رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

شيماء مصطفى تكتب: وكلّها ثغور!

  • جداريات Jedariiat
  • الأحد 16 أكتوبر 2022, 02:03 صباحا
  • 732

تتأثّر نهضة الأمم بشكل كبير بإدراك أبنائها للثغور الشاغرة التي تحتاج إلى سدّها، وكذا قدرتهم على معرفة الأَوْلى منها دون إغفال أيٍّ منها، وهذا يتوقّف على طبيعة المقوّمات التي تتمحور حولها هذه الأمة، والمعاني العظمى التي ترنو الوصول إليها، وعلى التكوين النفسي لأفرادها.

 

وطالما أن الأمة الإسلامية هي مناط البحث فيجب تحرير هذه المقوّمات، لقد جاءت الشريعة الإسلامية لترسّخ نظامًا محكمًا للبشرية متمحورًا حول تحقيق العبودية لله عز وجل بمعناها الشمولي، فتضبط علاقة الإنسان بالله عز وجل كقاعدة كبرى يتفرّع عنها ضبط علاقة الإنسان بشتّى الميادين الأخرى، ممّا يجعل السؤال عن الثغور التي تحقّق هذه الغاية سؤالًا مشروعًا بل يجب طرحه والبحث عن إجابته.

 

أساس النهوض

إنّ نهضة الأمة الإسلامية لا يمكن أن تُحقَق عن طريق استيراد منظومات خارجيّة بمحرّكاتها الفلسفيّة كي نقيم من خلالها نهضة حضارية، إذ الحضارة السائدة لا يمكن أن تنشأ إلا في ظل تمايزها، وبالتالي يجب قيامها منطلقة من منظومتها القيميّة ومن منظورها العقدي.

 

عند محاولة النظر إلى سلّم النهوض الحضاريّ الإسلاميّ على مر العصور سنجد عوامل مشتركة يجب أن تتحقّق بدايةً حتى يتجلّى ذاك النهوض، فلو اتخذنا الأنموذج النبوي لنستشف من مسيرته هذه النهضة الحضاريّة وما تميّزت به انطلاقًا من منظورها العقدي سنجد أنّ أول ما عني به صلّى الله عليه وسلّم هو تكوين الإنسان وتربيته، فقضى صلوات الله وسلامه عليه ثلاثة عشر عامًا لا يفعل إلا المهمة النبوية التربوية عن طريق تلاوة القرآن وتعليم القرآن والسنة والتزكية.

 

 قال الله عز وجل {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ}[١٦٤- آل عمران] فتكوّنت تلك النفس العظيمة المذعنة لله رب العالمين والخاضعة له، إنها النفس التي ضبط الوحي ميزانها لدرجة مذهلة حتى نجد جيلًا لا يحيّره سؤال عن أعظم آية في كتاب الله.

 

عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِر) [صحيح مسلم] لو تفكّرنا لحظة في هذا الموقف لعلمنا قدر التربية النبوية لهذا الجيل، ولعلمنا سبيل نهضتنا نحن ونهضة الأمة في أيّ عصر، هذا الصحابي الجليل علم مقصد الرسالة ومركزيات الوحي فلمّا وُضِعَ أمام آي القرآن يُسأل عن أعظمها، لم يتردّد في معرفة الإجابة التي يكمن فيها تعظيم الله عز وجل وصفاته وأنّ الأمر كله بيديه مما يقتضي الإذعان له وتمام التسليم له سبحانه وتعالى.

 

فعندما يُبنى هذا الإنسان يكوّن حصانة أمام الأفكار الهدّامة في الحضارات الأخرى مهما بدَت ساحرة وقوية، وأمام الفلسفات التي تحملها ودعاوى التمدّن والعولمة التي تروج لها، ومن هنا تبدأ التمايزية الحضارية في تبلورها والتي تؤهل أصحابها أن ينطلقوا بعدها من القرآن إلى العمران، فيؤسسوا حضارتهم باستقلالية تامة في المرجعية والهُوية، وهذا لا يعني الانعزال عن الحضارات الأخرى وعدم الإفادة منها في مختلف المجالات البشرية التي تدخل في سياق قوله صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بشئون دنياكم”، ولكن بعد أن تكون تلك الحضارة خرجت من مرحلة المهد إلى الرشد في شتى منطلقاتها فتكون تلك الإفادة بمثابة التبادل الثقافي المرغوب بين الحضارات وليس بمثابة الولع بثقافة غالبة أو بسبب خواء حضاري فكري يدفع تلك الأمة دفعًا لاستيراد ما يملأ هذا الخواء طامسةً به ملامحها وتمايزيتها.

 

 

 

 

 

ما هي الثغور المركزيّة التي يجب العمل عليها؟

بناءً على النظرة السابقة يتضح لنا أن إصلاح علاقة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى هو العمل المركزي الأول في ميدان سدّ الثغور، بل إن كل عمل يُعرِّج بعيدًا عن هذا الثغر وتلك الغاية فهو ضرب من العبث يزداد به الواقع تعقيدًا وصعوبة على المصلح في شق طريق النهضة.

 

وتتحقّق هذه الغاية بتزكية النفوس وإعدادها لتلقي الوحي واستيعابه والرضوخ والتسليم له، مع مِران النفس على مخالفة الهوى، وإخلاص الدين لله سبحانه وتعالى، فعندما يتشكّل هذا الإنسان الذي تلقّى هذه التربية نكون قطعنا شوطًا كبيرًا في معالجة الكثير من إشكالات الواقع الحالي، إذ إنّ العديد من إشكالاته ترجع إلى افتقاد جمع غفير من أبناء الأمة الإسلامية لتلك النفس المزكّاة التي تخضع لمرجعية الوحي وتعمل بمقتضاه ولو أفضى ذاك المقتضى لما يخالف هواها.

 

إن إعداد النفوس للتسليم بالوحي يجب أن يتوازى مع إقامة الأدلة والبراهين والاستدلال عليها بشكل صحيح، فعندما تتوازن هاتان الكفّتّان نكون وضعنا أقدمنا حقًا على طريق النهضة الصحيح الذي لا يتماهى مع فلسفات الآخر ولا يخضع لمخرجاته.

 

عقولٌ نهضوية.

يمكننا أن نسأل بعد معرفة الثغرين المركزيين المتمثلين في إصلاح النفوس وإعدادها لتلقي الوحي والعمل بمقتضاه مهما كان، وإقامة الأدلة والبراهين والاستدلال عليها بشكل صحيح، هل يمكن أن نكتفي بهذا القدر لتحقيق نهضة شاملة؟

 

إنّ هذين الثغرين يمثّلان حجر الأساس في صرح النهضة، ولكن كي يكتمل البناء يجب تشييد الأعمدة والجدران التي تُهيكل هذا الصرح، وكذا يجب طرق كل الأبواب والثغور التي ستقيم هذه الأعمدة والجدران ووضع تصور واضح لها، ويمكن ترك كماليّات البناء حسب مجريات المرحلة، فبعد إعداد هذا المسلم الرباني نحتاج تشكيل المنظومات التي نحقق بها التمايزية الحضارية، فلو اتخذنا _على سبيل المثال_ مشروع أسلمة المعارف، هذا المشروع لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع إذا عُمِلَ عليه من زاوية واحدة، لأنه يعتمد على رسم خريطة تكوينيّة جديدة لكل علم، فلا يمكن أن يُختزَل فضاء العمل فيه على العقل الشرعي الفكري، لأن طبيعة هذه المعارف التي تحتاج إلى هيكلة إصلاحية إسلامية “أسلمة” تسبح في فضاءات بعيدة من الناحية النظرية والتطبيقية عن الفضاء الذي يعمل فيه المفكر الإسلامي.

 

إننا نحتاج من أبناء الأمة من يقف على ثغور كل فن من الفنون وعلم من العلوم ويتخصص فيها ويعلم مظانّها ومداخلها ومخارجها حتى يتمكّن بمعاونة المفكر الإسلامي على وضع تصور لمنهج هذا العلم طبقًا للتصور الإسلامي، وكذا لا يمكن تصور هذا المشروع إذ اعتمد على المتخصص في علمٍ معين دون أن يعرف مجريات الواقع ويملك خلفية شرعية تمكّنه من وضع تصوّر صحيح وكذلك فهم المآلات الشرعية الفكرية التي يطرحها الأصولي والمفكر الإسلامي، إذ أنه بمفرده ودون إدراك الفكرة المركزية التي لأجلها تم وضع مشروع أسلمة المعارف لن يستطيع التحرك وتشكيل تصور صحيح، بل ربما لن يجد إشكالًا أصلًا في وجود منظومات مستوردة.

 

 

 

ما سبق بمجمله يجعلنا ندرك أهمية “العقول النهضوية” التي تشبعت وتخصصت في جانب معين مع إدراكها لمجريات الجوانب الأخرى وحمل هم هذا الدين وقضيته وحلم نهضته، وما أحوجنا لتلك العقول، مما يجهش النفس بالحزن عندما ترى من أبناء الأمة ممن عندهم من الاستعداد العقلي والموهبة ما يجعلهم يحلّقون في هذا الفضاء وعندهم قدرة على استيعاب علوم متعددة ثم تجد زهدًا منهم يحزنك، فبعضهم يكتفي بالعلوم الشرعية ولا ينتقل بها إلى فضاءات أخرى حاملًا إياها وهو على ذلك قادر، بدعوى أنّ العلوم الأخرى لن تنفعه في آخرته! والبعض الآخر يتعلم علومًا في تخصصات مختلفة ولا يكلف نفسه حتى معرفة ما لا يسع المسلم جهله في دينه وهو على ذلك قادر.

 

إن السبب الرئيس في هذه الإشكالية هو عدم حمل هم الدين وقصور في تصور الواقع وكذا عدم إدراك مركزية الإصلاح، فلا يليق بالمؤمن أن يتوقف عند عتبة الصلاح وهو بمقدوره أن ينطلق إلى ميدان الإصلاح، وكذلك الجهل بدأب السلف الصالح في هذه القضية، فنجد أنهم كانوا يوصون بإدمان النظر في العلوم الدقيقة مثل الجبر والمواريث والهندسة من أجل تعميق ملكات التحقيق والبحث والتحليل، وهذه سنة سلفية مهجورة، فنجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: “النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدربه ويقويه على العلم، فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل، تعين على قوة الرمي والركوب، وإن لم يكن ذلك وقت قتال، وهذا مقصد حسن، ولهذا كان الكثير من علماء السنة يرغبون في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن” [الرد على المنطقيّين] فعندما يستوعب المسلم أهمية هذه العلوم سواء في ذاتها لشحذ الذهن أو في سد الثغور التي تحقق للأمة تمايزها الحضارية، إذ لا يُتصَور وجود حضارة مستقلة لا تملك منطلقاتها المعرفية، وعندما ندرك أنّ عقلًا نهضويًا واحدًا يمكنه تحقيق نهضة حقيقية إذا حرّك المياه الراكدة بالانطلاق الصحيح المبني على مرجعية قوية ومتوجهة بشكل صحيح طبقًا لطبيعة المجريات الحاصلة في هذا الوقت، حينها نشعر بأهمّيّته ومسؤوليته في العمل لهذا الدين والنهوض بأمّته.

 

وهل ذلك يسع الجميع؟

 

ربما تبادر إلى ذهن القارئ أنّ المسلم لا يمكن أن يقف على ثغر يدور بعيدًا عن هذه الثغور، والبشرى هنا أن كل عمل يقوم به المسلم يمكن أن يكون ثغرًا إذا صدق النية في عمله واحتسبه، وكلٌ حسب مقدوره ووسعه، وأن كل الأعمال التي تبدو متفرقة وبسيطة هي في حقيقتها تدور في فلك نهضة الأمة إذا وُجهت بشكل صحيح، بل إنّ بعض الأعمال وإن بدت بديهيّة جدًا لكونها موجودة على نطاقات واسعة جدًا مثل تربية الأبناء، فإنها تمثل ثغرًا مركزيًّا في بناء طريق النهضة.

 

إن التربية الصحيحة التي تغرس في الطفل معاني العبودية لله عز وجل والتزكية وحمل هم الدين هي من تصنع تلك العقول النهضوية، فنظرات محمد الفاتح المتتالية على القسطنطينية وحمل هم هذا الفتح العظيم الذي طالما جاهد المسلمون قبله لتحقيقه، أحيَتْ بداخله تلك القضية وأشعلتها وأصبحت شغله الشاغل والذي به بعد فضل الله سبحانه وتعالى حقق هذا الحلم العظيم الذي كان بذرته التربية.

نقلا عن منصة "السبيل".

تعليقات