رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. خالد فوزي حمزة يكتب: حول حديث (غروب الشمس وسجودها تحت العرش)

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 16 مارس 2022, 2:50 مساءً
  • 1165

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد ..

فالأصل أن المؤمن يلتزم بإيمانه، ولا يعارض النصوص الشرعية بأقوال الناس، "بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد. [شرح الطحاوية (1/175)].

استهللت بهذه المقدمة لأبين الأصل الذي نبني عليها تصوراتنا واعتقاداتنا.

وقد ورد حديث صحيح فيه أن الشمس تسجد تحت العرش، واستشكل بعض الناس هذا، باعتبار أن الشاهد في ظنهم يخالفه، ولذا فمنهم من تأوله على غير تأويله، ومنهم من توقف في فهمه، فضلاً عمن رده ممن لا يعلم، وأورد هنا بعض ما ذكروه، وأبين الأرجح عندي بإذن الله تعالى.

والحديث ورد عَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ r فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَقَالَ: "تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟". قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ. فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]. [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي].

قال ابن الملقن: وفيه إخبار عن سجودها تحت العرش ولا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها في مسيرها للعرش، وقد ورد في القرآن سجود الشمس والقمر والنجوم، وليس ذلك بمخالف لقوله: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]؛ لأن المذكور في الآية إنما هو نهاية مدرك البصر إياها حال الغروب، ومصيرها تحت العرش للسجود إنما هو بعد غروبها، فلا تعارض، وليس معنى {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} سقوطها فيها، وإنما هو خبر عن الغاية التي بلغها ذو القرنين في مسيره حتى لم يجد وراءها مسلكًا لها فوقها، أو على سمتها، كما يرى غروبها من كان في لجة البحر لا يبصر الشاطئ، كأنها تغرب في البحر وهي في الحقيقة تغيب وراءه) [التوضيح لشرح الجامع الصحيح (23/ 157)].

وقال ابن حجر: (وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة، وقيل إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن، ويحتمل أن يكون المعنى أو علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها، فيقطع دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها، قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري والله أعلم) [فتح الباري لابن حجر (8/ 542)].

وقال ابن الجوزي: (ربما أشكل الأمر في هذا الحديث على من لم يتبحر في العلم فقال نحن نراها تغيب في الأرض وقد أخبر القرآن أنها تغيب في عين حمئة فإذا دارت تحت الأرض وصعدت فأين هي من العرش، فالجواب إن الأرضين السبع في ضرب المثال كقطب رحا والعرش لعظم ذاته كالرحى فأين سجدت الشمس سجدت تحت العرش وذلك مستقرها) [كشف المشكل من حديث الصحيحين (ص: 239)].

وقبل الخوض في محاولة حل الإشكال الوارد على الحديث؛ فلابد أولاً: (أن نؤمن بالصحيح المنقول من سنة المصطفى r وعليه فإننا نتحرى صحة ما وردنا عن رسول الله r فإذا ثبت عندنا صحة الخبر آمنا به وعملنا بما فيه مذعنين متعبدين.

ثم ثانياً؛ إذا ثبت لدينا صحة الخبر عن رسول الله r تحرينا الفهم الصحيح لمراده عليه الصلاة والسلام.

وتحري الفهم السليم مطلب شرعي قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وفيه ترغيب على الاختيار من بين الأقوال ولا يتأتى حسن الاختيار إلا بحسن الفهم. ومن أعظم ما يشحذ ملكة الفهم وينميها التأمل والتفكر في آيات الله الشرعية والكونية وطلب العلوم النافعة من العلوم الدنيوية [رفع اللبس عن حديث سجود الشمس، (1/1-11)، بتصرف يسير].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض جوابه عن تعلم العلوم النافعة وفضلها: (وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها فهذه مثل الكتاب الذي هو الخط والحساب، فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله، كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن؛ وكتب العلم النافعة أو يكتب للناس ما ينتفعون به: كان هذا فضلا في حقه وكمالا) اهـ [مجموع الفتاوى (25/171)].

وقد حاول كثير من المعاصرين الرد على هذا الإشكال، فجاء في كتاب مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها [وهو للقصيمي قبل إلحاده]: (وقد ظنت طائفة أن هذا الحديث يدل على أن الشمس تغيب عن الأرض في وقت وتذهب لتسجد تحت العرش، فكذبوا الحديث، وقدحوا في روايته ورواته، وهم عدول. قالوا: إننا نعلم بالضرورة والمشاهدة والحس أن الشمس لا تفارق الأرض لحظة، وإنما تغيب عن قسم منها وتطلع على قسم آخر حتى تقطع الأرض كلها كذلك. قالوا: ولا حديث الذي يخالف المشاهدة والحس لا يصدق.

وقالت طائفة: إن الحديث صحيح، وإن الشمس تذهب كل يوم وتسجد تحت العرش، وتغيب عن الأرض. ولم يعبأوا بأن يعاندوا الضرورة والمشاهدة.

والطائفتان غلطتان غلطاً مبيناً. يتبين لك ذلك بتفسير الحديث كلمة كلمة. فنقول الذي في هذا الحديث ما يأتي:

أولاً: إن الشمس تغرب.

ثانياً: إنها تذهب وتجري.

ثالثاً: إنها تسجد تحت العرش.

رابعاً: إنها تستأذن فيؤذن لها.

خامساً: إنها تجري حتى تستقر تحت العرش، وإن العرش مستقرها.

سادساً: إنها تطلع أخيراً من مغربها.

هذا جملة ما في هذا الحديث. فلننظر أفيه ما يخالف المشاهدة والحس؟؟.

أما الأول وهو أنها تغرب؛ فلا إشكال فيه، لأن الغروب هو الاختفاء، والشمس تختفي.

ولا يضرنا أن يكون الغروب أي الاختفاء ناشئاً من سير الأرض، أو من سيرها هي. فالعرب تقول غرب الجبل وغاب. إذا ما أبعدوا عنه حتى اختفى عنهم، والجبل ثابت مكانه لا يزول، والذين يقولون إن الشمس ثابتة يقولون لها غربت وطلعت. وغروبها مذكور في القرآن.

أما الثاني, وهو أنها تذهب وتجري، فلا شك فيه أيضاً. لأن علماء الفلك اليوم يقولون: إنها تدور حول نفسها، ويقولون إن لها دورة أخرى حول نجم آخر، والدوران لا يكون إلا من جري بالضرورة، لأن الجري هو المشي، ثم إن الجري له استعمال آخر مجازي، .. كما يقال جرى قلم القضاء بما يكون، وأمثال ذلك. ولا يراد به الحركة والانتقال حقيقة.

وأما الثالث، وهو أنها تسجد تحت العرش، فنقول: قد أخبر القرآن أن كل شيء في السموات والأرض يسجد لله، كما قال {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، وقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، وقال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، والآيات في هذا كثيرة. كما قد أخبر أن كل شيء قد أسلم له، وكل شيء يسبحه، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر: 1]؛ [الصف: 1]؛ ولا يراد بذلك سجود كسجود العقلاء. وإنما يعنى به أحد ما يأتي:

-. إما أن يكون ذلك عبارة عن الانقياد والخضوع. والناس يسمون هذا سجوداً. كما قال الشاعر:

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني .:. فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا

وكما قال آخر:

فكيف بمن لو أنني لحت واقفاً .:. هوى ساجداً من خشيتي وقضى النحبا

وكما قال عمرو بن كلثوم:

إذا بلغ الفطام لنا صبياً .:. تخر له الجبابر ساجدينا

والمراد بهذا السجود الخشوع والانقياد، ويقوي هذا التفسير قوله في الآية: {طوعاً وكرهاً}، وقوله: {وظلالهم بالغدو والآصال}.

-. وإما أن يكون المراد بالسجود الدلالة على الله، يعني أن هذه المخلوقات تدل على الله، وعلى أنه يستحق أن يسجد له كل شيء، وأن يعبده كل شيء، وهذا مجاز مشهور في اللغة. والتفسير الأول في السجود هو التفسير.

-. وأما تقييد السجود بأنه يكون تحت العرش؛ فهو مبالغة في الانقياد وعبارة عن تمام ذلك. كما يقال: فلان يسجد تحت قدمي فلان، ويسجد تحت سريره، وتحت عرش الملك. والمعنى في ذلك المبالغة، ولا تراد الحقيقة. فقوله إنها تسجد تحت العرش يعنى أنها خاضعة له أكمل الخضوع وأتمه.

وأما الأمر الرابع؛ وهو أنها تستأذن فيؤذن لها، فنقول: غاية ذلك أن يكون مجازاً يراد به طاعتها لخالقها، وطلوعها وغروبها بمشيئته وإرادته، حتى كأنه يأمرها وينهاها فتعقل عنه، وحتى كأنها تستأذنه في رواحها وغدوها. وهذا كله يعبر عن الخضوع. فإن الخاضع يستأذن المخضوع له عادة, ويستأمره فيما يأتي وما يذر، ويسير حسب إذنه. فأطلق الاستئذان وأراد به ما يتبعه عادة، وهو ما ذكرنا.

وهذا النوع من التوسع شائع في الكلام. فهم يقولون: هذه الرسوم البالية تخبرنا أن كل شيء بال، وان كل جديد فإلى البلى والزوال، ويقولون: هذه السيوف تشكو طول مكثها في الأغماد، ويقول القائل منهم: شكا إلى جملي وناقتي طول السرى، وشكت هذه الدابة إليّ الجوع والتعب، ويقولون: هذا البيت يخبرنا أن بانيه حاذق بناء، وهذه الصورة تقول إن من رسمني لراسم ماهر. ويقولون: قالت عينا الحبيب سمعاً وطاعة وأمثال ذلك لا يحصى.

وطائفة من المفسرين يقولون: إن كل ما نسب إلى الجماد والسماء، والأرض من المقال، والخطاب بينها وبين الله محمول على ذلك. وذلك كقوله في السماء والأرض: {قالتا أتينا طائعين} ونظائرها المعروفة في القرآن. ومثله استئذان الشمس وسجودها.

وأما الخامس؛ وهو أنها تجري حتى تستقر تحت العرش فيقال: أما الجري فقد ذكرنا معناه. وأما أنه يكون تحت العرش، فيقال: هذا كناية عن رجوعها إلى الله. إذ ليس وراء الله لمخلوق مرجع ولا مذهب فهو كقوله تعالى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]، ويقول الناس: "خطاب العرش" وهم يريدون خطاب من على العرش. أو يكون المراد بذلك أنها تستقر تحت العرش أخيراً عندما يأذن الله للساعة بأن تقوم.

وأما الأمر السادس؛ وهو أنها تطلع من مغربها، فيقال: هذا عندما يأذن الله تعالى للعالم بالخراب والفناء، ليخلق عالماً من أنقاضه أصلح للسكنى وأكثر إراحة لعباده. وهذا من علامات الساعة. والأخبار بأن الشمس تطلع من مغربها في الصحاح.

هذا جملة ما في الحديث مما قد يعد مشكلا قد بان لك أيها القارئ أنه لا يقضي برد الحديث الصحيح.

فإن قلت: إن كل ما ذكرت جميل لولا أن قوله (تذهب حتى تسجد تحت العرش) يدل على أن السجود غير الذهاب، وغير التصريف والانقياد. لأنه قد جعل السجود نهاية ذلك وغايته. فلا بد أن يكون السجود المذكور غير ما عبرت عنه بالخضوع.

قلت عن هذا جوابان:

أحدهما: أن المراد بالسجود تحت العرش هو وقوعها تحته حقيقة في آخر الدنيا عند انقضاء مهمتها، وسكون حركتها. والمعنى أن الشمس تبقى في شأنها إلى أن يأذن الله بفساد العالم، فتقع تحت العرش ساجدة. وكل شيء إلى انقضاء إلا وجه ربنا تعالى.

وثانيهما: أن هذا مثل أن تقول: سار فلان حتى سار سيراً متعباً. وسار حتى أجد في السير. وسار حتى انقطع ظهره من الإعياء. وأمثال هذه الكلمات. وليس جنس الذي قبل حتى غير الذي بعدها فيه. على أن (حتى) قد تكون للعطف المطلق كالفاء والواو. وهذا قول مشهور لطائفة من علماء النحو. وعليه يكون سياق الحديث " تذهب فتسجد تحت العرش " إلى آخره. وعلى هذا يخلص الحديث من هذه الشبهة.

وعلى كل حال فالحديث عبارة عن أن الشمس مسخرة لله، خاضعة لأمره الكوني، سائرة على حسب ما أراد وقدر، حتى كأنها عاقلة، تسمع خطابه. والرواية الأخيرة وهي تقول: "حتى كأنها قيل لها أرجعي من حيث جئت"، تشهد لهذا وتقوي أن يكون الحديث تمثيلاً لحالة الشمس. فالحديث صحيح المعنى مع تدبره ومع إعطائه ما يليق به من التفهم والتعقل والتريث في إصدار الأقوال. فإن الزلل كثيراً ما يقارن العجل) اهـ [مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها (ص: 139)].

هذا الذي ذكره إلا أن بعض هذا من التأويل البعيد؛ رغم أنه استفرغ الوسع في تأويل كل ما يرد عليه.

وفي رسالة رفع اللبس عن حديث سجود الشمس لعبد الله بن سعيد الشهري، ذكر ما هو أقرب مما سبق من التأويل.

وقد افتتحه بالسؤال: (سأل سائل فقال: قد أشكل علي معنى حديث الرسول r عن سجود الشمس تحت عرش الرحمن. كيف تسجد؟ أتقف للسجود للواحد المعبود؟ وإن حصل ذلك فمالنا لا نرى ذلك؟ ثم إن الحديث الشريف يذكر أنها تصنع ذلك بعد غروبها مع أنها تغرب عن أهل كل بلد فإذا كان الأمر كذلك فإنها تسجد في كل وقت لأنها غاربة في كل وقت عن بلد من البلاد. فما العمل؟ أفيدونا رحمكم الله وزادكم الله علماً.

ثم بنى الجواب على أمور:

فقد ذكر الأحاديث ثم قال: والأحاديث فيها مسائل لها تعلق بصحة فهم المراد الذي التبس على السائل وهي:

1- معنى السجود الوارد في الحديث.

2- لفظ الغروب والتعقيب عليه بلفظ الذهاب.

3- حرف "حتى" الدال على الغاية والحد.

4- القول في عرش الرحمن سبحانه وتعالى.

أول هذه المسائل معنى لفظ السجود الوارد في الحديث. والسائل توهم من معنى السجود توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس ولا يلزم هذا كما هو معلوم.

وبهذا يكون قد التبس عليه المعنى الاصطلاحي الذي يستعمله الفقهاء في شرحهم لكيفية السجود في الصلاة بالمعنى اللغوي الذي هو أوسع دلالة وأكثر معنى مما دل عليه الاصطلاح.

ومن معاني السجود في اللغة: الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].

 قال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به) اهـ.

وعليه فسجود الشمس مما يختص بها ولا يلزم ان يكون سجودها كسجود الآدميين كما أن سجودها متحقق بخضوعها لخالقها وانقيادها لأمره وهذا هو السجود العام لكل شيء خلقه الله كما في آية الحج السابقة إذ كل شيء من خلق الله تعالى يسجد له ويسبح بحمده، قال تعالى في آية النحل: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]، والشمس داخلة في دواب السماء لأن معنى الدبيب السير والحركة.

والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل من خلال علوم الفلك المعاصرة إذ انها تدور حول نفسها ويسمون ذلك (spin) أي دوران الشيء حول نفسه وذلك في خلال سبعة وعشرين يوما أرضيا وتدور (مع المجموعة الشمسية) حول مركز المجرة اللبنية أو (milky way) بسرعة تقترب من 220 كيلومترا في الثانية. {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

ولكن لو قال قائل: "هل تنتفي صفة السجود عن الشمس إذا كانت لا تسجد إلا تحت العرش فلا تكون خاضعة إلا عند سجودها تحت العرش وفي غير ذلك من الأحايين لا تكون؟

والجواب أن الشمس كما قدمنا لها سجدتان:

سجود عام: مستديم وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات.

وسجود خاص: يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدة تحته وهو المذكور في الحديث وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه.

ومن أمثلة ذلك من واقعنا أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان وهكذا مع أنهم يشتركون في مسمى الفعل وهما المشي والسباحة).

ثم ذكر الشيخ الشهري أن الشمس لا يلزم من سجودها التوقف عن الحركة، وقال: (فكما أنه يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن وهو الاطمئنان الذي هو ركن في الصلاة فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس لتحقيق صفة السجود. لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل ومن شواهد لغة العرب على أن السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه.

ومن المعلوم أن السجود عبادة والله قد تعبد مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها فكان الانحناء والنزول للآدميين وكان غير ذلك من كيفيات السجود لسائر الكائنات والمخلوقات مع اشتراكهما في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعا أو كرها.

ومثال ذلك طواف الرجل حول الكعبة إذ لا يلزمه أن يقف عند الحد الممتد من الحجر الأسود ليتحقق حساب طواف كامل إذ أنه حتى لو طاف وواصل مسيره وتجاوز الحد دون الوقوف لاستلامه فإنه يتحقق له شوط كامل ويكون قد قضى جزءا من شعيرة الطواف دون أن يقف عند الحد الذي ذكرنا.

وكذلك الشمس تجري في الفلك ونراها تشرق وتغرب دائبة ومع ذلك لها سمت أو منتهى يقابلها على وجه الأرض تسجد عنده لله تعالى ويكون ذلك السمت أو الحد مقابلاً في تلك اللحظة لمركز باطن العرش كما أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.

ومع أن الشمس والمخلوقات بأجمعها تحت العرش في كل وقت إلا أنه لا يلزم أن تكون المخلوقات بأجمعها مقابلة لمركز باطن العرش لأن العرش كالقبة على السماوات والمخلوقات، والشمس في سجودها المخصوص إنما تحاذي مركز باطن العرش فتكون تحته بهذا الاعتبار كما ذكره ابن كثير في البداية بشأن المحاذاة التحتية للعرش، وكما قرره ابن تيمية رحمه الله في فتاواه وسائر أئمة اهل السنة من حيث أن العرش كالقبة وهو معلوم من حديث الأعرابي الذي أقبل يستشفع بالرسول r وقصته مشهورة ثابتة.

وقد يسأل سائل فيقول: "إذاً كيف يكون الله بكل شيء محيط؟" والجواب أن الله عز وجل غير العرش.

فالله جل جلاله مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته إذ إن الله هو المحيط بكل شيء، وليس العرش، وقد أنكر ابن تيمية على المخالفين الذي يرون أن العرش مستدير مع استدارة الأفلاك لأنهم تركوا صحيح المنقول من سنة رسول الله r الذي نص على ان العرش كالقبة وليس كالدائرة. وهذا هو الصواب لموافقته للأدلة الثابتة.

وهو ما دل عليه العقل باعتبار نظرية أينشتاين النسبية العامة بشأن انحناء الكون، ولكن لا يلزم منه استدارة العرش استدارة كاملة لأن العرش غير السماوات من جهة، ولأنه لو كان العرش مستديراً لكانت الشمس والمخلوقات "داخل" العرش لا "تحته"، وظرف التحتية أنسب لحال العرش الذي هو كالقبة.

ولذلك قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن "العرش" فلك من الأفلاك المستديرة الكروية الشكل؛ لا بدليل شرعي. ولا بدليل عقلي. وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين الذين نظروا في "علم الهيئة" وغيرها من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع وهو الأطلس؛ محيط بها مستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة المشرقية وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر "عرش الله" وذكر "كرسيه" وذكر "السموات السبع" فقالوا بطريق الظن إن "العرش" هو الفلك التاسع؛ لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق)اهـ.

وهذا السمت أو الحد أو المنتهى المعبر عنه في الحديث بالحرف "حتى" للدلالة على الغاية والحد فهو كالسمت (ولا أقول هو السمت) الذي نصبه الجغرافيون على الخارطة الأرضية ويسمونه خطوط الطول الممتدة بأعداد متتالية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فإذا حاذت الشمس سمت أو حد السجدة مع محاذاتها في ذات الوقت لمركز باطن العرش فإنها تسجد سجودا على الكيفية التي لا يلزم منها ان توافق صفة سجود الآدميين وعلى هيئة لا تستلزم توقف الشمس عن الحركة وضربنا على ذلك مثال الطواف بالبيت.

أما هذا السمت أو الحد أو المنتهى، كما قال الإمام ابن عاشور، فإنه لا قبل للناس بمعرفة مكانه. قال رحمه الله في التحرير والتنوير في تفسير قوله تعالى "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم": (وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش، وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعاً لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي" اهـ.

والخلاصة أن سجود الشمس على المعنى الذي ذكرناه غير ممتنع أبدا وبما ذكرنا يزول الإشكال إن شاء الله ولا يخالف الحديث صريح العقل إنما قد يخالف في بعض الأحيان ما اعتاد عليه العقل وألفه وهذا ليس معياراً تقاس بها الممكنات في العقل فضلاً عن الممكنات في الشرع لأن الله على كل شيء قدير ولأن العادة نسبية باعتبار منشأ الناس واختلاف مشاربهم ومجتمعاتهم وعلمهم. والسامع مثلاً لما تخرج به علينا فيزياء الكم من العجائب والأسرار كنظرية ريتشارد فينمان ومبدأ اللاحتمية لهايزنبرج وغيرها من السنن والظواهر في هذا الكون مما يحير عقول العلماء يوقن بأن لله حكمة بالغة يطلع من يشاء عليها ويستأثر بما يشاء عنده، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ{ [النحل : 8]، وقال تعالى: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، وقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

والإنسان الأصل فيه الضعف والجهل، قال تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا" وقال في آية الأحزاب: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، ولذلك فابن آدم يسعى على الدوام لدفع ذلك عن نفسه بطلب ضديهما وهما القوة والعلم. قال تعالى في صفة طالوت لما بعثه ملكا: "وزاده بسطة في العلم والجسم" فجمع له بين القوة العلمية والقوة العملية، [رفع اللبس عن حديث سجود الشمس، (1/1-11)].

وكلام الشهري أفضل من التوجيهات السابق.

لكن بقي الكلام على كونها لا تزال تسجد، لأنها لا تزال تغرب، وقد ذكر الشهري رواية مسلم عن أبي ذر t: أن النبي r قال يوما أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله r أتدرون متى ذاكم ذاك حين يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا).

ثم قال: (هذا وبقي في الأحاديث عنه r فائدتان لطيفتان تزيلان لبساَ كثيراً. الفائدة الأولى في قوله عليه الصلاة والسلام:" فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش" عند البخاري وغيره. ولم يقل عليه الصلاة والسلام أنها "تغرب تحت العرش" أو "حتى تغرب تحت العرش" وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث وهو فهم مردود لأن ألفاظ الحديث ترده.

فقوله: "تذهب" دلالة على الجريان لا دلالة على مكان الغروب لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين وإنما تغرب في جهة معينة وهي ما اصطلح عليه الناس باسم الغرب والغروب في اللغة التواري والذهاب كما ذكره ابن منظور وغيره يقال غرب الشيء أي توارى وذهب وتقول العرب أغرب فلان أي أبعد وذهب بعيداً عن المقصود.

أما الفائدة الثانية فهي في قوله r: "فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" والشاهد منه قوله r: "لا يستنكر الناس منها شيئا". وكأن في هذا دلالة ضمنية على علمه r بأن هناك من الناس من قد يستشكل معنى الحديث فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود فينكر الناس ذلك ويرهبونه.

إلا أنه r أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع انها تسجد ولكنه سجود غير سجود الآدميين ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً وواضح من كلامه r مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها وكما قدمنا فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها وهو اللبس الذي أزاله r بقوله: "فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" كما أن العقل يدل على ذلك إذ أن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثمان دقائق وهذا يعني انه لو حدث خطب على الشمس أو فيها فإننا لا نراه إلا بعد ثمان دقائق من حصوله وعليه فما الذي يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت - لا كله - ولو بأجزاء من الثانية لله تعالى تحت عرشه ونحن لا نعلم عن ذلك لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا.

وحتى لو سلمنا بانعدام هذا الفارق الزمني فإننا قد أوضحنا أن الشمس تسجد على صفة مخصوصة منفصلة بهيئتها وصورتها عن معتاد التصور ومن حيث أصل المعنى داخلة في معنى مطلق الخضوع الدال عليه لفظ السجود لغة لا اصطلاحاً كصنيعنا في الصلاة من حيث الهبوط والنزول والطمأنينة والتوقف لبعض الوقت ولو كان سجود الشمس كسجودنا لتعطلت مصالح العباد وفسدت معيشتهم والله تعالى يقول: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]، والفلك من قول العرب تفلك ثدي الجارية إذا استدار وقال ابن عباس: في فلك مثل فلكة المغزل أهـ.

وفلكة الغزل عندهم كانت مستديرة لتناسب إتمام نسج اللباس ومنه جاء معنى الاستدارة. وفي ما ذكرنا كفاية إن شاء الله والحمد لله رب العالمين) اهـ [رفع اللبس عن حديث سجود الشمس، (1/1-11)].

وممكن أن يضاف أن الحديث فيه (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ r فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ)، فيمكن حمل سجود الشمس عند غروبها فوق المسجد، يعنى إذا غربت في الحجاز، وسجودها وهي سائرة بكيفية لا نعلمها، والأمر غيب، لكنه معقول وليس محالاً، والله أعلم بما وراء ذلك من الغيبيات، وهو قول في القوة كما ترى، وبه تجتمع الأدلة، وبالله التوفيق.

والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه: 

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا

 

تعليقات