قراءة نقدية لمجموعة نصف الدهشة للكاتب مصطفى البلكى

  • زكريا صبح
  • الثلاثاء 16 أغسطس 2022, 7:46 مساءً
  • 1179
صورة شخصية للكاتب

صورة شخصية للكاتب

كل الدهشة وتمامها ستبقى في ذاكرتك بعد أن تنتهي من قراءة مجموعة النصوص التي كتبها الأستاذ مصطفى البلكي، هل تعرف لماذا؟ 

هل تعرف قرية الرهبة؟ هل تعرف أهلها؟ 

أظن أن الإجابة ستكون بـ«لا»، وأظن أن سؤالًا سيقفز إلى لسانك يسأل: وهل هناك قرية تُسمَّى «الرهبة»؟ 

إذا لم تكُن تصدق فتعالَ معي نطالع تسعة عشر نصًّا بديعًا يصور لنا القرية، ويرسم ملامحها المكانية، ويجسد لنا شخصياتها الإنسانية بلغة أدبية عذبة، وإيقاع سردي هادئ هدوء ترعتها الراكدة، وبطيء بطء الساعات التي تمر على أهلها، ومدهش مثل أفعال البشر هناك، وغريب غربة المقيمين فيها، اجعل عينَيك على طفل صغير في قصة (نصف الدهشة)، وفي قصة (وصية النجار الأخيرة)، وفي قصة (الثمار المقطوفة)، هذا الطفل الذي صنع نصف الدهشة، وتكفَّل بنصفها الآخر عندما صار شابًّا يتابع كل صغيرة وكبيرة ويسجل أحوال قريته ويعيد رسم شخوصها وفق تصوُّره، ويصنع لهم المجد والخلود في قصصه، سيصنع النصف الآخر من الدهشة عندما يستطيع أن يغادر القرية إلى المدينة باحثًا عن الحرية. 

مصطفى البلكي حكاء بالفطرة يعشق الرواية، والرواية تهبه نفسها طواعيةً، حتى عندما أدهشنا بنصوص قال عنها إنها قصص قصيرة اتضح لنا في النهاية أنه صنع عالمًا كبيرًا من هذه النصوص الصغيرة. 

هو كاتب مشغول بما حوله ومَن حوله؛ لذا ستجد أن معظم القصص إن لم يكُن جميعها تدور في قرية تُسمَّى «الرهبة»، يا له من اسم يصيبنا بالدهشة! عالم واحد كعالم الرواية الواحد، وشخوص متعددة تعيش في كنف الرهبة؛ كي تصنع لنا الدهشة كلها وليس نصفها. 

عالم الحارات الضيقة، والبيوت اللبنية والترعة التي تمر بالقرية، وتراب الحارات الذي يلعقه الصغار، والقمر الساطع ليلًا والشمس المتوهجة نهارًا وأرغفة الخبز وقطع الجبن البسيطة، وحكايات خفية تكشفها بغير قصد عينا الصغير الذي يحبو فيدخل إلى بيوت الجيران عند امرأة عاقر وأخرى عاهرة، أسرار المنازل الفقيرة يكشف عنها طفل صغير، وبعينيه أيضًا ينقل لنا مراسم الأعراس في الرهبة، ويصف بدقة كيف يحدث فض بكارة النساء هناك. 

الطفل كبر أصبح يسير في الطرقات، اجتذبته طفلة صغيرة وصارا صديقين يلعبان معًا ويسيران معًا، أغواها أم أغوته ليس يهم، المهم والمدهش أنها طارت بعيدًا إثر لعبها على أرجوحة الرهبة وفقدها الطفل الذي كان يأتنس بها.

ولأن الصيرورة هي سُنة الحياة؛ فقد كبر الطفل وصار بين مدرستين؛ الأب بنواهيه وأوامره والمدرسة بدرسها التقليدي، لكن الصغير متمرد بطبعه؛ فلم يرُق له أن يرى طفلًا يماثله معتقلًا في لوحة يحدها إطار، فقرر أن يحرر الطفل ولم يكُن يدري أنه يسعى لتحرير نفسه من حيث لا يدري. 

الطفل كبر قليلًا وشاهد وقائع وأحداثًا، وشاهد شخوصًا انفعل معها وبها ولها، فراح يكتبها، يكتب عن رجل يشبه والده فقرر أن يمنحه بعض الطعام المميز؛ لأن الرجل يعمل ترزيًّا فقيرًا، فهل ساعده لأنه يشبه والده أو لأنه والده بالفعل؟ 

مصطفى البلكي يحكي حكاية الأقربين، وينقل الواقع، لكنه يعمل فيه أزميل النحات وفرشاة الرسام ليعيد تصوير العالم الواقعي فيصير أقرب للخيال. 

مغرم بالواقعية السحرية، تحت تأثيرها يكتب؛ لذا ليس مستغربًا أن تجد أن الطفل صارت له مخالب، أو تحول دم المشنوق في المدينة إلى مداد يرسم به الفنان لوحته، أو تنبت الأجنحة للطفلة التي غادرت الحياة مبكرًا، أو ينفلت الطفل المعلق في لوحته أو تعود الحياة إلى عمته بعد موتها. 

إن العالم يستحيل إلى عالم سحري ساحر، فتظهر الدهشة جلية على الوجوه وتسكن القلوب والأرواح، مشغول مصطفى البلكي بالراوي المشارك الذي ينقل لنا الحكاية من قريب، قليلًا ما يلجأ إلى الراوي العليم. 

ليس مشغولا بأسماء أبطالها إلا قليلًا، يترك النصوص مفتوحة على احتمالات كثيرة، لا يُلزِم القارئ بنهاية محددة. 

يضرب الزمن في عمق قلبه ولا يعبأ به، يكتب حكايته من نهايتها تارةً ومن بداياتها تارةً أخرى، لن تحتاج إلى تتبع الخط الزمنى؛ لأن الحكاية ستشغلك بتفصيلاتها الإنسانية، والإفراط في وصف البنايات والحارات والأصوات والأضواء. 

هذه مجموعة معنية بنماذج بشرية تعيش في مكان محدد وزمن محدد، لم يستثنِ نموذجًا من البشر هناك، حدَّثنا عن الأطفال ذكورًا وإناثًا، وعن الشباب فتيانًا وفتيات، وعن الكبار شيوخًا وعجائز، حتى الفئران والقطط والكلاب لم ينسها في نصوصه. 

لغته العذبة قد ترقى إلى سماء الحكمة، اسمع إليه يقول: «اللوم خنجر في خاصرة مَن لا ظهر له». باستثناء بعض الهنات اللغوية، جاءت المجموعة راقية ممتعة، وحبذا لو جعل هامشًا لبعض الكلمات التي لم تعتَدها أذن القاهريين أمثالي، مثل: (المجاز، سرب الغلة، الجلاب، شرخة موسى، الزقلة).


تعليقات