د. خالد فوزي حمزة يكتب: حقيقة القدر ومسؤولية العبد عن فعله

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 09 مارس 2022, 02:40 صباحا
  • 1208

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد.. فمن الأسئلة المطروحة في العالم منذ بدء الخليقة، ما هو القدر، وهل الإنسان مسير أو مخير، والبحث عن حقيقة القدر جعل الناس تخوض فيه بالحق تارة، وبالباطل تارات.

وحقيقة القدر هو الإيمان بقدرة الله تعالى، وكما يقول ابن القيم في نونيته المسماة: الكافية الشافية: [شرح القصيدة النونية (1/254)]

فحقيقة القدر الذي حار الورى....... في شــأنه هو قدرة الرحمنِ

واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد...لما حكاه عن الرضا الرباني

قال الإمام شفى القلوب بلفظةٍ.. ذات اختصار وهي ذات بيانِ. اهـ


فأصول الإيمان الخمسة هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الإيمان بالله: الإيمان بصفاته ومنها العلم وعموم مشيئته وقدرته، وهذا هو القدر، فإن مراتب القدر الإيمان بعلم الله السابق، وأنه كتب في الذكر، وله المشيئة العامة، وكل مخلوق فالله خلقه، ولأهمية الإيمان بالقدر أفرد في حديث سؤالات جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره.


وقد قال ابن القيم: "وقال الإمام أحمد: القدرُ قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها" [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (11/1)].


والنصوص المخبرة عن قدرة الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر: 49]. وقوله: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) [الأحزاب: 38]، وقوله: (ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) [الأنفال: 42]. وقال: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان: 2]. وعن طاووس قال: "أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر حتى العجزُ والكَيْس [أخرجه مسلم].


فالله تعالى قدير مقتدر، والقدرة صفة من صفاته، وقدرته لا يعجزها شيء، والذين يكذبون بالقدر لا يثبتون قدرة الله تعالى، يقول شيخ الإسلام: "وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة ولا يثبته قادرا فالجهمية ومن اتبعهم والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية: حقيقة قولهم: إنه ليس قادرا وليس له الملك فإن الملك إما أن يكون هو القدرة؛ أو المقدور؛ أو كلاهما وعلى كل تقدير فلا بد من القدرة؛ فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكا؛ كما لا يثبتون له حمدا [مجموع الفتاوى (8/30)].


إلا أن أصل القدر سر الله في خلقه، ولذا فكل من زعم أنه لا حيرة عنده في القدر، فقد دخلت عليه شبهة من شبه المعتزلة.

قال الطحاوي: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسُلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين). قال شارح الطحاوية: أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى. قال علي رضي الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه، والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}. وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كونا، ولا يرضاه دينا. [شرح الطحاوية (1/225)].


ومن حيرة القدر أن العبد مسؤول قطعاً عن أفعاله، مع كونها خلق لله تعالى قطعاً، وهو أمر محير لكن لا يتنافى، قال شارح الطحاوية: "لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}: إثبات للقدر بقوله: فألهمها، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} إثبات أيضا لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة. [شرح الطحاوية (1/442)].


وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي: أنهم قالوا؟ كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقا في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق.

والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقا لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة: السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا.


يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال: هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته، وتألهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه، من محبة الله وعبوديته، والإنابة إليه؛ عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [شرح الطحاوية (1/442، 443)؛ مجموع الفتاوى (14/331)].

فإنه وإن كان الله خالق أفعال العباد؛ فخلقه للطاعات: نعمة ورحمة، وخلقه للسيئات: له فيه حكمة ورحمة، وهو مع هذا عدل منه فما ظلم الناس شيئا. ولكن الناس ظلموا أنفسهم. وظلمهم لأنفسهم نوعان: عدم عملهم بالحسنات. فهذا ليس مضافا إليه. وعملهم للسيئات: خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها وأمرهم بها. فكل نعمة منه فضل. وكل نقمة منه عدل. [مجموع الفتاوى (14/334)].


لكن لابد أن نعلم أنه إذا لم يخلق الله الإيمان في قلوب العباد ولم يوفقوا له، فلا سبيل لهم إليه بأنفسهم، لكنه لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له، بل هو محض فضله ومنته عليه؛ لم يكن ظالما بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطائه.

والعقوبة المترتبة على هذا المنع، والمنع المستلزم للعقوبة - ليس بظلم، بل هو محض العدل. ولم يسوِ الله بين العباد في الفضل، فإن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد، حتى أبصر جزءا يسيرا من حكمته في خلقه، وأمره وثوابه وعقابه، وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محال ذلك؛ استدل بما علمه على ما لم يعلمه [باختصار من شرح الطحاوية (1/445، 446)].

وهذا ليس قولاً بالجبر، لأن الجبر أنكره السلف، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز، فلا يكون إلا مع الإكراه، والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار، لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد، قادر على أن يجعله مختارا بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع: "الجبل" دون "الجبر"، كما قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخلقين تخلقت بهما؟ أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: "بل خلقان جبلت عليهما" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى». والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري. والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول [باختصار من شرح الطحاوية (1/448)].


إلا أن الجبر له معنى صحيح، فقد قال سفيان وأحمد وسهل والإمام وأهل العلم: إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية، وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها [درء تعارض العقل والنقل (4/347)].

وأختم بإيراد قول الطوفي في المسألة، فهو يعين على فهم الحيرة التي توجد في هذه المسألة، وقد زعم أنه قد حل هذا الإشكال، قال الطوفي: (أما الكشف عن سره فذلك يظهر بمقدمات: الأولى: أن الله عز وجل أحب أن يكون له في خلقه المشيئة النافذة. الثانية: أنه عز وجل أحب أن يكون له عليهم الحجة البالغة. الثالثة: أنه عز وجل علم ما سيكون منهم قبل أن يوجدهم، فعلم مثلا من آدم وإبراهيم وموسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- أنه سيكون منهم الطاعة، وعلم من إبليس ونمرود وفرعون وأبي جهل وأبي لهب أنه ستكون منهم المعصية، وعلم أنه لو ترك كلا واختياره وفوض إليه أفعاله لم يكن منهم إلا ما تعلق به علمه من طاعة أولئك ومعصية هؤلاء. وحينئذ استوت حالتا جبرهم على أعمالهم وتفويضها إليهم، فلو فوض إليه أعمالهم والحالة هذه لضاعت فائدة التفويض، ولم يبق فيه إلى مجرد مفسدة مشاركة المخلوق له في الاختراع، فرغب سبحانه وتعالى ببالغ حكمته عن هذه المفسدة المجردة، وآثر التوحيد في خلقه من غير مشارك صيانة لجانب الإلهية والملك عن وصمة المنازعة والشرك.

ثم إنه عز وجل لما علم أن في خلقه من يعترض عليه ويقول: إنك إذا أجبرتنا لم تعدل فينا، ولو فوضت أعمالنا إلينا لقمنا من طاعتك بما علينا، أخفى عنهم طريق الجبر بلطيف حكمته ليقيم عليهم بالغ حجته، وذلك بأن خلق فيهم أفعالهم بواسطة مشيئاتهم، فظنوا أنهم لها خالقون، وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون، وذلك اللبس عليهم من شؤم اعتراضهم، ولو سلموا الأمر لرب الأمر لكشف لهم عن حقيقة الأمر.


وتقرير ذلك أنه عز وجل إذا شاء من عبده فعلا خلق له مشيئة ذلك الفعل ، ثم خلق ذلك الفعل على أدوات العبد موافقا لإرادته. وهذا مستفاد من قوله عز وجل: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين﴾ فمشيئة الله عز وجل سبب مؤثر أبعد، ومشيئة العبد سبب مقارن أقرب) انتهى كلامه.


لكن خلاصة ما ذكره ونسبه لأهل السنة هو في التحقيق مذهب الأشاعرة القائلين بالقدرة غير المؤثرة في الفعل، ولذا ألزموا بالجبر، وقد التزمه الطوفي فعلاً، فقال: (وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون)، والطوفي لم ينص على قول السلف، ولذا لم ينص على تأثير قدرة العبد في الفعل، بل ذكر الإرادة فحسب، وقد بينت هذا الخلل في دراستي عن كتابه (الإشارات الإلهية ص69 -73).

لكن محاولته هذه لحل الأمر، تعين في فهم موطن الحيرة في القدر، لكنه في كلامه وقع في مخالفات، كجعله المحال ممكناً، بقوله (لو فوض إليهم لعصوه)، وهو محال لأنه خروج عن ملك الله وعلمه وقدرته وإرادته، ثم أيضاً غلط في فرضه، لأن الله تعالى لا يعذب العباد بعلمه، بل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذراري المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين) [متفق عليه]، فإنه قد علم أنه سبحانه لا يعذب من قدر عليه منهم دخوله النار بهذا العلم السابق، بل يكون بالاختبار في عرصات القيامة، وبينت في دراسة الكتاب أموراً أخرى تؤخذ على كلامه.

ولذا فالواجب علينا أن نلتزم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما حاموا حول هذا الحمى وسألوه صلى الله عليه وسلم (فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: لا؛ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى (*) وصدق بالحسنى} إلى قوله {فسنيسره للعسرى} [سورة الليل، آية: 5 - 10].


وينبعي أن يُعلم أن سائر فساد أقوال من خالف في القدر منشؤه من قياس الخالق على المخلوق، وشأن الله أعظم من أن تقاس أفعاله بأفعال المخلوقين.

على أن جنس هذا الذي أنكروه موجود في البشر، فليس من الظلم أن الإنسان يعمل على إنتاج البهائم، كأن يأتي بالبيض ويعمل على إيجاد الدجاج منه ليعذبه بالذبح، فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسبباً أفضى إلى عذابه لمصلحة في ذلك، فحيث علمنا الحكمة من ذلك لا يقال إنه ظلم أو مذموم أو قبيح، فكيف يعذر العبد نفسه ثم يذهب ويقيس فعل ربه على فعله، ويتكلم فيما لا يعنيه؟ [تقريب وترتيب شرح الطحاوية، (2/1150)].


وبتقرير أن الكلام في القدر من المحارات، فإنه ليس محالاً، فكون الله تعالى يقدِّر على أحد الذنب ويعذبه عليه فليس من الممتنع لذاته حتى يقال إنه محال.

فالخلاصة أن الإنسان لا يخلق فعله، وليس مجبوراً خلاف إرادته، لكنه مجبول على ما أراده الله منه، ويبقى ما وراء ذلك من محارات العقول، لكن ليس من محالاتها، والله أعلم.


 وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


كتبه:

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا

تعليقات