الوجه مرآة النفس
- الأحد 24 نوفمبر 2024
الإلحاد
قدمت الدكتورة شيرين حامد فمهي، ملخصا حول رؤية الدكتور محمد عمارة عن نشأة الإلحاد، وأسبابه، وذلك في بحث نشرته عبر مركز خطوة للدراسات.
وأوضحت أن الدكتور “محمد عمارة” تحدث عن جذور نشأة الإلحاد في التاريخ البشري، مؤكدا بدايةً أن الإلحاد هو الإبن الشرعي للتاريخ الغربي والحضارة الغربية والفكر الوضعي المادي الغربي، وذلك على عكس التاريخ الإسلامي الذي لم يشهد تلك الظاهرة اللهم إلا في نماذج استثنائية محدودة.
حتى تلك النماذج الاستثنائية – كما يشير “عمارة” – كان يتم مجابهتها بالعقل والبرهان والدليل، ذلك أن الإسلام دين يحترم إعمال العقل، بل ينادي به ويدعو إليه في جميع مجالات الحياة، ومن ثم، لم يدخل الإسلام في مواجهة مع العلم والعلماء، كما حدث بالنسبة لأوروبا المسيحية في أثناء القرون الوسطى، وعلى الرغم من بروز قرن الزندقة عن طريق الشعوب الفارسية، فقد كسرتها شوكة عقلانية الإسلام.
وكما يشير “عمارة”، فإن الإلحاد – كظاهرة غربية – استقطب قطاعاً من الفلاسفة والمفكرين الغربيين والجماهير الغربية، منذ الجاهلية اليونانية وحتى العصر الحديث، وتعود الظاهرة تاريخياً إلى الفيلسوف اليوناني “ديموقريطس الأبديري” (حوالي 460 – 370 4 قبل الميلاد).
وقد أصبح الإلحاد مذهباً فلسفياً عبر تطور الحضارة الغربية، حيث بلغ ذروته في الماركسية بماديتها الجدلية والتاريخية التي هيمنت على أحزاب وحكومات ومجتمعات.
إن الماركسية مثلت أكبر ظواهر الإلحاد في التاريخ الإنساني، حتى جاء سقوطها المدوي في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين، ورغم سقوط الماركسية، ظلت ظاهرة الإلحاد ملحوظة بل ومتزايدة في المجتمعات الغربية بسبب سيادة الفلسفة الوضعية المادية، وبسبب العلمانية التي نزعت القداسة عن كل مقدس، وعدم ورود تلك الظاهرة عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، كما يؤكد “عمارة”، إنما يعود إلى البون الشاسع بين العقلية الإسلامية وبين العقلية الغربية، فبينما احتقرت العقلية الغربية، سواء اليونانية أو المسيحية الغربية، التجربة العلمية على اعتبارها نجساً، احترمت العقلية الإسلامية المنهج التجريبي، ورفعت من شأنه.
فقد خاصم العقل اليوناني التجربة العلمية باعتبارها عملاً يدوياً، لا يقدر عليه إلا العبيد؛ ثم جاء العقل المسيحي الغربي الخرافي ليخاصم التجربة العلمية للمرة الثانية؛ إلا أن هذه المرة تطورت المخاصمة إلى سلوك عدائي تجاه العلماء، أفضى إلى حرقهم أحياءً.
وكان نتيجة ذلك هو فتح الباب نحو الإلحاد والزندقة في الوسط الغربي على عكس التاريخ الإسلامي الذي وقف في صف العقل والعلم.
وكيف لا يقف التاريخ الإسلامي في صف العقل والعلم، وقد كانت معجزة الإسلام عقلية في الأساس؛ معجزة تستفز العقل للتدبر بل للشك حتى يصل الإنسان إلى اليقين.
لقد استبعد الأفق الإسلامي المتميز بعقلانيته الفذة القيود الملجئة للإلحاد، كما يؤكد “عمارة”، إنها تلك العقلانية الإسلامية التي تزاوجت مع الشرع، ولم تطلقه كما حدث مع العقلية الغربية. إنها تلك العقلانية المسلمة التي اتسمت بالاتزان والوسطية الجامعة؛ فلم تنظر إلى الانسان باعتباره روحاً مجرداً أو جسداً جامداً، وإنما نظرت إليه كإنسانٍ جامعٍ لتلك الثنائيات.
فبينما كان تبجيل البحث في أسرار الكون، بل وجعله عبادة يجعل علماءها الأكثر خشية لله، أقول بينما كان هذا التبجيل هو الصبغة التي صبغت تاريخ الحضارة الإسلامية، كان احتقار البحث العلمي – في ظل الحضارة المسيحية الغربية – هرطقةً يفر أصحابها من محاكم التفتيش إلى الإلحاد.
إلا أن العصر الحديث، كما يُكمل “عمارة”، حمل في طياته – بكل أسف – أدواتٍ غربيةٍ حديثة لاختراق الشعوب المسلمة؛ إنها أدوات وآليات الفلسفة المادية الوضعية التي مهدت التربة لإنبات نبتة الإلحاد الجديد في القرن الواحد والعشرين، في وسط مجتمعاتنا المسلمة.
ومما أزاد الطين بلة، وساهم مؤخراً في شيوع الإلحاد بالمجتمعات العربية، اجتياح ثورة الاتصالات المقرونة بالعولمة الفكرية؛ ولا سيما بعد اندلاع الثورات العربية الأخيرة في عام 2011؛ حيث أفضى ارتفاع سقف الحريات وسرعة تواصل الشعوب فيما بينها، عبر محطات التواصل الاجتماعي، إلى سهولة وصول الفكر الإلحادي إلى عقول وقلوب الشباب المسلم الذي يمثل قاعدةً عريضةً في المجتمعات المسلمة.
وصفوة القول، إن الإلحاد غربي النشأة – كما يبين “عمارة” – لم يكن ظاهرةً علميةً قامت على الحُجة والدليل والبرهان، بقدر ما قامت على ردة فعل انتقامية تجاه مؤسسة الكنيسة ورجال الدين المسيحي، جراء ما اقترفوه من جُرم بحق العلم والعلماء.