علم الأجنة) المعاصر، فهو يقطع بوجود المضغة قبل ذلك، بل ربما في الأسبوع الخامس وربما قبل ذلك، لكن الحركات اللاإرادية كالنبض تظهر في نهاية الأسبوع السادس، ويظهر بالسونار أمام الطبيبة واضحاً، وحيث إن القلب مضغة، ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، فقد ثبت قطعاً أن دور المضغة في الأربعين الأولى أيضاً.

ونفخ الروح يكون بعد ذلك بعد اكتمال دور المضغة، ولم يَرد تحديد وقته بدقة في النصوص، لكنه في الجملة بعد التسوية لقوله تعالى يقول: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}، وقوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك} [الانفطار: 7]، وعلم الأجنة يقرر أنه غالباً في نهاية الأسبوع الثامن تكون جميع الأجهزة الرئيسة قد تخلقت وتميزت الصورة الإنسانية وسوى خلق الإنسان كما تتميز الأعضاء التناسلية في الأسبوع الثاني عشر أو قريب ذلك، ونفخ الروح ممكن في هذه الأوقات.


لكن إذا اعتبرنا نبض القلب من علامات نفخ الروح؛ فيكون من نهاية الأسبوع السادس، وإذا قلنا أن اغتذاء الجنين كان كالنبات، فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة إرادية إلى حركة نموه واغتذائه؛ فقد أثبتت الأجهزة الحديثة رؤية حركات جسم الجنين في وقت مبكر؛ حيث يمكن أن تصور عند الأسبوع الثامن أو عندما يبلغ كيس الحمل 3سم أو يبلغ طول الجنين حوالي 15 مم. كما يمكن أن تُرى الحركات الجنينية التي تعبر عن حيوية الجنين مثل حركات التنفس وضربات القلب وحركات عدسة العين وحركات الأمعاء الدودية. كما رصدت الحركات التي تعبر عن "نشاط الجنين" مثل البلع وحركة اليد إلى الفم والمضغ وحركات اللسان وحركة اليد إلى الوجه ومص الأصابع؛ والتي يمكن أن ترى عند الأسبوع السادس عشر؛ وكله قبل مائة وعشرين يوما فتأمل! وتعتبر هذه الحركات انعكاس غير مباشر لحالة الجهاز العصبي المركزي؛ فكلما كانت هذه الحركات موجودة ومتوازنة، كلما كانت حالة الجهاز العصبي نشطة وسليمة.


فحركات الجنين الإرادية وبدء عمل وظائف أعضاء الجنين الرئيسية تبدأ شيئاً فشيئاً في الأربعين يوما الثانية من عمره. فرؤية مراحل الجنين المختلفة منذ بداية تكونه، واكتمال خلقه وتصويره وقيام معظم أجهزته بوظائفها ورصد حركته الذاتية وأنشطته البدنية قبل أربعة أشهر على وجه القطع.

وأما موضوع الإجهاض؛ فالصحيح عندي تحريمه سواء أكان قبل الأربعين أو بعدها مطلقاً، إلا في الحالات المستثناة التي يذكرها العلماء، كالخوف المتحقق على حياة الأم، لكن حيث حُكي الإجماع على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، وهو محتمل بعد الأربعين، فلا مناص من المنع منه بعد الأربعين، لأن نفخ الروح يكون بعد طور المضغة، وطور المضغة يبدأ ويكتمل وينتهي خلال الأربعين يوما الأولى بيقين؛ فعليه يرجح القول بحرمة الإجهاض بعد الأربعين يوما الأولى من بداية تلقيح البييضة وتكون النطفة الأمشاج. وتشتد الحرمة بعد مرحلة تمام التخليق، والله أعلم.

ولكن يبقى معنا أن هناك من نقل الإجماع على مسألة النفخ بعد الأربعة الأشهر، فنقل في الفتح عن القاضي قوله: (ولم يختلف ان نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة اشهر ودخوله في الخامس وهذا موجود بالمشاهدة وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الاحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف) [فتح الباري لابن حجر 11/485]، وواضح أن كلام القاضي يتعلق بثبوت وجود الجنين، للأحكام التي ترتب عليه، فإذا ثبت بغير الحركة كانت الأحكام أيضاً ثابتة كما لا يخفى. كما لو ظهرت الحركة المتحققة قبل الأشهر الأربعة، فيكون الإجماع إنما هو على ما تتعلق به الأحكام المتعلقة من نفخ الروح، وكما قال الشاطبي في الموافقات (3/509): [فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة].


وأيضاً قد قال ابن حجر (11/481): (وقد نقل الفاضل علي بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على ان خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى ... قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر)، فالسياق لكلام الطبيب، وقد تقدم ما يبين رده.

وأما القرطبي فإنه قال تفسير القرطبي (12/8): (لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث)، وهو إنما بنى هذا على رواية (12/7): (يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح" فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح)اهـ، ولم تثبت أي رواية مطلقاً في ذكر غير أربعين واحدة، بل الرواية التي ذكرها القرطبي هذه ليس لها وجود بهذا اللفظ إلا عنده.

وإنما نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة، لكن هذا أيضاً باعتبار الحركة الظاهرة، وإلا فالعدة فيها المعنى التعبدي، فقد أجمعوا أن غير المدخول بها تتربص أيضاً هذه المدة، فلعل هذه الأربعة أشهر والعشر بعدها من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد ركعات الصلوات وأنصبة الزكوات، ونحو ذلكن والله أعلم.

ومما يُعجب له أنني كنت أدرس طبيبات في دورة عن الأحكام الفقهية الطبية، عبر الغرف الصوتية في النت، وسألت عن مرحلة المضغة ونفخ الروح، فأجابنني بالأربعة الأشهر، وزاد العجب لما علمت أن ستاً منهن يعملن استشاريات أمراض النساء والولادة!!.


ولما سألتهن عن الدليل ذكرن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فبدأت أعرض حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه على الشاشة، وأبين أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه ليس فيه أربعينات، فعندئذ انتبهن وبدأن يذكرن ما يعرفنه من علم الأجنة، ثم راجعت صديقاً وهو استشاري أمراض النساء والولادة لكنه على قدر كبير من الفقه، فقال لي غالباً يحصل عند بعضنا انفصامٌ في التفكير بين ما يُدرس وبين معلومات سابقة، وعادة نأخذ بكلٍ على حدة، وما ننتبه للتناقض إلا إذا نبهنا إليه، والحمد لله رب العالمين. والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [كان هذا من منشور نشرته في بعض الصحف المصرية عام 2019، لكن نشره إلكترونياً يزيد في الانتشار لتعم الفائدة، وبالله التوفيق.

كتبه:

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

الأستاذ بجامعتي العلا ومينيسوتا

تعليقات