عبدالله حاتم يكتب: حرب التضليل بالمصطلحات

  • جداريات Jedariiat
  • الجمعة 29 يوليو 2022, 5:30 مساءً
  • 925

من أشهر سُبل التضليل أن يتلاعب المرء بالكلمات والمصطلحات حتى يمرر أفكارا جديدة في أذهان المستمعين، أو ليغيّر أفكارهم القديمة ويستبدلها بأفكار جديدة، أو أن يُحوّل نفورهم من سلوك معين إلى قَبول واستحسان، وهذا من جملة ما يُسمى في السجال العقائدي بـ (حرب المصطلحات).

 

حرب المصطلحات في نصوص الوحي

تَكثُر في نصوص القرآن الكريم عبارة (أسماء سميتموها) في غير موضع، ومن ذلك على سبيل المثال، قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا اسماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم: 23]، وقوله تعالى {أَتُجَادِلُونَنِي فِي اسماءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]. وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ اسمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]

 

إن تَلقِيبَ الآلهة المعبودة من دون الله بأنها مجرد (أسماء مسمّاة) يعني أن الموجود المُتجه إليه بالخشوع والخضوع هو في حقيقته محض عدم، وأنه لم يرتقِ من المخلوقية إلى الخالقية حقًّا، ولكن الإنسان هو من رفعه وقدسّه عندما غيّر من اسمه! وهذا الجهد البسيط في تغيير الأسامي ترتب عليه الشرك بالله ونحت طرق جديدة للضلال؛ إذ إن تغيير المصطلحات والتلاعب بالمسميات يُوهِم ويَخدع، فيحوّل العدم إلى وجود، والحقير إلى عظيم، واللاشيء إلى شيء!

 

وفي نصوص السُنّة الشريفة، تكثر الأحاديث التي تبدأ بصغية (أتدرون ما كذا)، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة..) [أخرجه مسلم في الصحيح] وقوله: (أتدرون من المفلس ..) [أخرجه مسلم في الصحيح]، وكانت إجابات الصحابة تدور في إطار لغوي أو عُرفي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنار بصيرتنا وإياهم بالإشارة للمعاني الشرعية، حيث إن إعادة تعريف الكلمة الشائعة بالتعريف الشرعي بجانب التعريف اللغوي ينتشل العقول من دائرة الثقافة المجتمعية والعُرف السائد إلى تعريف جديد مغاير ومختلف.

 

بناءً على ذلك، يمكن أن تتغير موازين المرء في الحُكم على الأشياء لأن مسميّاتها قد تَغيّرت، فتتغير التصورات بناء على عقيدة الإسلام ومركزياتها الكبرى.

 

تأثير المصطلحات في العقائد والسلوكيات

من بين سُبُل تغيير الأفكار عبر المصطلحات ما يلي:

 

تسمية اللاشيء باسم

إن تسميّة اللاشيء باسم جديد لا وجود له في ذاكرة البشر، يعني أن هناك طريقًا إلى سراب يتم تمهيده والاعتناء به. وعلى سبيل المثال، قد يُعرّف المرء إنكار الوجود الإلهي بـ (الإلحاد)، وفي الوقت ذاته قد يسمع مصطلحات أخرى من (الفلسفة العدَمّية)، أو (الفلسفة الوجودية)، أو (الفلسفة المادية)، ولو قرأ المرء في تلك الفلسفات بتريّث وتمعّن وما فيها من صبّ التركيز على المادة وإنكار الميتافيزقا والغيبيات، لوجد أنه يقف أمام الإلحاد وجهًا لوجه، بلا فرق! إلا أن الاسم الجديد يوهم الإنسان أنه شيء مغاير ومختلف وجديد، في حين أنه مجرد وجه جديد لنفس العملة.

 

فقد تفهم المعنى بكلمة (إلحاد)، وقد تتبع سبل المصطلحات الجديدة حتى توصلك لنفس خط النهاية ونفس المعنى وهو (الإلحاد)؛ إذ إن مدار هذه المصطلحات الجديدة يَصُبّ في نفس الحقل الدلالي للكلمة الأولى، إلا أن المصطلح الأول ناصح أمين يدلك على المعنى مباشرة، أما المصطلح الجديد فهو خادع ماكر يَعِدُك بأن يقدّم لك معنىً فريدًا وجديدًا، ولكن تكتشف أنه يوصلك إلى نفس خط النهاية بعد أمد من مضيعة وقتك!

 

تغيير المُسمى للتعظيم

إن الشيء التافه قد تُضفَى عليه هالة من العظمة والقداسة لو تغير اسمه لمصطلح معقّد، على سبيل المثال، فإن علم الأحياء –مثل سائر العلوم المادية– يقوم على التراكمية، أي أن العلم الحديث يتراكم على المكتشفات السالفة حتى يتوسّع العلم ويتطوّر. فطبيعي أن تزداد المسميات الجديدة لأن هناك مكتشفات حديثة لم يُعلم بها.

 

ولكن العديد من الظواهر القديمة في الأحياء تم تغيير اسمها بعدما تم إقحام التطور الدارويني في أغلب المقررات الدراسية على مستوى العالم. فتحول مفهوم (التكيّف – Adaptation) عند الكائن الحي إلى اسم (التطور المصغّر أو المايكروي – Microevolution). فأصبح التكيّف المعروف على مدار القرون الأخيرة يُدرَّس على أنه جزء من عملية التطوّر ككل؛ وذلك لأن التطور المصغّر يخلفه (التطور الشامل أو الكبير الماكروي – Macroevolution) بحسب نظرية التطور.

 

إن تغيير المصطلح هنا ليس إلا استبدالا للاسم القديم باسم جديد لتهويل وتعظيم من شأن الظاهرة المعروفة، حتى يتم التمهيد لمبادئ التطور الدارويني في عقل الطالب.

 

 

تشارلز داروين

 

تغيير المسمى للتحقير

إن الموضوع الجاد قد يفقد جِديّته لو تغير اسمه إلى مسمى يحقر من شأنه، ووُصِف بوصف يسفه من قيمته. فعلى مدار التاريخ البشري، كان المترفون يُميّعون جدية الدين وخطاب الأنبياء بتهمه أنه (أساطير الأولين). فيتحول القول الفصل، الذي ما هو بالهزل، إلى مجرد أفكار موروثة وقصص قديمة تَسَلّت بها الأجيال. وتتحول الأخبار الحق إلى مجرد (أساطير). فلا يؤخذ الدين إثر ذلك بجدية، بل يكون في الإعراض عنه راحة للبال وموت ضمير. ومن هنا، قد يفقد الشيء العظيم هيبته لأن المصطلح الذي يعبر عنه لا يقابله في نفس مستوى الجدية. ولأن الاسم الذي لُقب به لا يعكس قدر أهمية الموضوع وعظمته.

 

تغيير المسمى لتغيير السلوكيات

إن السلوك العام عند أي مجتمع يُحكم في المقام الأول بالعقل الجمعي والعرف العام؛ إذ إن البيئات التي تُقنن الانحراف يُجهر فيها بالسوء والفساد، والبيئات التي تُحرم الانحراف لا وجود فيها للانحرافات إلا في الغُرف المغلقة، وبناءً عليه، يؤدّي عرف المجتمع دورًا كبيرًا في رسم الخطوط الحمراء وحمل الناس على الالتزام بها وعدم تجاوزها. وتلك الخطوط الحمراء تنبع من الدين أولًا، ثم من التقاليد المتوارثة في الأُسَر ثانيًا. فتُعرّف السلوكيات على أنها نبيلة أو حقيرة على حسب ذلك الدين والعرف.

 

ومن هنا، يصعب إقناع جماعة من البشر بفعل ما محظور عندهم، مهما كان ممتعًا وموافقًا لأهوائهم، ولكن قد يتم الترويج لنفس الفعل المُحرم بتسميته باسم جديد، فتزول الحساسية تجاه الفعل، ويجري الاستسلام للنزوة دون وخز الضمير. وذلك لأن العقل ينفر تلقائيا من المصطلحات التي بُرمج على رفضها، ويبدأ في قبول نفس الفعل لو عرض عليه بمصطلح جديد لا ماضيَ له معه!

 

على سبيل المثال، عندما خرجت أوروبا من هيمنة المسيحية إلى ميوعة العلمانية. انتشر الزنا بشكل فاحش، وذلك لأن المجتمع اختُرق بمفاهيم جديدة مغايرة للمسيحية، فلم يعد يطلَق على (الزنا) ذلك الاسم، بل اتُّخِذَ له مسميات عديدة، وأصبح من الممكن أن يقيم الرجل علاقة صداقة مع امرأة ثم يقيمان علاقة جنسية عابرة من آن إلى آخر دون الاعتراف بعلاقة جادة، ويُعترَف مجتمعيًّا بهذه الفوضى الجنسية تحت مسمى (Friends with benefits). أي أن تحويل مسمى (الجنس خارج الزواج) من “زنا” إلى اسم جديد ورنّان، يعني أن الحساسية النفسية تجاه الفعل قد زالت. وأنّ وُعّاظ الدين الذين يحرمون الفعل لن يصلوا للجمهور بعد الآن، لأن الجمهور الذي غيّر اسم المحرمات لم يعُد يشعر أنه المخاطب!

ومن هنا، يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خطورة تغيير أسامي المحرمات بأسامي جديدة مغايرة للمصطلح الشرعي، ولعلّنا نلتمس ذلك في قوله (يَشرَبُ ناسٌ من أُمَّتي الخَمرَ، ويُسمُّونَها بغَيرِ اسمها) [أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهم]

 

النجاة من التضليل

في الزمن المعاصر الذي ينفجر بالمعلومات، لا بد للقارئ أن يتحلى بقدر لازمٍ من التفكير الناقد، وألّا يردد المصطلحات المسموعة بشكل أعمى، وألّا يعجب بزخرف القول دون البحث الجاد حول مصدر المصطلح وأول من أطلقه والهدف من ورائه، حيث إن تغيير الأسماء والتلاعب بالمصطلحات قد يبدو حدثا هينا في ظاهر الأمر، إلا أنه بناء عليه قد يتحوّل الحرام إلى مستساغ، والحقير إلى عظيم، والعظيم إلى حقير، والمخلوق المقهور إلى معبود من دون الله! فاحرِص على نجاتك وسلامة قلبك وعقلك.

 

نقلا عن منصة السبيل

تعليقات