رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

عبد السلام صلاح يكتب: لماذا نحتاج إلى الشيوخ اليوم؟

  • جداريات Jedariiat
  • السبت 05 مارس 2022, 11:35 مساءً
  • 658
عبد السلام صلاح

عبد السلام صلاح

الحقيقة أن الإعلامى الكبير الذى جزم بعدم حاجة الناس إلى الشيوخ، هو أول من رجع إليهم حين أراد الدفاع عن نفسه، ففتح كتب الشيوخ؛ ليُثبت براءته أمام الناس، اتخذ هؤلاء الشيوخ أصحاب الكتب التراثية حمايةً له وإقناعاً للجمهور بأن لرأيه وجاهة وسنداً.

 

وهنا يظهر أن مطالبة الأزهر بتجاوز كتب التراث، هى مطالبةٌ عبثيةٌ بعيدةٌ عن الواقع، إن أكثر مَنْ يُعادون التراث فى حياتنا هم الأكثر التفافاً حوله وانشغالاً به، نقداً أو هجوماً على "غير المقبول"، واستدعاءً لما يلقى الإعجاب والقبول، لكن العجيب هو أنهم يجعلون ذلك حقاً حصرياً لهم يجب حِرمان الأزهر منه.

 

التراث العربى والإسلامي ليس شيئاً واحداً، وليس نسيجاً أحادى الفكر ثابت التوجُّه مُجمعاً عليه بحيث نقبله كله أو نرفضه كله، إنما منتجات متنوعة وتفسيرات شتَّى، لم يكن فى أىٍّ من عصوره يعرف الرأى الواحد، بل سجالات دائمة، أخذٌ ورد، استدراكٌ ونقد، مدارس ومذاهب، تيارات ومناهج عديدة، اتسعت الحياة الفكرية لذلك الاختلاف الذى سجَّلته الكتب بدءاً من عصر التدوين.

 

حين يستدعى فضيلة الإمام الأكبر فتاوى تُناسب حالات واقعية اليوم مثل "حق الكد والسعاية"، فهذا يُؤكِّد أن الشيخ الخبير بسعة التراث ومكامن القوة فيه يُمكنه أن ينفع الناس بإرثنا الحضارى، وعلى الوجه الآخر تجد الرافضين للأزهر من الطرفين الأكثر غلواً فى المجتمع، لم يتجاوزوا إشكالات نظرية فى فتاوى قديمة تُوقف حركة الحياة، وهنا تظهر حاجة المجتمع للشيخ المفتش عمَّا يُفيد الواقع، الذى يُنحِّى جانباً كل ما يُعطِّله، استناداً لما وضعه الأصوليون بأن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر المكان والزمان والأحوال والأشخاص.

 

وحين تُوجِّه مدحاً أو نقداً لهذا التراث الثرى والمتنوّع، فأنت تتحدَّث عمَّا فى مخيلتك، عمَّا اعتبرته تراثاً فى تلك اللحظة، عن اطلاعاتك المحدودة، وعلى قدر استيعابك للتنوُّع الثقافى الذى حمله ذاك المنتج الكبير الضخم فأنت فى سعةٍ، بل فى غنى عن اتخاذ موقفٍ ضيق، وبالأحرى فإن قراءاتك هى ما تُحدِّد، إذا نقصت فأنت فى بئرٍ، يتسع بك كلما ازددت حتى يصير نهراً.

 

أتفهم أن تُحاجج التراث بالتراث وأن ترد على الشيوخ بشيوخٍ آخرين، لكنك تعيش فى أزمةٍ كبيرةٍ لا تُدركها حين تفعل ذلك، وفى الوقت نفسه ترفض التراث والشيوخ جُملةً، هذا تناقضٌ.

 

إن هؤلاء الشيوخ أنفسهم حين اختلفوا لم يتشنَّجوا ولم يُغالوا، بل ناقشوا بجرأةٍ وفق أدب البحث وما تدعمه قواعد المنطق، ومن يبحث فى الغيبيات لا بد أن يُوضِّح لنا أولاً ما المنهج الذى يستند إليه؟ هل يستعمل الحس والتجريب والمشاهدة فى الحُكم؟ أم ينطلق بالاستدلال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من الفيزيقا إلى الميتاقيزيقا، لا بد من توضيح المنهج قبل الشروع فى مناقشة المسائل، وهذا يُثبت جدية العمل والحوار الفكرى الحقيقى.

 

لكن للأسف أغلب المُتحدثين اليوم ينطلقون من طرقٍ مغايرة تماماً لفلسفة الإسلام فى تناول القضايا، منطقياً وتشريعياً وخطابياً، وكلامهم يضر أكثر مما ينفع، تجد المتحدِّث حسياً فى قضايا عقلية، واستقرائياً فى مواضع قياسية، وهو جدلىٌّ حيث يتحتَّم الخبرى، غارقٌ فى الجزئيات حيث تجب الكليات، ورغم أنى مع الحرية والتعدُّدية بلا حدٍّ، لكننا فى وقتٍ ينبغى أن يسكت فيه كل متواضعٍ معرفياً عن الحديث فى الدين، إذا أراد حقاً الخير للدين وصدق فى مطلبه، لأن التصدُّر للقضايا الكبرى يتطلَّب مفكرين من طرازٍ خاص، خصوصاً فى هذه المرحلة التى لا ينفعها كل ما مرّ ولا كل ما نراه الآن.

 

إن كلاً من طرفى المغالاة فى مجتمعاتنا يتعامل مع محفوظاته على أنها الدين بمعزلٍ تام عن السياق، كلاهما قادمٌ من منظومةٍ معرفيةٍ مضطربةٍ فى فهم فلسفة التشريع الإسلامى، ويُجرى عملية استنباط فورية بكل تهوّرٍ وجهلٍ.

 

على سبيل المثال، حين يقرأ الطرفان روايةً تقول "لحم البقر داء"، فإن الأول يتعجَّل فيُحرِّم لحم البقر، والآخر يتعجَّل أيضاً فيقول إن التراث والمشايخ ظلموا البقر، بينما يتعامل الفقهاء مع نصوص التراث بفلسفةٍ تشريعيةٍ مختلفة تماماً تأخذ المُتشابه فى ضوء المُحكم وتفهمه من خلال مقاصد الدين العليا والقواعد الكلية التى فُهمت من النصوص القطعية ثبوتاً ودلالةً، ومن يدرس أصول الفقه والقواعد الفقهية وتاريخ التشريع سيهدأ ويُدرك أن للاستنباط أهله.

نقلا عن: صوت الأزهر

تعليقات