"ربما في المستقبل نعرف كيف ظهر الكون".. هيثم طلعت يكشف عن أكبر مغالطة يقع فيها الملحد
- الإثنين 25 نوفمبر 2024
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..
أما بعد..
فكنت صغيراً أتعجب من وصفات الأطباء في المضادات الحيوية وغيرها، فهذا يُعطى كل ست ساعات، أو ثمان، أو مرة يومياً، أو حقنة شهرياً، أو كل ستة أشهر، ونحو ذلك، واللقاحات التي تتكرر دورياً كذلك، مرة في العمر، أو مرة كل كذا، ولما كبرت عرفت أن الطبيب يصف حسب المرض، فهو يريد أن يكون الدواء بتركيز عال، لأن الدواء يفقد شيئاً من تركيزه مع طول الزمن، فإذا نزل عن مستوى تركيز معين؛ بدأت البكتريا والجراثيم تقاوم الدواء، وتتغلب عليه، ويحصل المرض بصورة أكبر مما كانت عليه، وربما احتيج لتغيير نوع العلاج.
ومع التأمل في أدلة الشرع؛ وجدت أن الشرع أمر بذلك قبل الأطباء، فجعل تكرار الدواء مئنة الشفاء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخي يشتكي بطنه فقال: اسقه عسلا. ثم أتاه الثانية فقال: اسقه عسلا. ثم أتاه الثالثة فقال: اسقه عسلا. ثم أتاه فقال قد فعلت؟ فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا، فسقاه فبرأ)، قال العلماء (كذب بطن أخيك): لم يصلح للشفاء بعد بهذه الكمية التي سقيته إياها.
وجعل من خرج من المرض يبقى على فترة النقاهة فيحترس من بعض الأطعمة، فعن أم المنذر قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي ولنا دوال معلقة قالت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وعلي معه يأكل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي مه مه يا علي فإنك ناقه) [رواه الترمذي وقال حسن غريب، وحسنه الألباني، "ومه": اسم فعل بمعنى انكفف، و"ناقه": أي: الذي صح بعد المرض].
ومن هذا الوادي؛ فقد جعل الشرع مواسم الخير والطاعة تتكرر لتكفر ما بينها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر). وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)، بل والعمرة تكفر حتى الكبائر، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، فقوله: (لما بينهما): أي: لما وقع بينهما من الذنوب، والأظهر العموم فتشمل الكبائر. وإنما يثاب المرء على خاتمته، ففي حديث الصحيحين (الأعمال بالخواتيم).
وكذلك القرآن، فإن لم يتعاهده الإنسان ذهب عنه ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت) أي: وكذلك القرآن إذا استمر على تلاوته ودراسته بقي محفوظا في قلبه وإن أهمله وتركه نسيه وتفلت منه.
والإنسان يتعاهد أذكار الصباح والمساء والأذكار عقب الصلوات والنوم والاستيقاظ وغيرها من الأذكار الموظفة، ولو يأتي منها بذكر واحد مما ورد ليكون دوماً ذكاراً لله ولا يستولي عليه الشيطان. ومن جميل ما يذكر ما ذكره من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه (كان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار ويقول هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي) [من الدرر الكامنة لابن حجر].
-. وقد رأيت أن هذا الأمر يندرج تحته المشاعر والعواطف، فإنها تمرض أيضاً، ولها دواؤها، فعن أسامة بن شريك قال: (قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحدا قالوا يا رسول الله وما هو قال الهرم). [رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني].
فلابد في العلاقات الاجتماعية من التنبه لضرورة التعاهد لمن حولك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد رحمه وأصحابه، ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول (إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين .. ولكن لهم رحم أبلها ببلالها). يعني أصلها بصلتها، و(أبلها): أنديها بما يجب أن تندى به من الصلة والبلال ما يبل به الحلق ويندى من ماء وغيره. يعني يصلهم بحيث يكون الوصل متقارباً، حتى لا تجف العلاقة، بل تبقى ندية
والسيرة مملوءة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه، وتفقدهم فأنه صلى الله عليه وسلم (افتقد ثابت بن قيس)، وقال (لكني أفقد جليبيباً)، وكان يقول ما فعل فلان؟، (ما فعل كعب؟)، (كن أبا خيثمة!)، (ما فعل مالك؟)، (ما فعل ذلك الإنسان؟)، (ما فعل الغطيفي؟)، بل كان يتعاهد الصغار، ويقول لأخي أنس: (أبا عمير ما فعل النغير) لطائره الذي كان يلعب به. [وكلها مما ثبت في السنة وأضعافه]
وفي دلائل النبوة ـ للبيهقى من حديث الحسن بن علي عن خاله هند بن أبي هالة التميمي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (كان رسول الله يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، .. يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس) [وفيه ضعف، ولكن أشار البيهقي إلى شواهد ذكر أنها تشهد له بالصحة).
وفي طبقات ابن سعد عن أنس رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه) [وحسنه الألباني]
وتفقده وتعاهده لزوجاته كان يومياً كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة: (يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها) [رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح].
فهذا التفقد، وهذا التعاهد، وهذا الخلق العالي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلابد من مراعاة ذلك، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو)، أي: راعوا فيها أنها تحب اللهو واللعب وتحرص عليه واقدروا رغبتها على ذلك إلى أن تنتهي. والحديثة السن: الشابة الصغيرة.
فلابد مراعاة ذلك في الزوجات والأولاد، فمع ضغوطات الحياة ينسى الرجل ملاعبة الزوجات والأولاد، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة الأسيدي معافسة الأزواج والأولاد والضيعات، وقال له كما بالبخاري: (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات)، والمعافسة لها: المعالجة للمعايش والزوجات والأولاد ومال. بل وفيه الخير، فقد ثبت عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قوله: (كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال مشي الرجل بين الغرضين وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة) [رواه الطبراني وصححه الألباني، وبين الغرضين في الرمي بالسهام ونحوها في الجهاد].
وليس هذا المطلب ينقضي بمرة بل لابد من تكراره، أما في الوطء للزوجة فلا يزيد الترك عن أربعة اشهر، {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، وقد ورد في ذلك أثر فيه ضعف، لكن ذكروه استئناساً، ففي المغني لابن قدامة (8/143): [وإن سافر عن امرأته لعذر وحاجة سقط حقها من القسم والوطء وإن طال سفره، .. وإن لم يكن له عذر مانع من الرجوع فإن أحمد ذهب إلى توقيته بستة أشهر، فإنه قيل له كم يغيب الرجل عن زوجته؟ قال ستة أشهر يكتب إليه فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما، وإنما صار إلى تقديره بهذا الحديث عمر رواه أبو حفص بإسناده عن زيد بن أسلم قال: بينا عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول: (تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وطال على أن لا خليل ألاعبه) (ووالله لولا خشية الله وحده ... لحرك من هذا السرير جوانبه) فسأل عنها عمر فقيل له هذه فلانة زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها امرأة تكون معها وبعث إلى زوجها فأقفله، ثم دخل على حفصة فقال يا بنية كم تصبر المرأة على زوجها؟ فقالت سبحان الله مثلك يسأل مثلي عن هذا فقال لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك؟ قالت: خمسة أشهر أو ستة أشهر فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر يسيرون شهرا ويقيمون أربعة ويسيرون شهرا راجعين].
-. لكن الوقت المحتاج لبل نبتة الود في القلوب وإظهار الحب دون هذه الأشهر الستة قطعاً، فليعمل على ذلك دوماً، فإن إظهار الرجل الاهتمام لزوجته، وإظهاره الاهتمام بأولاده، وأقربائه وإخوانه، وأصحابه، يكون على حسب الحاجة والناس يختلفون في حاجتهم، لكن لابد من التنبه لذلك على مقتضى (أبلها ببلالها)، ولا يترك الأمر حتى يجف، وتظهر آثاره السلبية،
والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه:
أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة
الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا