رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. محمد صدّيق يكتب: السنن الأخلاقية .. أخلاق القلب وسننه

  • أحمد محمد
  • السبت 15 أكتوبر 2022, 00:23 صباحا
  • 613

لعل أجمل ما نفتتح به هذا المقال هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: (يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِىَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ”، ثُمَّ قَالَ له: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّني كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ)  [أخرجه الترمذي في السنن].

 

عندما يتم الحديث عن سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام فإن المتبادر إلى الذهن بعض السنن المتعلقة بأعمال الجسد، كالسواك واللحية، وأداء النوافل المتعددة، لكن ثمة سنن تغيب عنها الأنظار، وهي سنن القلوب والأخلاق التي تهم كل مسلم متبع للنبي عليه الصلاة والسلام.

 

سنن القلوب

الحديث الذي أشرت إليه سابقًا يعالج سنة من السنن التي يمكن أن ننساها، غير أن هذه السنة ليست مما يقوم بها الجسد من الأعمال، وليست مما يقال باللسان من الأذكار، بل هي من أعمال القلوب، ولذلك يمكن تسميتها بسنن القلوب، أو أخلاق القلوب، وهذه السنن لها مكانها المهم، ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قرنها بسنته التي هي طريق للوصول إلى رحمة الله وجنته.

 

الغش هنا عكس النصح وإرادة الخير، فالحديث يبين أنه يجب على المؤمن أن يبيت وهو طيب القلب مريداً للخير لعباد الله، وهذا الأمر من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

 

يعلق أحد شراح الحديث على هذا الحديث: “فإن الخلق من الأخلاق المذمومة ليس من سنته، ومن فعل الأفعال المرضِيَّة، وترك الأخلاق المذمومة، فقد أحيا سنته؛ أي: فعل فعله” وعليه فإن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ذات أبعاد ومستويات متعددة، ونستطيع أن نشير هنا إلى مستويين لها:

 

سنن الأجساد، وهي التي تقوم بها جوارحنا من ذكر باللسان، وصلاة بالأجساد، وغيرها..

 

سنن القلوب، وهي مجموعة من الأخلاق التي تتمركز في القلب وتنعكس على ظاهر الإنسان على شكل أفعال طيّبة.

 

 

 

لكن لماذا القلب؟

القلب ليس هو القطعة العضليّة التي تضخ الدم إلى الجسد، بل هو جوهر العالم الروحاني للإنسان، لذلك فإن هذا القلب له مركزية في صلاح الإنسان. ولكي نعرف مفهوم القلب لا بد من النظر إلى آراء المفكرين الإسلاميين كالغزالي وغيره إليه حول القلب. فمثلاً يؤكد الغزالي على أن القلب سر من أسرار الله، وبه يكون السير إلى الله ووفق تعبيره: “موقع نظر الله تعالى المترجم عنه هو ‌القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه” [إحياء علوم الدين] كذلك فإن المفكرين المسلمين قد عنونوا لعدد من مؤلفاتهم بعناوين تحتوي على مفردة القلب في إشارة إلى مركزيته عندهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وذم قسوة القلوب لابن رجب الحنبلي، واعتلال القلوب للخرائطي وغيرها.

 

من النظر في الاستخدام القرآني والنبوي للقلب سنلاحظ أن القلب ذو أهمية، وهذه الأهمية تنبع من الوظائف التي وُكِّلَ بها، فالقلب في القرآن أداة للفهم والتعقل {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الحج: 46]، والقلب هو مركز السلامة {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89]. أما في الحديث  فالقلب هو مركز الإصلاح ونقطة بدايته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) [أخرجه مسلم]، وفي حديث آخر بين لنا كيف أن الله تعالى ناظر فقط إلى قلوبنا فقال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) [أخرجه مسلم].

 

أخلاق القلوب

في أحاديث كثيرة نرى تركيز النبي عليه الصلاة والسلام على مركزية أخلاق القلب وسننه، لذلك قال مشيرا إلى صدره التقوى هاهنا. والتقوى خلق مهم في الإسلام، فقد ربطت كثير من العبادات بالتقوى، كما أن سنن القلوب، هي مجموعة من الأخلاق التي يقوم بها القلب وتنعكس على الجوارح على شكل أفعال محمودة، فالرحمة والحياء أفعال منشأها قلبي ثم تنعكس على الجوارح.

 

لقد وصف الحكيم الترمذي هذه العلاقة بين الأخلاق المستقرة في القلب وانعكاسها على عمل الجوارح، فعندما تناول حديث: (بينما رجل يمشي في الطريق إذا أبصر بغصن ‌شوك فقال والله لأرفعهن هذا لا يصيب أحدا من المسلمين فرفعه فغفر له) [أخرجه ابن حبان في صحيحه] يبين أن ما أدخل الرجل الجنة ليس الفعل الظاهري عندما أزاح الأذى عن طريق المسلمين، بل الرحمة التي تمكنت في قلبه ودفعت به إلى القيام بهذا العمل. فعندما قَبَّل النبي عليه الصلاة والسلام طفلا له اعترض عليه أحدهم فبين النبي عليه الصلاة والسلام مركزية الأخلاق القلبية من خلال قوله: (وما أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة) [أخرجه ابن حبان في صحيحه] فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن الرحمة تبدأ من القلب لتنعكس على الجوارح على شكل لطف بالأولاد وتقبيل لهم وتقديم الفاكهة لهم أولا.

 

 

 

وكذا في الحديث: (كانَ النَّاسُ إذا رأوْا أوّل الثمر جاؤوا به إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في ثَمَرِنا، وبَارِكْ لَنا في مَدِينَتِنا، وبَارِكْ لَنا في صَاعِنا، وبَارِكْ لَنا في مُدّنا، ثم يدعُو أصغرَ وليدٍ له فيُعطيه ذلك الثمرَ) [أخرجه ابن حبان في صحيحه]. فرحمة النبي عليه الصلاة والسلام النابعة من قلبه انعكست ظاهرا على أفعاله على شكل تقديم أولى ثمرات الفاكهة إلى الأولاد الصغار الذين يرغبون بها أيما رغبة.

 

إن القلب المليء بالإيمان ينفض عنه الأخلاق المذمومة، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل) [أخرجه النسائي في السنن]. يشير إلى أن المفترض عدم اجتماعهما، ومن هنا فإن انعكاس الأخلاق القلبية على الأفعال الظاهرة مهم جدا، لأنه لا يكفي أن يكون الخلق دون انعكاس مادي، فلا يكفي أن يكون القلب كريمًا دون أن يبرهن الإنسان على ذلك بكرم على من حوله من الناس، وكذلك الرحمة لا تكفي أن تكون في القلب دون تجلٍّ مادّيٍّ بالرحمة على من حوله.

 

سنن النبي عليه الصلاة والسلام ليست فقط منحصرة بالأفعال البشرية وعادات المأكل والملبس، بل من سننه: تربية القلب الرحيم، وإنشاء الإنسان الحيي الكريم، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يسأل شيئا فيرده، وكان يكره أن يخبر بشيء كريه عن صحابته، ويحذرهم من ذلك فيقول لهم: (لا يبلِّغُني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليْكم وأنا سليمُ الصَّدرِ) [أخرجه أبو داود في السنن]

 

ختامًا

يحقق الإنسان إنسانيته عندما يدرك بأنه مخلوق عميق فيه من المعاني ما فيه، وأنّ فيه روحًا من ربه عزوجل. والقلب كالروح سر من أسرار الله. والنبي عليه الصلاة والسلام جاء ليسن لنا وليتمم لنا النظام الأخلاقي، وهذه السنن الأخلاقية تبدأ من القلب باعتبار الخلق الطبع النفسي والداخلي للإنسان كما تبيّن معاجم اللغة وغيرها.

 

وعليه فإن السنن القلبية وأخلاقها أساس في التقييم الأخلاقي، إذ إن الظاهر وحده لا يكفي عند الله، بل لا بد أن تنعكس هذه الأخلاق على الباطن والظاهر، على شكل أفعال خيرة تعم الإنسان والحيوان والطبيعة. فالله قد شكر لمذنبةٍ عاصية سقت كلبًا فغفر لها وأدخلها الجنة.

 نقلا عن منصة السبيل

تعليقات