هل رأيت حشرة سرعوف الورقة الميْتة؟
- الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
حوار مع صديقي الملحد
قدمت الدكتورة شيرين فهمي، ملخصا حول كتاب حوار مع صديقي الملحد، للراحل الدكتور مصطفى محمود، تحت عنوان "الشر مكمل للصورة".
وأوضحت شيرين فهمي، في ملخصها المنشور عبر مركز خطوة للدراسات، مصطفي محمود ركز في كتابه “حوار مع صديقي الملحد” الصادر في (2015)، ردوده على صديقه الملحد في عدة نقاط، كان أبرزها: أن الحرية الإنسانية لا تتعارض مع المشيئة الإلهية؛ وأن تقدم الغرب لم يكن بالإلحاد؛ وأن الله يسمح بالشر لحكمة.
وتابعت": إن إقران الحرية الإنسانية بالمشيئة الإلهية إقران عادل، كما يؤكد “مصطفى محمود”. فبُناءً على ما يختاره المرء بحريةٍ كاملة، يُسيره الله ويشاء له المقادير. بمعنى آخر، إن الله يُسير كل إنسانٍ على هوى قلبه. ومن ثم، يصير التسيير الإلهي هو عين التخيير؛ ومن ثم لا تتعارض الحرية الإنسانية مع المشيئة الإلهية. فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ولا قهر للإنسان. فعلى العبد النية وعلى الله التمكين؛ هكذا تلتقي رمية العبد والرمية المُقدرة من الرب؛ فتكون رمية واحدة. إن حريتنا منحة إلهية؛ لم نأخذها من الله كرهاً، بل فطر الله قلوبنا عليها، فأعتقها من كل صنوف الإكراه والإجبار.
أما بالنسبة للفرضية القائلة بأن الغرب لم يتقدم إلا بالإلحاد، فقد كان رد “مصطفى محمود” هو العكس تماماً؛ إذ أكد قائلاً إن الغرب إنما تقدم بالعلم؛ وإن الخلط الواقع بين الدين والتخلف – كما يزعم الملحدون – كان نتيجة ما حدث في العصور الوسطى بأوروبا، حيث تسلطت الكنيسة الكاثوليكية – بل استأسدت – على العلم والعلماء.
وقد أدلى كثير من المفكرين دلوهم في هذه الحجة الإلحادية لإثبات ألا تعارض بين العلم والدين، فوجدوا أن اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية للثورة العلمية في أوروبا المسيحية، في القرن السادس عشر الميلادي، كان إيذانا بميلاد النزعة الشكية الإلحادية الكبرى بأوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، والذي تحول إلى أكبر عصر للشك في العصر الحديث، كما أوضح “عمرو شريف”. إنها تلك النزعة الإلحادية التي عمت أرجاء أوروبا، وأفضت إلى ترسيخ الصراع المرير أو الفصام النكد بين العلم والدين في العصر الحديث (ما بعد القرن الخامس عشر الميلادي)، حيث صار كل شيء مُفسراً من خلال منظور آلية العلم على عكس القرون الوسطى (الممتدة من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي) التي تسلطت فيها الكنيسة على الملوك والشعوب، وبسطت سيطرتها على العلم والدين. فكان ترسيخ ذلك الفصام النكد بين العلم والدين في العصر الحديث بمثابة رد فعل انتقامي على اضطهادات الكنيسة للعلم والعلماء عبر القرون الوسطى.
وكان من أبرز ملاحدة العصر الحديث Auguste Comte” أوجوست كومت” الذي أسس الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر تحت شعار “ما لا يمكن رصده لا وجود له”؛ وهي الفلسفة التي قامت وتأسست عليها الفلسفة الإلحادية المعاصرة.
وكان من آثار النزعة الشكية الإلحادية – التي اجتاحت أوروبا منذ القرن السابع عشر الميلادي – تبلور ونشوء الفكر المادي الغربي الذي استبعد الكثير من العناصر الأخلاقية والإنسانية من أجل تبسيط الواقع، ومن ثم التحكم فيه، كما يؤكد “عمرو شريف” على لسان “عبد الوهاب المسيري”. إنه ذلك الفكر المادي الذي أخفى الإله، ثم أخفى الإنسان المتسامى؛ فاختزله أولاً في رؤيةٍ آلية (إسحاق نيوتن)، ثم في رؤيةٍ عضوية (تشارلز داروين)، وأخيراً في اللاشيء (فرانسيس فوكوياما). فمن عالم الفيزياء والرياضيات “إسحاق نيوتن Isaac Newton ” (القرن الـ17) الذي جعل من الكون ساعةً، ومن الإله صانعاً ماهراً لتلك الساعة، إلى عالم الأحياء “تشارلز داروين Charles Darwin ” (القرن الـ19) الذي أخفى الإله تماماً، وأرجع أصول الإنسان إلى أسلاف القردة العليا ومن قبلها الزواحف، إلى عالم السياسة “فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama ” (القرن الـ20) الذي قارن الإنسانية ببعض الأشكال التي خطت على الرمال ثم محتها الأمواج…وهكذا اختفى الإله والإنسان والغاية من خلق هذا الكون.
إن إقامة الصراع بين العلم والدين لا يُكذبه فقط التاريخ والعقل، بل يُكذبه أيضاً الكثير من العلماء الغربيين الذين دأبوا على ربط قوانين الطبيعة بعقل الإله، ابتداء من “ألبرت أينشتاين Albert Einstein ” ( 1955 – 1879) مروراً بعلماء العصر الحديث؛ منهم Max Planck، وWeiner Heisenberg، وPaul Dirac. لقد آمن هؤلاء العلماء بأنه لا وجود لتعارضٍ بين الدين والعلم، بل إنهما يقاتلان سوياً في نفس المعركة ضد الكفر والخرافة والشك، كما أورد “عمرو شريف” في كتاباته. ومن الجدير بالذكر، حدوث نهضة إيمانية توحيدية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في أواسط الفلاسفة التحليليين – أمثال “توماس تريسي Thomas Tracy ” – وإيمانهم بوجود “روح معنوية حاضرة في كل زمان ومكان”، وأن الإله هو الفاعل الكامل المحب الحكيم.
أما مسألة وجود الشر في العالم، فقد تصدى إليها “مصطفى محمود” بحُجة منطقية تتلخص في أن سماح الله جل وعلا بوجود الشر في الدنيا إنما هو لحكمةٍ عليا؛ وأن ذلك لا يعني أبداً رضاه جل وعلا عن الشر، أو أمره به. والدليل على ذلك، أنه سبحانه لن يترك أبداً أصحاب الشر دون عقابٍ؛ وإن أفلتوا من عقاب الدنيا فلن يفلتوا أبداً من العقاب الخالد في الآخرة. فالنفوس ذات الشر الأبدي ستنال عذاباً أبدياً في النار؛ وهذا من عدله سبحانه وتعالى. ولا يجوز أن نحكم على مسرحيةً من فصلٍ واحد، ولا يمكن استطلاع الحكمة كلها إلا في آخر المطاف. وفي النهاية، فإن جشع النفوس هو الذي قلب الخير شراً، وليس الله.
نعم…لقد سمح الله تعالى بوجود الشر، لكنه لم يأمر به؛ فالله كله رحمة وكله خير. ومن حكمة وجود الشر في الدنيا، التعرف على الجمال والخير؛ فلولا القبح ما عرفنا الجمال وما اشتاقت إليه تفوسنا. “إن نقص الكون هو عين كماله، مثل إعوجاج القوس هو عين صلاحيته، ولو أنه استقام لما رمى” (أبو حامد الغزالي). ويكمل “مصطفى محمود” حجته قائلاً، أنه في دستور الله وسُنته تكون الحرية مع الألم أكرم للإنسان من العبودية مع السعادة؛ ولهذا تركنا الله نخطيء ونتألم ونتعلم. وتلك حكمة أخرى من وجود الشر في الدنيا.
كذلك، فإن الشر له أوجه خير كثيرة. فالمرض قد يخلف وقاية؛ والألم قد يُربي صلابة؛ وسُم الثعبان قد يُخرِج ترياقاً؛ والميكروب قد يصنع لقاحاً؛ والحروب قد تُنتج أعظم الاختراعات، مثل البنسلين والذرة والصواريخ؛ والآلام قد تفرز بشراً وتكشف قلوباً…. إذن فالشر مُكمل للصورة، كما يؤكد “مصطفى محمود”.
ومن ضمن الفرضيات أيضاً التي “تربص” لها “مصطفى محمود”, الفرضية التي تصف الدين بالجمود والتشدد. فإذا به يدفع بحُجته التي تدعم حركية الدين، واستحالة وصفه بالتحجر والجمود، فدين الله دين نظر وفكر وتطور وتعبير؛ بل هو يأمر صراحةً بالنظر والتفكر في خلق الله، مصداقاً لقوله تعالى “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”.
وكيف يكون الدين جامداً، وهو يأمر بالعلم والتعلم والتأمل والتدبر؟ فيكفي القول أن لفظة “العلم” ومشتقاتها تكررت نحو 850 مرة في القرآن، كما يؤكد “محمود”.
ويستمر “محمود” في حجته الداعمة لحركية الدين موضحاً قانون الخلق والإيجاد، القائم على التنوع والتفاضل في كل شيء؛ في البشر، في الثمار، في البهائم.
فكيف يمكن وصف دين الله بالتحجر، وهو الذي يعترف ويقر بالتنوعات والاختلافات والتباينات بين جميع المخلوقات؟