د. خالد فوزي حمزة يكتب: حول قول الله تعالى (إِنّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 09 مارس 2022, 02:47 صباحا
  • 1611

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد.. فقد قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

استشكل العلماء مجيء كلمة (قريب) على التذكير مع أن كلمة (رحمت) مؤنثة؟ وقد اختلف أهل التفسير وعلماء اللغة في تخريج التذكير في قوله (قريب) على نحو عشرين قولاً، وأسرد ما تيسر منها مع المناقشة، إلا أنها في الجملة تدور على مزيد اهتمام بالمحسنين في الرحمة.



قال الألوسي رحمه الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أعمالهم، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع. وقد كثر الكلام في توجيه تذكير قَرِيبٌ مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها [روح المعاني (4/380)].



فمن تلك الوجوه: 

الأول: أن كلمة (رحمة) زيادة، والتقدير (إن الله قريب من المحسنين).

فالرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح: سبحان ربي، ولا يقال: سبحان اسم ربي. والتقدير إن الله تعالى قريب، فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم.

*. وتعقب بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف، ومعنى الآية عندهم: نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة.


والثاني: تقدير مضاف محذوف مقدر بـ(مكان رحمة الله قريب):

فذلك على حذف مضاف، أي: إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر، ونظير ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام»، فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال: يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث.

*. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده.


وقال أبو عبيدة: ذكر [قريب] لتذكير المكان أي مكانا قريبا. ورده ابن الشجري بأنه لو صح لنصب [قريب] على الظرف. [روح المعاني (4/380)؛ البرهان في علوم القرآن (3/362)؛ التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)].



لكن قال النحاس: ومذهب أبي عبيدة أن تذكير قريب على تذكير المكان، قال علي بن سليمان هذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا في القرآن كما تقول إن زيدا قريبا منك، قال أبو جعفر والذي قاله أبو عبيدة قد أجاز سيبويه مثله على بعد كما قال

(فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ** مولى المخافة خلفها وأمامها) [إعراب القرآن للنحاس (2/131)؛ فتح القدير للشوكاني (3/47)].

والثالث: تقدير موصوف محذف، مقدر بـ(شيء قريب):

فهو على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر:

قامت تبكيه على قبره **   من لي من بعدك يا عامرُ

تركتني في الدار ذا غربة ** قد ذل من ليس له ناصرُ

أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم: امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا:

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ** طلاقك لم أبخل وأنت صديق

فهو من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي إن رحمة الله شيء قريب أو لطيف أو بر أو إحسان [البرهان في علوم القرآن (3/362)].



*. وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه، على أنه لا فصاحة في قولك: رحمة الله شيء قريب، ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام مستهجن، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص.

وسيبويه وإن كان جوادا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه.

وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف.

الرابع: أخذت الرحمة حكم المضاف إليه في التذكير:

فالعرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه، وهو أمر مشهو، فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الأخبار عنها بالمذكر.

*. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر.

وقال الروذراوري: أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به. وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد. ومن ادعى الجواز فعليه البيان.

الخامس: أن (قريب) بمعنى مفعول لا فاعل:

فإن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، كرجل جريح وامرأة جريح. كما قالوا لحية دهين وكف خضيب. [لأن وزن فعيل قد يراد به معنى (اسم فاعل)، كما نقول "رجل رحيم" أي راحم، وقد يراد به معنى (اسم مفعول) كما يُقال: "ذبيح" أي مذبوح نحو "ثور ذبيح"، أو مذبوحة، نحو: "شاة ذبيح"، [وانظر: التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)؛ إعراب القرآن للزجاج (1/137)].

*. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل. واعترض أيضا بأن هذا لا ينقاس خصوصا من غير الثاني.


السادس: تشبيه فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول:

أن فعيلا بمعنى فاعل، قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء.

فالأول: كقوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ومنه الآية الكريمة. (أي: قريب من المحسنين)

والثاني: كقولهم: خصلة ذميمة، وصفة حميدة حملا على قولهم: قبيحة وجميلة ولم يتعقب (أي ابن هشام) هذا بشيء.

*. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويَرِد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم، والآخر من متعد، فلو أجري على أحدهما حكم الآخر؛ لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه.

وفيه نظر.


السابع: فيها الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه:

فالعرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ} [الشعراء:4] فإن خاضِعِينَ خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق. ألا ترى أنك إذا قلت: الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون.

وسوغ ذلك ظهور المعنى؛ ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، قال البغوي: لم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي ومجازها الوقت. وقال الكسائي: إتيانها قريب. فهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال: وإن مكان رحمة الله قريب ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره [البرهان في علوم القرآن (3/362)].

فيصح إكساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث كقوله:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت... أعاليها مر الرياح النواسم

فقال: تسفهت والفاعل مذكر لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح إذ الاستغناء عنه جائز، وإذا كانت الإضافة على هذا تعطى المضاف تأنيثا لم يكن له فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى لأن التذكير أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه [البرهان في علوم القرآن (3/362)].

*. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل: إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل: الجماعة كما يقال: جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة.

وقال الروذراوري: إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال: كان صاحب الدرع سابغة. ومالك الدار متسعة وليس فليس.


الثامن: الرحمة أشبهت الرحم، فأعطيت حكمه:

فالرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح المعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطى أحدهما حكم الآخر. لأنها والرحم سواء. ومنه: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} فحملوا الخبر على المعنى ويؤيده قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [البرهان في علوم القرآن (3/362)؛ التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)].

وكالرحمة والغفران بمعنى واحد [البرهان في علوم القرآن (3/362)]. فهو كالاستغناء بأحد المذكورين لكون الاخر تبعا له ومعنى من معانيه [البرهان في علوم القرآن (3/362)].

وهذا مال له النحاس، فقد قال: فأما قريب ولم يقل قريبة ففيه ستة أقوال من أحسنها أن الرحمة والرحم واحد وهي بمعنى العفو والغفران كما قال: (إن السماحة والمروءة ضمنا** قبرا بمرو على الطريق الواضح) [إعراب القرآن للنحاس (2/131)؛ فتح القدير للشوكاني (3/47)].

وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر بمعنى الترحم، وحق المصدر التذكير [فتح القدير للشوكاني (3/47)].



*. وتعقب بأنه ليس بشيء، لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال: موعظة نافع، وعِظَة حسن. وكذلك الذِكر والذِكرى فينبغي أن يقال: ذِكرى نافع كما يقال: ذِكر نافع.

التاسع: فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب:

أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض: إنه بمعنى ذات حيض. وكما يقال امرأة طالق [إعراب القرآن للنحاس (2/131)؛ التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)].

*. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة. وهي: "فعال"، و"فعل"، و"فاعل".

العاشر: فعيل يشترك فيه المؤنث والمذكر:

فقريب على وزن [فعيل] [وفعيل] يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى: {وَهِيَ رَمِيمٌ} [البرهان في علوم القرآن (3/362)]. وهو أيضاً ما قاله الروذراوري: أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر.


*. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع من كلام العرب فإنهم يقولون: امرأة ظريفة، وعليمة، وحليمة، ورحيمة. ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك.

ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أن {بَغِيًّا} فعول والأصل بغوي ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء، وأما قوله:

فتور القيامِ قطيع الكلام *** تفتر عن در عروب حصر

فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه نادر. الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى: {وَأَقامَ الصَّلاةَ} [الأنبياء: 73، النور: 37] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء. الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول. وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث.

الحادي عشر: أن قرب النسب خلاف قرب المكان:

فيقولون في قرب النسب: قريب وإن أجري على مؤنث؛ نحو: فلانة قريب مني، ويفرقون بينه وبين قرب المسافة.

قال الماوردي في الوجه الثاني: أن المراد به مكان الرحمة، قاله الفراء، كما قال عروة بن حزام:

"عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ *** فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ"

فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء، وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء [تفسير الماوردي، النكت والعيون (2/231)].

وذكر الفراء أن العرب تفرق بين النسب والقرب من المكان فيقولون: هذه قريبتي من النسب وقريبي من المكان فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان [البرهان في علوم القرآن (3/362)؛ روح المعاني (4/380)، التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)].

قال النحاس: ومذهب الفراء أن قريبا انما جاء بلا هاء ليفرق بين قريب من النسب وبينه وقال من احتج له: كذا كلام العرب كما قال: 

(له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ** قريب ولا بسباسة ابنة يشكر) [إعراب القرآن للنحاس (2/131)؛ فتح القدير للشوكاني (3/47)].

*. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي: فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال:

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحيّ مسرور.

وقال الزجاج [معاني القرآن: (2/345)]: وهذا غلط لأن كل ما قرب من مكان ونسب فهو جار على ما يقتضيه من التذكير والتأنيث يريد أنك إذا أردت القرب من المكان قلت زيد قريب من عمرو وهند قريبة من العباس فكذا في النسب [البرهان في علوم القرآن (3/362)]. فسبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما [إعراب القرآن للنحاس (2/131)].

الثاني عشر: أنه تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى:

فالرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى، وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين، ذكره الأخفش [تفسير الماوردي، النكت والعيون (2/231)؛ إعراب القرآن للزجاج (1/137)؛ إعراب القرآن للنحاس (2/131)]. قال النحاس: وقال الأخفش يجوز أن يذكر كما يذكر بعض المؤنث وأنشد (فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها) [إعراب القرآن للنحاس (2/131)؛ فتح القدير للشوكاني (3/47)].

واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر أن إحسان الله قريب، ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله:

أرى رجلا منهم أسيفا كأنما *** يضم إلى كشحيه كفا مخضبا

فأول الكف على معنى العضو.

*. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر. وقد تقدم أنه لا يقال: موعظة حسن، مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا.

وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى، على أن بعضهم قال: إن الكف قد يذكّر.

الثالث عشر: المراد بالرحمة: المطر:

ونقل ذلك عن الأخفش، والمطر مذكر. وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر. ولأنه قد تقدم ما يقتضيه فحمل المذكر عليه [البرهان في علوم القرآن (3/362)؛ زاد المسير في علم التفسير (2/495)؛ فتح القدير للشوكاني (3/47)؛ التبيان في إعراب القرآن (1/575)؛ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات (1/276)].

*. واعترض عليه من أوجه:

أحدها: أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير.

ثانيها أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى.

ثالثها: أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي. وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب.

والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب، كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان، ليس بشيء عندي.

رابعها: أنك لو قلت: مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع، بخلاف إن رحمة الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى.

وأجيب عنه بأن مجموع رَحْمَةِ اللَّهِ استعمل مرادا به المطر، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى، وهذا كما يحسن أن يقال: كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال: قرآن الله سبحانه.

والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري.

وقال ابن هشام: لا بعد في أن يقال: إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة.

واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير.

وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره اهـ [هذه كلها من روح المعاني (4/380)، بتصرف].

قال الألوسي معقباً: (ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع.

وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة.

-. وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث[فتح القدير للشوكاني (3/47)].

*. وهو كما ترى.

-. وقيل: التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي.

فالرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي [زاد المسير في علم التفسير (2/495)].

*. ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور.

-. وقيل: إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر، فالرحمة مصدر والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث [البرهان في علوم القرآن (3/362)].

كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة، وهو صوت الرجل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب.

*. وأنت تعلم أن حمله على فعيل بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه، نعم ربما يدعي أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم.

قال الألوسي: والذي اختاره: أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا؛ لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر [روح المعاني (4/380)].

والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير:

أتنفعك الحياة وأم عمرو *** قريب لا تزور ولا تزار

وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليم إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل.

-. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان قال الجوهري: ذكرت على معنى الإحسان [البرهان في علوم القرآن (3/362)].

لمكان المحسنين {وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} [الرحمن: 60] ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي.

ووجه القرب على ما قيل: وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية.

-. وفسرها ابن جبير بالثواب، والمتبادر منه الإحسان الأخروي.

ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.

-. وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ} [طه: 82] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن «من تاب وآمن» إلخ تفسير للمحسنين.


وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة.

*. وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى} [يونس: 26] فهو محسن بمجرد الإيمان.

والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالمؤمنين. وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه. [روح المعاني (4/380)؛ فتاوى الشبكة الإسلامية (9/3360)]

وخلاصة القول أن العلماء قد اختلفوا في تخريج التذكير للصفة في تلك الآية وكتبوا في ذلك وحشدوا من الأدلة ما ذكرت لك طرفا منه، وهذا كله إنما يدل على بلاغة القرآن وإعجازه، فلا يبعد أن يكون التذكير إنما سيق ليشمل مجموع ما ذكر، كما قال ابن هشام. والله أعلم. 

وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا

تعليقات