ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي
هناك بعض الدراسات والبحوث التي ننحني لأصحابها، ليس لأنها تغني المكتبات العلمية، بل لأنها تحرك المشاعر الوطنية وتغذي الأفكار الوطنية وتغدوا بمثابة طاقة توجه الشعوب التي تاهت في زحام وفوضى المنتجات الفكرية والأدبية. ومن المؤكد أن كتاب “وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي” الذي صدر عن دار الفكر في لبنان هو ينتمي لهذه الإنجازات الكبيرة.
الكتاب من تأليف الباحثين د. (رياض شروانة) ود. (علاوة عمارة)، وهو يعتبر ثمرة عمل دامت خمس 5 سنوات من عمل البحث والتنقيب في الأرشيف الفرنسي. إنه جهد من الصعب الشعور به بقدر كاتبيه اللذين أظهرا ذكاء وسعة إطلاع والتي هي عادة ما يتميز بها كبار الباحثين.
يستعرض الكتاب في أكثر من 300 صفحة وأكثر من 200 وثيقة من الأرشيف الفرنسي،
تتعلق أغلبها بالجوانب الغير معروفة والجديدة التي لم يتطرق لها أي كاتب على هذا المفكر
الجزائري الذي يعتبر أحد أعمدة الفكر الإسلامي في القرن العشرين والذي نبه بشكل خاص
على ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.
وتبدو أهمية هذا الكتاب في أنه يحتوي خاصة على أقدم الوثائق التي تعود بعضها
الى عام 1939. فهو إضاءة للسيرة الذاتية للمفكر بن نبي وتعريف القارئ بتجربته الإنسانية
والفكرية، بالإضافة أن الكتاب يحتوي على أهم الدراسات عن المفكر مالك بن نبي.
وهذا التنقيب الذي قام به الباحثين شروانة وعلاوة واستعانتهما بالوثائق يجعلنا
نقترب من فكر الرجل والقواعد التي وضعها عن الحضارة، ثم السيرة الموجزة للنبي صلي الله
عليه وسلم، فهو يأخذنا الى مكان آخر في بعده هذه المرة (بعد أمني إن صح لنا القول)،
هو يظهر حقيقة مخالفة عن الرواية التي كان يقدمها الاستعمار عن علاقة بن نبي مع ألمانيا
النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ونشاطه
داخل حزب الشعب الفرنسي، الذي هو حزب
محسوب على التيار اليميني المتطرف،
لغاية تبرئته من التُّهمة المنسوبة
إليه، ثم كل المساعي والمحاولات التي قامت
بها الإدارة الاستعمارية من أجل اختراق صفوف الجزائريين من مثقفين وعمال، ثم كل الحوادث
التي أدت الى سجنه، من تتبع لأنشطته العلمية والسياسية وكتبه ومقالاته الصحفية، في
إطار الاتحاد الديمقراطي الجزائري وقتها.
هذا الكتاب هو بمثابة معاينة لسياق زمني يعيد القارئ والمتتبع لأعمال بن نبي
بإعادة القراءة لكافة أعماله وإعادة فحصها من خيال سرد واقعي ومعايشة الظروف التي نشأ فيها بن نبي سواء
كانت ظروفا سياسية أو في علاقاته المتنوعة برجالات الإصلاح والمناضلين السياسيين في
مختلف الاحزاب، وقد عكس الباحثان أجواء التنافس السياسي، وتلك الاجواء الأمنية الضاغطة
في ظل صراع دولي وحرب دائرة بين الحلفاء وألمانيا النازية، ثم بين فرنسا والجزائر التي
تسعى إلى التحرر ومحاولات الاستئثار بأكبر قدر من المعلومات والابتزاز ان صح القول
للمثقفين أو كل ورقة باعتبارها رابحة لا تراعي الأبعاد الإنسانية أو الوطنية للأشخاص
أو الشعوب التي تقبع تحت الاستعمار. لا سيما وأن هذه الحوادث كانت تسعى للإيقاع بالجزائريين
خارجها وداخلها. هذا هو السيناريو الافتراضي
لمعايشة الاعمال واعادة النظر فيها من زاوية الحماسة والضغط والأمل والألم.
يسلط كتاب: «وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي»، بشكل دقيق على كل
الاتهامات التي وجهت لمالك بن نبي، وينشر وثائق هامة لمحاضر الشهود والاستجواب ومراسلات
التحقيق، وملفات التحريات والمتابعة والرصد وما قدمته السلطات الفرنسية عن ذلك، ويسرد
الباحثان سيرته الذاتية وتاريخه الوطني بما في ذلك تفاصيل عن عائلته. وهي سيرة ذاتية
الذاتية، حقيقة تختلف كليا عن السيرة الذاتية التي كتبها مالك بن نبي عن نفسه. لان
وثائق الكتاب تقدم لنا حقائق عفوية يمكن من خلالها تخيل طبيعة المشاعر والواقع المعاش
لمالك بن نبي بخلاف عما يمكن أن ينشره المرء عن نفسه وكيفية تناولها، والتي قد يبالغ
فيها الإنسان أحيانا في محاولات أن يظهر نفسه أفضل.
إن الكتاب واستنادا الى وثائقه والملفات التي عرضها الباحثان، يقدم شكلا مختلفا،
يمكن النظر منه الى سياقات واقعية وظروف كتب فيها بن نبي مذكراته، وكيف تأثره بالحوادث
التي اعترضته، ولماذا زخم هذه المادة، والمواد التي عكف على انتاجها فيما بعد في ظل
واقع نفسي وسياسي معاش، محاط بالرقابة الاستعمارية؟
ومن المفترض أن يثير هذا الكتاب جدلا واسعا بين الكتاب والناقدين حيث يدحض الآراء
المشككة، بين ما كشفت عنه الوثائق وكتاباته في المذكرات، وجرأته في النقد والصراحة،
والاعتراض. بعد نضج أكثر للمفكر مالك بن نبي بعد كل التجارب المؤلمة الكبيرة التي مر
بها.
بالتالي أتوقع ان يفتح هذا الكتاب أفاقا جديدة للبحث والكتابة بشكل مختلف عن أدبيات وأفكار بن نبي، خصوصاً وأن الباحثين والمهتمين الذين كتبوا دراسات وأبحاث ورسائل علمية جامعية ونظموا ندوات علمية مختلفة يعتبرون أن إنتاج مالك بن نبي هو أحد أهم المصادر والمراجع التي لا غنى عنها ويمكن من خلالها رصد تطورات العالم العربي والإسلامي.
د.عقيلة دبيشي
دكتوراه الفلسفة في جامعة باريس