ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
تعد رواية بيت العدة والكرباج رواية أنثروبولوجية من الدرجة الأولى، يسرد لنا الكاتب ويأخذنا معه الى عالم القرية في الصعيد بعاداته وتقاليده، بأمثاله الشعبية، بمعتقداته في الحسد.
كقراءة سورة يس للمرأة التي تلد تخفيفا عما تلاقي من أهوال.
أيضا حين مرض ولدها فحملته وطافت تجول به في البلد عن قاتل يبصق في وجهه أملا في شفائه، وقد تماثل للشفاء حين بصق أخوها في وجه سيد ابنها وأمرها بالعودة إلى منزلها، وكانت هذه رمزية أنه أخذ بالثأر.
المفردات المستخدمة من صميم البيئة الصعيدية (وأبو الطحين/ التصليبة/ نزة/ الرهبة/ الكانون/ غربال السير/ الخزانة/ الشندة/ مولد الفرغل) قام الكاتب بشرح بعضها في الهوامش وتغاضى عن البعض الآخر ظنا منه أنها مفهومة لدى الجميع.
والكاتب مبدع في وصفه يصف لنا الطبيعة الخلابة وأشجار النبق، ويصف لنا مشاعر الحب والوله لدى حميدة تجاه عبد العال، ومشهد الحب والمداعبة في الحقل بين برقوقة وسيد الكبير وكيف أنبه ضميره وتولدت لديه الرغبة لتطهير نفسه من النجاسة، بأن طلب من عبد العال أن يجلده بفرع الرمان.
أيضا من خلال حكايات الجدة التي تقدم النصيحة بإيجاز فتضل عالقة بالآذان ويظل رنين كلماتها مدى الدهر.
كما تم تدعيم الرواية بمجموعة من الأمثال الشعبية مثل:
من خاف سلم / النبي وصى على سابع جار/ كنت فين يا شعنونة لما قلت أ...ح
هناك مقابلة بين بيت العدة والكرباج (أو البيت الكبير) والذي يرجع تاريخه إلى أيام المماليك واستخدامهم للعنف والتعذيب في الجباية وجمع الضرائب من الفلاحين والفقراء.
وبين قسم الشرطة الذي يمارس التعذيب والترهيب على جميع المحجوزين بهدف الوصول الى اعترافاتهم.
بالنسبة للشخصيات، رسم الأديب شخصيات كثيرة في الرواية لكنها في الأغلب شخصيات هامشية وغير فاعلة كشخصية زين وشخصية العمة التي ظهرت في النهاية ولم يؤسس لها منذ البداية.
أما الشخصية الرئيسة والفاعلة من أول الرواية إلى آخرها فهي شخصية حميدة:
الزوجة الجميلة بل والفاتنة، والحرة والتي لا تسمح لأحد بالاقتراب منها.
نجدها منذ اللحظات الأولى في الرواية تصرخ لنجدة المرأة التي يحاول الرجال اغتصابها في البيت الخرب لتلفت نظر الرجال ليهبوا لنجدتها بينما تباطؤا حتى هرب المغتصبون.
ونجدها المرأة الحرة في قسم البوليس التي توقظ رجولة ونخوة الضابط حتى لا يمسها، أيضا استطاعت حميدة بذكاء الانثى ان تتظاهر بالخوف حتى تأمن من عقاب الضابط الذي حن لضعفها وتراجع.
أيضا نجدها الزوجة الداعمة لزوجها تعمل معه في الحقل وتذهب الى السوق لتبيع الزبد والجبن والبيض.
وهي أيضا الأنثى الناعمة التي لا تتحمل غياب زوجها عنها، ورغم أن علاقتهما الحميمة لم تستمر سوى لأعوام قليلة إلا أنها ظلت وفية له تساعده وتحمل عنه الهم، حتى حين اتبع الشيخ وأصبح من الصوفية أو الدروايش واعتكفها، لم تبتعد عنه، حتى وافته المنية وجدناها تذهب لرؤيته وهو يحتضر، وبعد وفاته تقرر تخليده في قلبها وبين الناس فاستعانت بالشيخ إبراهيم لتبني له مقاما يخلد ذكراه.
حمل الكاتب شخصية حميدة الفلاحة غير المتعلمة فوق احتمالها، فأضفى عليها من شخصيته حوارات نفسية أحيانا وفلسفية أحيانا أخرى ليكشف لنا بواطن الأمور وبعض الحقائق، فزادت مساحة حوار الذات لديها.
عبد العال ( الزوج) :
شخصية هامشية لأبعد الحدود، شخصية تكن من الاجدر عالية لا تقوم بدورها في الحياة كما هو مقدر لها، بل كان يلقي بتبعات المنزل على أكتاف حميدة ، وكان من الأجدر أن يحملها عنها.
وبعد دخوله الحبس وصحبته للشيخ قرر أن يكون من صحبته واتباعه فاعتكف حميدة، وانقطع عنها تاركا لها ويلات الوحدة وفراق الزوج لأنثى في ريعان شبابها، ليس هذا العبء فقط بل وأضاف اليها مسئولية الانفاق على البيت وتربية الابن أيضا. ولم يظهر إلا عند وفاته.
سيد: أو سيد الصغير:
ابن حميدة الولد المطيع الذي ربته حميدة وزرعت فيه الرجولة ومحبة ابيه رغم بعده عنهما.
هناك مشهد المال الذي حصل عليه من الطبيب مقابل ان يغض الطرف عن الخطأ الطبي الذي راح والده ضحية له، ان تكرار وضع يده على جيبه ليتحسس الجزلاية لا أرى انه تأنيب للضمير، فكان عليه إما أن يرفضه ويطلب التحقيق في هذا الإهمال، إما أن يتخده عوضا وهم في ماسة ماسة للمال لأن والده تركهم فقراء ويفسر ذلك أن حميدة سحبت منه مائة جنيه لتشتري له فروجا لتطعمه.
الأم خضرة:
والدة حميدة وهي رمز للجذر والأصالة في الاسرة الصعيدية يلتف الجميع حولها، طلبا للنصح والمشورة وهي لا تتأخر عنهم بالفعل. وهي من حرضت عبدون على الأخذ بثأر سيد دون أن تبوح بذلك علانية.
وبالنسبة للتغطية الزمنية للرواية فقد عبر عنها برمزية متقنة من خلال اللوحات الخلفية في قسم الشركة بدءا من الملك فاروق ثم العصور المتتالية، أيضا الخط العمري لحميدة وسيد وعبد العال والذي يتضح جليا في السرد.
التغطية المكانية كانت قرية أبو تيج محافظة أسيوط.
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أـتقدم بخالص التقدير والتحايا للقلم الأنيق للأديب مصطفى البلكي.