باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..
أما بعد ..
فمن آيات الكتاب العزيز، آية توارد العلماء على الكلام عليها تفسيراً وإعراباً، وذكروا فيها صعوبة في ذلك، وهي (آية الوصية في السفر)، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106].
-. هذه الآية من الآيات التي أشكل معناها على كثير من المفسرين، قال النحاس: "من أشكل آية في القرآن". [إعراب القرآن للنحاس (2/44)]. قال الرازي: "اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً وروى الواحدي رحمه الله في (البسيط) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه" [تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (12/101)]. وقال في الدر المصون: هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً وإعراباً وتفسيراً، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب رحمه الله في كتابه المسمى بالكشف: «هذه الآيةُ في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعب آيٍ في القرآن وأشكلِها، قال: ويحتمل أن يُبْسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر، قال: وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد» [الدر المصون في علم الكتاب المكنون (1/1487)]. وقال أبو حيان: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما... وقال أبو الحسن السخاوي: "ما رأيت أحدا من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها" [البحر المحيط (4/390)].
وقال الشوكاني: "قال مكيّ: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً... قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً" [فتح القدير للشوكاني (2/372)].
وقال الألوسي: "وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما وإعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..}، وقوله تعالى {فَإِنْ عُثِرَ..} حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها" [روح المعاني (4/51)]. وقال الفخر: "روى الواحدي عن عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام" [التحرير والتنوير (5/255)].
-. والمعنى الإجمالي لهذه الآيات: "أن اللّه تعالى شرع لكم أيها المؤمنون الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا، والاثنان أحوط، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين باللّه بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا. فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت، ليحلفا باللّه أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها" [التفسير الوسيط للقرآن الكريم (4/322)].
-. "وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها. ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله: روى ابن أبى حاتم عن أبن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قال: برئ الناس منها غيرى وغير عدى بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له «بديل بن أبى مريم» بتجارة، معه جام من فضة -أي إناء من فضة- يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله، أي: يوصلا ما تركه من متاع لورثته. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمنا الثمن أنا وعدى، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ } الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء". [التفسير الوسيط للقرآن الكريم (4/322)].
وهذه القصة مشهورة في التفاسير، بل قال القرطبي: "ولا أعلم
خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء" [تفسير القرطبي
(6/346)]. وأورد ابن كثير روايات
لها ثم قال: "وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها. ومن الشواهد لصحة هذه
القصة أيضاً...، ثم ذكر آثاراً" [تفسير ابن كثير (3/220)].
وأما ما دلت عليه الآية، فهو الوصية في السفر والإشهاد عليها من رجلين منا أو من غيرنا إن لم نجد منا شاهدين.
"والعلماء على أن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل، وهو
إجماع، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة، آية 282]؛ وقوله:
{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق، آية: 2]. والكافر ليس بعدل وليس منا، فشهادة
الفاسق لا تقبل، فالكافر من باب أولى لأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى فلا
يؤمن منه الكذب على خلقه، وإنما اختلفوا في صورة واحدة وهي هذه الصورة المذكورة في
آية المائدة هذه" [الموسوعة الفقهية الكويتية (26/222)].
ولذا ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب بعضهم إلى تأويل قوله {من غيركم} أي من غير القبيلة والفخذ، وليس من غير المسلمين، وبعض العلماء قصر قبول شهادة الكافر على هذه الصورة، قال ابن كثير: "اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل: إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: إنها منسوخة. وقال آخرون وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جرير: بل هو محكم؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان". [تفسير ابن كثير (3/215)].
وإذ ذكر المفسرون إشكالاً في تفسيرها وإعرابها؛ إلا أن ابن عطية كان له وجهة أخرى، فقد قال في تفسيره المحرر الوجيز بعد أن ذكر بعض ما سبق عن مكي وغيره: (قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها،... لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء) وذكر القصة ثم قال: "تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، وضعف أمره، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة".
ثم قال: "وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم، يقولون معنى قوله، {منكم} من المؤمنين، ومعنى، {من غيركم} من الكفار، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر، ومذهب جماعة من ذلك، أنها منسوخة بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق، آية: 2] وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز.
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى: {منكم} يريد من عشيرتكم وقرابتكم، وقوله {أو آخران من غيركم} يريد من غير القرابة والعشيرة، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان، فإذا شهدا فإن لم يقر ارتياب مضت الشهادة، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين.
وقال بعض الناس الآية منسوخة،
ولا يحلف شاهد، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة الفقهاء.
وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب
التداعي، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى
فلتزمهما اليمين، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما، فإن عثر بعد ذلك على
أنهما استحقا إثماً نظر: فإن كان الأمر بيناً غرما دون يمين وليين، وإن كان بشاهد
واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم،
وحلف المدعيان مع قام لهما من شاهد أو دليل.
ثم قال ابن عطية: (قال القاضي أبو محمد: فهذا هو الاختلاف في معنى
الآية وصورة حكمهما، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية،
ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً، وذكر ذلك
والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله
المستعان،.... ثم ذكر الإعراب" [المحرر الوجيز (2/361)، وراجع في الإعراب
أيضاً: الجدول في إعراب القرآن (7/48)].
وذكر القرطبي في الحكم الذي دلت عليه الآية أقوالاً ثلاثة: "إما
بجواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر، أو أنها لا تجوز والآية منسوخة، أو
ليس في الآية ذكر للكفار"، وقال بعد القول الأول بالجواز: "وقال به من
الفقهاء سفيان الثوري، ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به.
واختاره أحمد بن حنبل... عند عدم المسلمين كلهم يقولون" مِنْكُمْ" من
المؤمنين ومعنى" مِنْ غَيْرِكُمْ" يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن
الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة
الأوثان وأنواع الكفرة. والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما"
[تفسير القرطبي (6/349)].
ثم ناقش استدلال من قال القول بالنسخ أن الكفار فساق فلا تجوز
شهادتهم، قال: "قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه، وأن ذلك جائز في
شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا، ولم يأت ما
ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل، وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس
ذلك في غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة
"المائدة" من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا
منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على
وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ، فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا، فإنه
في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند
الضرورات، ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما
قالوه ناسخ" [تفسير القرطبي (6/350)].
ثم ذكر القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها، قال: "قاله الزهري
والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: {مِنْكُمْ} أي من عشيرتكم وقرابتكم، لأنهم أحفظ
وأضبط وأبعد عن النسيان" ثم ذكر احتجاجاً لهم وأعقبه بقوله: "على أنه قد
عورض هذا القول بأن في أول الآية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخوطب الجماعة
من المؤمنين" [تفسير القرطبي (6/351)].
وعليه فإن القول بجواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر هو
الأرجح من حيث الدليل، وتنتظم معاني التفسير على هذا، والله أعلم.
وأما توجيه الإعراب فهو أيسر، ويراجع فيه تفسير ابن عطية وغيره، وبالله التوفيق.
والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه:
أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة
الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا