إبراهيم المغازي يكتب: تعليقات على الكشف الفضائي لتلسكوب چيمس ويب

  • جداريات Jedariiat
  • الجمعة 15 يوليو 2022, 5:20 مساءً
  • 660

تابع الكثيرون ما تم نشره عبر وسائل الإعلام العالمية لصور ملتقطة من تلسكوب جيمس ويب -التابع لوكالة ناسا الفضائية- الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء لما يُظن أنها صور من عمق الكون، والتي يُعتقد أنها تمثل ما كان عليه الكون منذ 13 مليار سنة.

وفي خضم هذا ذهبت أطراف عدة تجذب الأمر لتوظيفه على النحو الذي يحقق مرامهم، ومن هؤلاء بعض الملاحدة والعلمانيين العرب إذ امتطوا الحدث كفرصة لتكرار سلسلة تهكماتهم من ديننا وأمتنا. على كل حال وأمام هذا الحدث ومع نظائره نقف عدة وقفات:

موقف إجمالي: لسنا بصدد تقييم تفاصيل لا نعلمها ولم يُعلن عنها ابتداءً -حتى الآن- لأنها قيد البحث والدراسة، ولذا الصواب ههنا لزوم التأني فلا نجنح ساخرين من الأمر مسرعين إلى التشكيك في تلك الصور، وكذلك لا نبالغ في الأمر وكأنه منتهى العلم لأن الشأن فيما وراء ذلك من الأبحاث العلمية الصحيحة. فالأمر -حتى الآن- لا يعدو كونه ظنًا واحتمالًا ولا يتجاوز العبارات التي استُعملت في لحظة الإعلان عن صور تليسكوب جيمس "يحتمل، ربما، في ظني، يُعتقد" وهكذا شأن العلم التجريبي في كثير من الأحيان، فلا مجال للتعجّل لإثبات أمر ما أو نفيه فضلًا عن توظيف الحدث في سياق أيديولوجي محدد!

الموقف من #نظريات_تفسير_نشأة_الكون: لا يوجد تعارض -في منظورنا كمسلمين- بين العلم التجريبي والدين؛ وذلك أن مصادر المعارف البشرية تدور بين (الحس والعقل والخبر) مع حصول تفاوت بين أفراد الأدلة داخل كل مصدر منها من جهة إفادته اليقين والظن والوهم. وفي منظورنا لا تتعارض تلك المصادر من كل وجه مطلقًا ولكن قد تتقاطع من وجه دون آخر. وقد ينفرد أحدها في أمر ما بالقول الفصل دون باقي المصادر ومثاله فيما يتعلق بمعرفة (كيفية نشأة الكون)؛ فهذا الحدث ليس من جنس الأحداث الطبيعية التي تتكرر ويتمكن العلم التجريبي من استقراءها والقياس عليها وإخضاعها للرصد والملاحظة، بل في الحقيقة نشأة الكون حدث استثنائي لم يكن وفق القوانين الفيزيائية -لأن تلك القوانين نشأت بعد خلق الكون- وليس له نظائر يمكن استقراؤها والقياس عليها، فمثلًا: لا يمكن تفسير كيفية تصنيع سيارة بناءً على ملاحظتنا لطريقة حركتها بل نفتقر في ذلك إلى علم الشركة القائمة على التصنيع، ولكن يمكننا من خلال استقراء حركاتها أن نستنتج طريقة عملها وليس كيفية تصنيعها، وأما كيفية صنعها فأقصى ما يمكننا فيه أن نفترض احتمالات على جهة التخمين والظن وهكذا الحال مع تفسير نشأة الكون. وعليه فليس للعلم التجريبي ههنا كلمة حاسمة وذلك أن اليقين بكيفية نشأة الكون هو من العلوم التي تتجاوز قدرة البشر وعلومهم وهو ما نسميه بالغيب الذي استأثر الخالق بعلمه كما قال تعالى " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدًا" فهذه الآية تقطع الطمع في معرفة (كيفية) نشأة الكون والحياة لأنها أحداث استثنائية لم يشهدها الخلق ولا تدخل في نطاق #العلم_التجريبي. بناء على ما سبق فتفسيرات نشأة الكون والحياة التي طرحها بعض علماء الفيزياء والبيولوجيا في نظرياتهم تندرج ضمن التخمينات والفرضيات التي لا تتجاوز الظن مثل: #نظرية_الانفجار_العظيم وتحديد عمر الكون ونحوه. وأما كلمة الفصل فيها تكون لمن شهد تلك الأحداث العالم بها وهو الله خالق الكون والإنسان.

فساد القول بأزلية الكون: الفرق بين المسلمين وغيرهم في مثل هذه الأمور؛ أن هذه الأحداث الجسام التي نعتقد أنها من علم الغيب لا نفتقر فيها إلى نظريات أو صور لتُثبّت قلوبنا بما نعتقد؛ وذلك أننا لا نختزل مفهوم العلم داخل النطاق التجريبي فحسب، بل ننظر إلى العلم بمفهومه العام الذي يتسع باتساع مصادره (الحس والعقل والخبر) ولذا نحن نوقن بالعقل والحس وبما أخبرت به رسل الله -خالق السماوات والأرض- أن كلًا من الكون والإنسان كان بعد أن لم يكن وليس شيءٌ من ذلك أزلي. ونؤمن بأن الخالق هو الأول الذي ليس قبله شيء وهذا يدرك بصرائح العقول من سبْق وجود الخالق على المخلوق والصانع على المصنوع. وعليه فلا مجال لما يطلقه بعض الملاحدة كنوع من التوظيف البائس للحدث لإثبات أزلية الكون وعدم افتقاره إلى الخالق!، ومن طريف الأمر أن وكالة ناسا التي أعلنت عن الكشف الجديد صرّحت أن الهدف من تلسكوب جيمس مراقبة المجرات الأولى التي تشكلت بعد بضع مئات الملايين من السنين فقط من الانفجار العظيم، للتأكد من صحة نظرية الانفجار الكبير، والتي تقوم على أصل حدوث العالم!

ضرورة حضور دلالة الآفاق في الخطاب الشرعي والتجريبي: لا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى دليل عظيم القدر نصَّ عليه كتاب الله المسطور وهو دليل الآفاق المذكور في قوله تعالى "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" وهو من الأدلة المنهجية الهامة التي ينبغي العناية بحضورها في الخطاب الشرعي بل والتجريبي كذلك؛ إذ يحقق زيادة اليقين وتتجلى معه رؤية المسلم تجاه ظواهر الطبيعة من حوله وكيف أنه لا يقف عند رسمها وطريقة عملها بل يتجاوزها لينطلق مما فيها من إحكام وإتقان إلى التفكر في خالقها الحكيم العليم القادر الذي أبدع السماوات والأرض على غير مثال سابق "حتى يتبين لهم أنه الحق". ومما يتميز به هذا الدليل اتساع مفهومه وذلك أنه يبدأ من أقرب شيء إليك "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" إلى أبعد من ذلك بكثير "سنريهم آياتنا في الآفاق" وعليه فهو دليلٌ يُلائم كل إنسان بحسب حاله وقدرته على أدوات التفكر؛ إذ لا يعجز أن يتفكر في آيات الله في خلق نفسه التي بين جنبيه، ثم ينتقل إلى المخلوقات من حوله، ثم لينظر إلى السماء من فوقه، وإن كان من المتخصصين في الفلك فلينظر في ملكوت الله وإبداعه في خلق النجوم والشمس والقمر.

دوافع الفطرة: تجدر الإشارة هنا إلى أن بحث الإنسان وفضوله وكلفه بهذا الأمر يؤكد بعض المعاني الفطرية المركوزة في النفس البشرية والتي لا يفسرها العلم التجريبي بل يجدها الإنسان من نفسه ولا يستطيع دفعها؛ وذلك بالبحث عن تفسير الحياة والغاية وبحثه عن الماورائيات دون توقف وتعلقه بذلك، وربما ينفق أموالًا طائلة بل قد يبذل عمره لأجل ذلك. وهذه نصيحة أخرى أقدمها للعاملين في الدعوة وفي مواجهة الأفكار الوافدة أن استثمار المعاني الفطرية داخل النفس البشرية لها أثر كبير في معالجة نوبات الشكوك والوهم.

الكيل بمكيالين: تثيرك الدهشة من تعامل الكثيرين -ممن أصابتهم لوثة #العلموية من الملاحدة واللادينيين وغيرهم- بموثوقية شديدة تقترب إلى التسليم والتقديس حين بلغهم خبر مؤيَّد ببعض الأمور الحسية (أؤكد مرة أخرى أن بلوغ الأمر إلينا نوع من الخبر) من خلال تلسكوب راسلنا من عالم غيبي بالنسبة لنا ببعض الصور والتي وقعت في يد ثُلة محدودة من البشر  يستوي لدينا الظن بصدقهم وعدمه، ثم هم أنفسهم ينكرون صدق الرسل الكرام الذين أخبرونا بما شاهدوه أو علموه من نبأ السماء وجاء خبرهم مؤيَّد بالآيات الحسية مع ما تواتر عنهم من الصدق والأمانة.. هذا في منطق العقلاء تناقضٌ ظاهرٌ جليٌ!

وكلما ازددت علمًا زادني علمًا بجهلي: كلما أدرك الإنسان طرفًا من العلم بظاهر الحياة الدنيا كلما أدرك أن مقدار ما يجهل أضعاف أضعاف أضعاف ما يعلم. وهذا يقوده إلى عدة أمور:

إدراك عظمة خالقه سبحانه الذي أحاط بكل شيء علمًا، وذلك أن إحكام المخلوق يدل ببداهة العقول على كمال وحكمة وقدرة خالقه وسعة علمه كما قال سبحانه "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا".

أن يتواضع الإنسان وألا يستعمل خطاب التعالي والقدرة الفائقة ونحوه من عبارات الطغيان المادي والغرور المعرفي المزيف لمجرد إدراك "حبة رمل من الكون" على حد وصفهم، كما ظهر ذلك باديًا في كلمات الرئيس الأمريكي حين قال "هذا يؤكد أن أمريكا قادرة على إتيان العظائم وأن لا شيء يعجزها" تلك العبارات ربما تليق بسياق الحملات الانتخابية وشعاراتها الرنانة!

طالما أن البشرية كانت ولازالت تجهل أمورًا كثيرة، ولازال أمامها بحر خضم من الكشوفات العلمية المنتظرة، فغير مقبول أن يعتاد علمانيو العرب وملاحدتهم على الحط من قدر أمة الإسلام وحضارتها في مثل تلك الأحداث على أنهم متخلفون ومتأخرون وهكذا؛ فهذا في الحقيقة إفلاس فكري كما قيل "رمتني بدائها وانسلت" وكأن هؤلاء هم من أطلقوا التلسكوب ووصلوا لهذا الكشف! وكأن الغرب لا ينفي عن نفسه الجهل قبل تلك الكشوفات! وكأن الكتاب والسنة ليس فيهما حث متكرر على التفكر في الكون والمخلوقات من حولنا مع تصور حصري مميز وذلك بعدم الوقوف عند رسوم المخلوقات بل الانتقال منها إلى منظور عقدي أشمل يرد الأمور لأصلها وهو المذكور في قوله تعالى "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين".

خلاصة القول: لا داعي للمبالغة وكأن ناسا أو أمريكا بلغت منتهى العلم، وفي المقابل لا داعي للتسرع في الحكم على الأمر طالما أنه قيد الدراسة والبحث، ويا حبذا لو قدم بعض المتخصصين في مجال الفيزياء وعلوم الفلك -ممن لديهم اعتزاز بهويتنا وممن نجوا من لوثة العلموية- تحليلًا نافعًا في هذا الأمر، ثم نصيحة عامة بأهمية الحديث عن دلالة الآفاق التي وردت بها النصوص وكيف أنها سبيل لزيادة اليقين، وأخيرًا تهكمات الملاحدة والعلمانيين طنطنة مستهلكة لا نعبأ بها كثيرًا لأن الأمر لا يخدمهم من أي وجه.

ـ نقلا عن مركز الفتح قسم دراسة الإلحاد 

تعليقات