رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. خالد فوزي حمزة يكتب: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي في قبره الشريف

  • أحمد عبد الله
  • الأحد 11 سبتمبر 2022, 7:31 مساءً
  • 1228

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد..


فالنبي صلى الله عليه وسلم دفن في المدينة في بيته، ولا يزال المسلمون إذا شدوا الرحال إلى مسجده، فإنهم يتشرفون بزيارة قبره الشريف، والتشرف بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والكل يقف أمام القبر يقول (السلام عليك يا رسول الله)، وهذا إجماع عملي من الأمة في وصفه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

ثم وقفت على مقولة عجيبة يدعي أصحابها أن (نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَيْسَ نَبيا الْيَوْم في قبره وَأَن رسَالَته انْقَطَعت بِمَوْتِهِ)، وهالني أن أرى هذا الكلام ينسب لأحد فضلاً أن ينسب لعالم، ثم وقفت على قول لابن الجوزي كان يجهر به على المنبر، وهو قوله: "أَهْل البِدَع (أو أهل الكلام) يقولون: ما فِي السّماء أحد، ولا فِي المُصْحَف قرآن، ولا فِي القبر نبيّ، ثلاث عورات لكم" [ذيل طبقات الحنابلة (2/466)، سير أعلام النبلاء (15/461)، تاريخ الإسلام (12/1106)، المقصد الأرشد لبرهان الدين بن مفلح، (2/95)].

فعلمت أن هذه المقولة؛ أي: العورة الثالثة (ليس في القبر نبي): إنما جاءت من علم الكلام الذي اجتمع السلف على ذمه، والذي قال فيه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام". [شرح الطحاوية (1/24)]، وقال يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْمِصْرِيُّ: "سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْكَلامِ وَلَقَدِ اطَّلَعْتُ من أهل الْكَلَام على شيء ما ظننت أَنَّ مُسْلِمًا يَقُولُ ذَلِكَ". [تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 335)].

لكن من قائل هذه المقولة التي ذكرها ابن الجوزي؟ وإلى من تنسب؟ وما صحة ثبوتها عنه؟ وما أصلها الكلامي؟

فوجدت الإمام أبا محمد ابن حزم ذكر أن الأشعرية هم من يقولون بهذه المقالة، ففي الفصل لابن حزم: "قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ: حَدِيث فرقة مبتدعة تزْعم أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عليه وسلم لَيْسَ هُوَ الْآن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهَذَا قَول ذهب إِلَيْهِ الأشعرية وَأَخْبرنِي سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ وَهُوَ من مقدميهم الْيَوْم، أَن مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك الْأَصْبَهَانِيّ على هَذِه المسألة" [الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 75)].

فنسب هذه المقولة للأشاعرة، لكن ما موقف الأشعرية من هذا الكلام؟

وجدت أن جل الأشاعرة ممن وقفت لهم على كلام في هذا الأمر: ينكرون هذا الكلام بادي الرأي والحمد لله، وإن كانوا لا يتعرضون لأصلها الكلامي الذي يقولون هم به، فالإمام ابن عساكر ينكره فيما ينسب إلى أبي الحسن الأشعري رحمه الله إمام المذهب الأشعري، قال: "وربما نسب المبتدعون إليه إنه يقول ليس في المصحف قرآن ولا في القبر نبي .. وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه وتأملت نصوصه في هذه المسائل فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه". [تبيين كذب المفتري (1/115)]. ثم إنه لم يذكر الثالثة وهي نفي العلو، وأيضاً فمذهب الأشعرية يوافق القول (ليس في المصحف قرآن)، فجلهم يقول بذلك كما قال الدواني: "لا نزاع بين الشيخ والمعتزلة في حدوث الكلام اللفظي، إنما نزاعهم في إثبات الكلام النفسي وعدمه". [ويقصد بالشيخ: أبا الحسن الأشعري، انظر: حاشية الكلنبوي على شرح الدواني على متن العضدية (ص233)].


وممن نسب له إنكار القول (ليس في القبر نبي) القشيري تلميذ ابن فورك، ففي طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح، قال: "وذكر ابن حزم إمام ظاهرية المغرب في كتاب النصائح له؛ أن السلطان محمود بن سبكتكين قتل أبا بكر ابن فورك لقوله: إن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس هو رسول الله اليوم، لكنه كان رسول الله. وزعم ابن حزم أن هذا قول جميع الأشعرية، وليس كما زعم، وإنما هو تشنيع عليهم أثارته الكرامية فيما حكاه القشيري". [طبقات الفقهاء الشافعية (1/137، 138)].

لكني ما وقفت على كلام القشيري، رغم أنه نقل الكثير من النقولات عن ابن فُورك في الرسالة القشيرية، في عشرات المواطن التي يذكره فيها، وابن فُورك رحمه الله وإن كان من الزهاد، إلا أنه معدود في الأشاعرة المتكلمين، ممن جنح بشدة إلى تقديم العقل على النقل، وقد ألف كتابه "مشكل الحديث وبيانه" بقصد تأويل أكثر أحاديث الصفات، لزعمه أنها تُعارض العقول. ولذا قال عنه الذهبي "كَانَ مَعَ دينه صاحب قَلَبَه وبدعة رحمه الله". [تاريخ الإسلام (9/111)] وهذه العبارة مذكورة هكذا ونقلها بعضهم عن الذهبي بلفظ (فلتة)، والأشبه أنها: (صاحب قلبه بدعة) أي خالطت البدعة قلبه. كما حققته في بحث لي.

وقد وقفت على كلام جيد للتاج السبكي في نفي هذه المقولة أيضاً حيث قال: "وَكَيف يَصح ذَلِك وَعِنْدهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم حي في قَبره قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فَأخْبر سُبْحَانَهُ بِأَن الشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم والأنبياء أولى بذلك لتقاصر رُتْبَة الشَّهِيد عَن دَرَجَة النُّبُوَّة قَالَ الله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فرتبة الشُّهَدَاء ثَالِث دَرَجَة النُّبُوَّة.

وَلَقَد وَردت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة والْآثَار المروية بِمَا تدل الشَّهَادَة على هَذِه الْجُمْلَة، فَمن ذَلِك: .... ثم استدل السبكي بعدة أحاديث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول في قبره، وعلق عليها بما يثبت أنه رسول في قبره صلى الله عليه وسلم، ومنها:  

-. حديث ابْن مَسْعُود عَن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِن لله تَعَالَى مَلَائِكَة سياحين في الأَرْض تبلغني عَن أمتى السَّلَام). [أخرجه النسائي، وصححه الألباني]  "وَلَا يبلغ السَّلَام إِلَّا وَيكون حَيا".

-. وعَن أَبى هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا من أحد يسلم على إِلَّا رد الله عز وَجل على روحي حَتَّى أرد عَلَيْهِ السَّلَام). [أخرجه ابو داود، وحسنه الألباني] فقد "دلّ الْخَبَر على أَن الْمَيِّت لَا يعلم حَتَّى ترد إِلَيْهِ الرّوح وَدلّ على أَن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قَبره".

-. وعَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (أتيت على مُوسَى لَيْلَة أسرى بي عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر وَهُوَ قَائِم يصلى في قَبره). [أخرجه مسلم].

-. وعَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أتيت وَأَنا في أهلي فَانْطَلقُوا بي إِلَى زَمْزَم وَشرح صدري ثمَّ غسل بِمَاء زَمْزَم ثمَّ أتيت بطست من ذهب ممتلئة إِيمَانًا وَحكما فحشى بِهِ صدري) قَالَ أنس وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أَثَره (فعرج بي الْملك إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ الْملك قَالَ من ذَا قَالَ جِبْرِيل. قَالَ وَمن مَعَك قَالَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم. قَالَ وَقد بعث قَالَ نعم قَالَ فَفتح فَإِذا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ مرْحَبًا بك من رَسُول). الْخَبَر بِطُولِهِ [متفق عليه]. "فَدلَّ هَذَا الْخَبَر على أَنهم عَلَيْهِم السَّلَام أَحيَاء.


-. ثم أورد حديثاً عَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الْأَنْبِيَاء أَحيَاء في قُبُورهم يصلونَ). [أخرجه أبو يعلى، وقال الألباني: بإسناد جيد].

ثم قال: "فَإِذا ثَبت أَن نَبينَا صلى الله عليه وسلم حي فالحي لابد من أَن يكون إِمَّا عَالما أَو جَاهِلا وَلَا يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم جَاهِلا قَالَ تَعَالَى في صفته {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، وَقَالَ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285].


فَثَبت أَنه مُؤمن ورتبة النُّبُوَّة رُتْبَة الشّرف وعلو الْمنزلَة وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يزْدَاد كل يَوْم شرفا ورتبة إِلَى الْأَبَد فَكيف لَا يكون عَارِفًا وَلَا نَبيا. [طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/412)]

وإنما حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره الحياة البرزخية، وليست مثل الحياة الدنيا قطعا، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، وقد احتج بها الصديق يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك الصحابة، وأيضاً حياة الشهداء من هذا الباب، حياة برزخية، وإلا لما قسمت أموالهم، واعتدت نساؤهم، وهذا كله متفق عليه.

وكلام السبكي وإن كان فيه إنكار نسبة المسألة للأشعرية، إلا أنه لما قال: "فَإِن قيل فَمن أَيْن وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة إِن لم يكن لَهَا أصل؟" كان عليه أن يراجع قول من نسب هذه المسألة للأشعرية وهو ابن حزم، ويرد على ما ذكره عنهم، وهي مسألة كلامية قديمة، من أوهام المتكلمين، وهي قولهم: (عدم بقاء العَرَض لوقتين)، فمن يعلم أصول هذه المسألة، يعلم أن جل الأشعرية يقولون بها، فعندها سيتأكد من لزوم هذه المسألة لمذهب الأشعري، أو للقائلين بذلك من الأشاعرة، وهم جمهورهم، كما ذكر أحد كبار الفلاسفة المعاصرين وهو الدكتور علي سامي النشار رحمه الله: أنه قد "أعلن الأشاعرة متقدمين ومتأخرين مبدأ أن العرض لا يبقى زمانين". [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، (1/477)].

وقبله يذكر ذلك الإمام الإيجي الأشعري في كتابه المواقف، قال: "ذهب الشيخ الأشعري ومتبعوه من محققي الأشاعرة إلى أن العرض لا يبقى زمانين [كتاب المواقف للإيجي (1/ 498)]، ونلحظ أن هذه المسألة كأنها رد فعل لحال المعتزلة، فهم لا يقولون بفناء الأعراض، فخالفهم أبو الحسن الأشعري في هذه المسألة، لكنه لم يهتد إلى الصواب في المسألة في نفس الأمر. لأن هذه المسألة دعوى بلا دليل، لذا نجد أن ابن حزم -بعد كلام له في رد ذلك بعد أن ذكره عن العلاف والباقلاني ومن وافقهما-، قال: "وَهَذَا حمق لَا خَفَاء بِهِ فَبَطل قَول الْفَرِيقَيْنِ بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع والمشاهدة والمعقول وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين هَذَا مَعَ تعريهما من الدَّلِيل جملَة وَأَنَّهَا دَعْوَى فَقَط وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل". [الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/48)].

ولعمر الله فإن ما ختم به هي قاعدة في رد كل قول مبتدع، قال تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، فهو قول بلا دليل، وهي دعوى مجردة، لم يقل بها السلف الصالح.


ويمكن أن يضاف لما سبق أن تصور هؤلاء أن خلق الله للعالم انحصر الآن في خلق الأعراض، هو نوع قصور في التصور، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فإن خلاصة مذهب القائلين بهذه الدليل "الجواهر والأعراض"، أن الله خلق الجواهر مبثوثة في الكون، ولم يصرحوا باستمرار خلق الجواهر بعد ذلك، بل قالوا تتعلق قدرته بعد ذلك بالأعراض، بأن يجمع الجواهر أو يفرقها، أو يحركها أو يسكنها، وأن الخلق المستمر ينحصر في خلق الأعراض إذا فنيت، وهذا تصور قاصر، فالله تعالى هو الحي القيوم، وقيوميته تعالى تتعلق بإقامته لكل المخلوقات.


قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]؛ وفي أول سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]؛ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهـما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تهجد من الليل قال: اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ولك الحمد)". [أخرجه البخاري]. قال أبو عبد الله البخاري: قال قيس بن سعد وأبو الزبير عن طاوس (قيام). وقال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء. وقرأ عمر القيام. وكلاهما مدح".

قال النووي: "أنت قيام السماوات والأرض وفي الرواية الثانية "قيم" قال العلماء من صفاته القيام والقيم كما صرح به هذا الحديث والقيوم بنص القرآن وقائم ومنه قوله تعالى {أفمن هو قائم على كل نفس} قال الهروي ويقال قوام، قال ابن عباس: القيوم الذي لا يزول وقال غيره: هو القائم على كل شيء ومعناه مدبر أمر خلقه وهما سائغان في تفسير الآية والحديث". [شرح النووي على مسلم (6/54)]. قال الحافظ في الفتح: "وقرأ عمر القيام قلت تقدم ذكر من وصله عن عمر في تفسير سورة نوح قوله وكلاهما مدح أي القيوم والقيام لأنهما من صيغ المبالغة". [فتح الباري لابن حجر (13/430)].

وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]. ففي تفسير ابن جرير: "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك، قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق، متضمن لها، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال، رقيب عليهم، لا يعزب عنه شيء أينما كانوا، كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا، ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرا، ولا يجلب إليهما نفعا؟ كلاهما سواء؟". [تفسير الطبري (16/ 462)]. فالله تعالى قائم بنفسه تعالى، مقيم لغيره، فالقول بالخلق المستمر للأعراض فقط قصور واضح في التصور.

والحاصل أن قولهم بعدم بقاء العرض زمانين، تسبب في لوازم باطلة ومنها هذه المسألة الباطلة، فقد بيَّن أبو محمد ابن حزم أن هذه المسألة إنما هي سبب قولهم البدعي بل الكفري (إن روح النبي صلى الله عليه وسلم عِنْدهم قد فنيت وَبَطلَت وَلَا روح الْآن عِنْد الله تَعَالَى وَأما جسده فَفِي قَبره موَات فبطلت نبوته بذلك)، قال في الفصل: "قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه مقَالَة خبيثة مُخَالفَة لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلما أجمع عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وإنما حملهمْ على هَذَا قَوْلهم الْفَاسِد أَن الرّوح عرض وَالْعرض يفنى أبدا وَيحدث وَلَا يبْقى وَقْتَيْنِ فَروح النَّبِي r عِنْدهم قد فنيت وَبَطلَت وَلَا روح الْآن عِنْد الله تَعَالَى وَأما جسده فَفِي قَبره موَات فبطلت نبوته بذلك ورسالته

قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ كفر صراح لَا ترداد فِيهِ وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل الْفَاحِش الفظيع أَنه مُخَالف لما أَمر الله عز وَجل بِهِ وَرَسُوله r وَاتفقَ عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام من كل فرقة وَمن كل نحلة من الْأَذَان فِي الصوامع كل يَوْم حمس مَرَّات فِي كل قَرْيَة من شَرق الأَرْض إِلَى غربها بِأَعْلَى أَصْوَاتهم قد قرنه الله تَعَالَى بِذكرِهِ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله فعلى قَول هَؤُلَاءِ الموكلين إِلَى أنفسهم يكون الآذان كذبا وَيكون من أَمر بِهِ كَاذِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكون الْأَذَان على قَوْلهم أشهد أَن مُحَمَّدًا كَانَ رَسُول الله وَإِلَّا فَمن أخبر عَن شَيْء كَانَ وَبَطل أَنه كَائِن الْآن فَهُوَ كَاذِب فالأذان كذب على قَوْلهم وَهَذَا كفر مُجَرّد.



وَكَذَلِكَ مَا اتّفق عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم من تلقين موتاهم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَإِنَّهُ بَاطِل على قَول هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَا عمل بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُدَّة قِتَاله الْأمة وَأمره عَن الله عز وَجل بِأَن يعْمل بِهِ بعده أبدا وَأجْمع على القَوْل بِهِ وَالْعَمَل جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أول الْإِسْلَام إِلَى آخِره وَمن شَرق الأَرْض إِلَى غربها إنسهم وجنهم بِيَقِين مَقْطُوع بِهِ دون مُخَالف فَمَا تخرج بِهِ الدِّمَاء من التَّحْلِيل إِلَى التَّحْرِيم أَو إِلَى الحقن بالجزية من أَن يعرض على أهل الْكفْر أَن يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَيجب على قَول هَؤُلَاءِ المحرومين أَن هَذَا بَاطِل وَكذب وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكفلوا أَن يَقُولُوا أَن مُحَمَّد كَانَ رَسُول الله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم} وَقَوله تَعَالَى {وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} فسماهم الله رسلًا وَقد مَاتُوا وَسَمَّاهُمْ نبيين ورسلاً وهم فِي الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ مَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ وَجَاء بِهِ النَّص من قَول كل مصل فرضا أَو نَافِلَة السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَلَو لم يكن روحه عَلَيْهِ السَّلَام مَوْجُودا قَائِما لَكَانَ السَّلَام على الْعَدَم هدرا". [الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 75)].

هذا وقد تبين أيضاً أن مقصد ابن الجوزي بقوله: "أَهْل البِدَع (أو أهل الكلام) يقولون: ما فِي السّماء أحد، ولا فِي المُصْحَف قرآن، ولا فِي القبر نبيّ، ثلاث عورات لكم": هم الأشعرية، لأن جمهور المعتزلة تقول ببقاء الأعراض لا فنائها [كتاب المواقف للإيجي (1/ 498)]، فيكون مراد ابن الجوزي بقوله: (أَهْل البِدَع (أو أهل الكلام) يقولون: ما فِي السّماء أحد، ولا فِي المُصْحَف قرآن، ولا فِي القبر نبيّ، ثلاث عورات لكم) هم الأشاعرة، وهو مؤيد لنقل ابن حزم عنهم.


ولا يرده ما قد يتعلل به بعضهم بأن ابن الجوزي مال للأشاعرة في كتابه دفع شبه التشبيه المنسوب له، أو في صيد الخاطر وغيرهما من كتبه، فيقال: ليس هو كل كلامه فإنه متناقض في هذا الباب، وإلا فقد قال في صيد الخاطر: "وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة، بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، والاستواء حق، والكيف مجهول. وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف الأعراب سوى مجرد الإيمان، ولم تتكلم الصحابة في الجواهر والأعراض، فمن مات على طريقهم، مات مؤمنًا سليمًا من بدعة، ومن تعرض لساحل البحر، وهو لا يحسن السباحة، فالظاهر غرقه". [صيد الخاطر (ص: 361)].

فهو كما قال شيخ الإسلام "لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات؛ بل له من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أَثْبَتَ به كثيراً من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة، وينفون أخرى، كما هو حال أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي". [مجموع الفتاوى، (4/169)].

فالخلاصة: أن القول (ليس في القبر نبي) إن لم يكن قول بعض الأشاعرة فعلاً، فهو مقتضى قولهم بفناء الأعراض، ولازمه، وفساد اللازم يدل على فساد المذهب. والله تعالى أعلم.

والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة
أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى سابقًا

وبجامعتي العلا ومينيسوتا

تعليقات