رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. عبد الله حاتم يكتب: علم النفس والحاجة إلى الدين

  • جداريات Jedariiat
  • السبت 11 يونيو 2022, 11:50 مساءً
  • 867

في العقود الأخيرة، اتخذ علم النفس مسلكًا علمويًّا يحاول أن يرد فيه كل نفسية الإنسان إلى الأصل المادي الفيسيولوجي فحسب؛ وذلك بهدف وصف مشاعر الإنسان بأنها نتاج مادي محض، فتكون السعادة –مثلاً- مجرد تفاعلٍ كيميائي معيّن في الدماغ يختلف عن تلك الكيمياء المسؤولة عن الألم، وهكذا.

 

وعندي أن هذا المسلك ينطلق ابتداء من مغالطة منطقية أي (المصادرة على المطلوب)، فإنكار كل الأديان يليه إنكار وجود روح في الإنسان، وهو ما يسمح لباحث أن يرد كل مشاعر الإنسان إلى مادية جهازه العصبي بدون أي شك لوجود عامل آخر يساهم في صحته النفسية يسمى بالروح أو النفس أو القلب!

 

إن خطورة الأمر ليست نابعةً من وجود ملحدين يبحثون في علم النفس، بل من السعي الحثيث لإقامة أساس معرفي في مختلف العلوم -ومنها علم النفس- على أكتاف الإلحاد العلموي!.

 

فلا عجب أن ترى من يقيم تجربة في علم النفس على فئران تجارب ثم يقيس النتائج على الإنسان مباشرة فلا فرق بين فأر وإنسان، ويكأن النفس بكل مشاعرها وأسرارها ما هي إلا انعكاس للتفاعلات الكيميائية داخل معمل الدماغ!

 

ولا عجب أن نرى سيغموند فرويد وهو يرد أسمى شعور إنساني –الحب – إلى الغرائز الجنسية المكبوتة! فالإنسان عند هؤلاء مجرد حيوان عاقل حالفه الحظ ليكون أوفر الكائنات وعيا وأرجحهم عقلا ليس إلا..

 

مشكلة علم النفس

يعاني علم النفس من مشكلة في تصنيفه، فتارة يصنَّف علمًا من علوم الإنسانيات فيُدرَّس في كلية الآداب، وتارة يصنف علمًا من علوم الطبيعة فيُدرَّس في كلية الطب، ولكن حصر علم النفس على أنه علم من علوم الطبيعة فيه إشكال، فعلوم الطبيعة تتبع المنهج العلمي التجريبي القائم على البحث والملاحظة والوصول إلى النتائج، ولكن النفس بكل ما فيها هي شيء ميتافيزيقي لا يُرى ولا يُلاحَظ. فإقامة أبحاث علمية على ضوء المنهج التجريبي يعني أن الباحث سيصمم تجارب ليلاحظ التغيرات السلوكية فقط.

 

وعلى سبيل المثال، لو أن مريضًا التزم بتناول دواء مضاد للاكتئاب ثم تحسنت مستويات طاقته وإنتاجيته فذلك دليل على قوة الدواء وفاعليته، ولكن الباحث لا يستطيع أن يرصد مزاج ومشاعر المريض لأن هذه المشاعر من الأمور التي لا تُرصَد ولا تُلاحَظ! ومن هنا، حُصِر علم النفس في كل الظواهر التي يمكن لها أن تمر بالمنهج العلمي التجريبي، وتم تجاهل كل الدراسات النفسية التي لا يمكن لها أن تتبع المنهج التجريبي، مما أدى إلى بتر علم النفس لقصور سبل البحث فيه!

 

وقد أسرف بعض الملاحدة في هذا المسلك العلموي، حتى شهد العالم في العقود الأخيرة كتبا تؤلف بأيدي أطباء مخ وأعصاب وأطباء نفسيين ليثبوا أن الإرادة الحرة لدى الإنسان مجرد وهم، وأن الإنسان ما هو إلا حيوان مجبر على كل ما يفعله لأنه محكوم تماما بكيمياء الدماغ وجهازه العصبي ولا خيار له في أي قرار! وقد انتبه بعض المفكرين لطغيان هذه النزعة فنادى بعضهم بتغيير اسم العلم من (علم النفس) إلى (علم السلوك)!

 

 

 

العلاج النفسي في العصر الحديث

مع مرور الوقت تزداد تصنيفات الأمراض، ليتفرع عن المرض الواحد عدة أنواع. ولكن على الرغم من تعقيد تصنيف الأمراض النفسية الذي من المفترض أن يعقد مفهوم النفس الإنسانية، إلا أن اختزال الإنسان في المادة وتسطيحه يزداد يوما بعد يوم!

 

والعلاج النفسي في الكثير من الأمراض ينقسم إلى شقين. شق كيميائي يحتاج إلى تدخل دوائي، وشق نفسي يحتاج إلى النقاش مع طبيب مختص. وكما أن الشق الدوائي تم تسطيحه ليكون مشابها للحيوان، تم اختزال الشق النفسي أيضا، وأصبح العلاج النفسي في أغلب الأحيان ما هو إلا (العلاج المعرفي السلوكي – CBT)، وهو تعديل الأفكار لتغيير المشاعر، لينتج عن الأفكار الإيجابية مشاعر إيجابية، والعكس صحيح. فأصبحت عملية ضبط المشاعر ميكانيكية كأنها ضبط لآلة ميكانيكية تماما. ومن هنا تحوّل علم النفس إلى عملية روتينية لضبط الآلة الكيميائية بالدواء، وضبط الآلة الشعورية بالتفكير الإيجابي!

 

الحاجة إلى الدين

الطب النفسي الحديث لن يجدي نفعا مع أولي الألباب، لأنه ينطلق من المادية وينتهي إلى المادية، فانطلاقه من المادية هو إنكاره لوجود روح في الإنسان. أما انتهاؤه إلى المادية فهو حصره للصحة النفسية في حب الدنيا والسعي ورائها والاستزادة منها عن طريق التفكير الإيجابي للحصول على قدر أعلى من المتع الحسية.

وافتراض أن كل البشر يسعون وراء متاع الدنيا يحصر وعي الأطباء النفسيين في البحث عن مشاكل شخصية تعرقل الحصول على زينة الدنيا، ليكون المرض هو التعثر في هذا الهدف، ولتكون الصحة اختصارًا لعملية الانطلاق تجاه هدف المتعة!

 

أما من يحترم عقله بالقدر الكافي فلن يتكلف عناء في إثبات وجود مكون غير مادي داخل الإنسان، لأن الإنسان يشعر بتلك الثنائية بفطرته وأنه ليس كائنًا أحاديًّا.

 

{بل الإنسان على نفسه بصيرة}

إن المؤمن الحق لا يرضى بهذا الخطاب الدنيوي ولو كان سبب مرضه أصلا هو الإسراف في السعي وراء الدنيا على حساب روح تتعطش وتلهث، أو لو كان الإنسان واعيا بالقدر الكافي لأدرك أن السعي وراء الدنيا إنما هو معنى تافه للحياة لا يرضي الباحثين عن القيمة والحق!

 

وقد لاحظ بعض علماء النفس المحدثين قصور علم النفس في العملية العلاجية، وقال (إيريك فروم): “إن علم النفس الحديث ينصب على مشكلات تافهة تتماشى مع منهج علمي مزعوم، ولذلك يفتقر علم النفس إلى موضوعه الرئيسي وهو (الروح)، وأصبح علم النفس منشغلا بالغرائز والميكانيزمات من دون أن يعني بالظواهر الطبيعية المميزة أشد التميز للإنسان: الحب، العقل، الشعور، والقيم

 

أما الدين، فهو يلحّ على ثنائية الإنسان بين مكون مادي ومكون غير مادي، والقرآن الكريم يذكر كلمة (إنسان) عشرات المرات فقط، أما كلمة (النفس) فيذكرها أكثر من مئتي مرة! بل إن المكون غير المادي يأتي بعدة كلمات، مرة يأتي بكلمة (نفس)، وأخرى بكلمة (قلب)، ومرة (روح). والقرآن ينص أن تلك النفس تتلوث وتمرض مادامت بعيدة عن إرث النبوة، وأن الدين هو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين..

 

والدين يتفوق على علم النفس لأنه يتسابق في إثبات تعقيد الإنسان ككائن يمتاز على غيره من الكائنات في كل شيء، فالله يقول: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]، وقال: {لقد كرمنا بني آدم، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70]، وكان بذلك على الضد من علم النفس الذي يتسابق في تسطيح الإنسان واختزاله في فيزيولوجيته الجسمانية وتشبيهه بسائر الكائنات الأخرى لا أكثر ولا أقل.

فالنظرية الإسلامية للعلاج النفسي تنص على الالتزام بالعلاج الدوائي لتعديل الشق الكيميائي من المرض النفسي، مع الرجوع إلى الدين الذي لا ينظر إلى مشاعر الإنسان على أنها نتاج أفكاره فحسب، بل أنه إنسان له نفس تمرض وتفتقر إلى شفاء القرآن أيضًا، والدين لا ينظر إلى الدنيا أنها هي الغاية والهدف والمبلغ من العلم، بل أنها مرحلة انتقالية إلى دار سرمدية يخبر مالكها عنها أنها خير لنا من الأولى، فتثار مشاعر التفاؤل عندما تقسو الظروف، ويولد البأس في مواطن اليأس!

ولو توافق الدين مع علم النفس في الالتزام بالعلاج الدوائي، فلا شك أن الدين يزيد على علم النفس في معالجته للأفكار السلبية بأخرى إيجابية لكثرة نهي القرآن عن اليأس والحزن والترغيب في وسع صفات الله.

 إن الإسلام الذي اهتم بالشق الروحاني في الإنسان أنتج علماء متخصصين في تزكية النفس لترتقي النفوس من حال المرض إلى حال الصحة والرضا..

حينها، تتحول الدنيا من سفينة هالكة لا يزيدها الزمن إلا غرقا، إلى مرحلة انتقالية لحياة أشد جمالا وخلودا.

 ويقف الإنسان مستفيدًا من علم النفس وما يقدمه من علاج، مع تلبية حاجته للدين وما يقدمه من شفاء وتوجيه، وهو الاتباع للوحي الإلهي الذي من لا يضل ولا يشقى متبعوه.

ومن هنا لا يميل المرء لعلم النفس إلا بقدر حاجته من العملية العلاجية، ولكن يبقى الإنسان في عطش بلا ارتواء، إلا إذا اعترف بالحاجة إلى الدين!


نقلا عن منصة: السبيل

 

تعليقات