عباس شومان يكتب: ظلم المطلقين للمطلقات!
أ.د عباس شومان - وكيل الأزهر السابق
أجازت شريعتنا الطلاق مع كراهيته الشديدة لما فيه من هدم بناء أرادت له أن يبقى حتى يفرّق الموت بين طرفيه.
وإنما أجازته شريعتنا حيث فقدت الأسرة الأساس الذي بني الزواج عليه والذي حدده كتاب ربنا حين قال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } حيث حل محل المودة والرحمة الشقاق وربما البغض،وإذا كانت شريعتنا الغراء قد شرعت الطلاق لإنهاء مشكلة مستعصية ضربت الأسرة في أساسيها،فإن غالب المطلقين والمطلقات يرتكبون مظالم لاسيما في المراحل النهائية لتحطم سفينة زواجهما،حيث لايفعلان شيئا يبطئ انطلاقها إلى صخرة تحطيمها ،بل قد يُسرّعان من وتيرة انطلاقها عمدا،إذ يتركان سبل العلاج التي أرشد إليها شرعنا لتنفذ على مراحل متتالية وليس دفعة واحدة ،وهي إن نفذت كفيلة بإصلاح الخلل الذي أصاب الحياة الزوجيّة ليبقى الطلاق بعيدا عنها
حيث يقول كتاب ربنا:{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا . وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} فإذا لم ينصلح عطب السفينة بهذه الخطوات لتبقى فوق سطح الحياة تبحر بأفرادها،فيكون الطلاق أهون الشرين وأخف الضررين ،لإنقاذ بقيّة أفراد الأسرة ،وحتى المطلق والمطلقة فقد يجد كل واحد منهما مسارا جديدا لأسرة جديدة فيها المودة والرحمة،وشرعنا حين شرع الطلاق أراد له أن يكون مخلصا لطرفيه من العنت والضيق ،ولم يرد له أن يكون بداية لسلسة من المظالم تنضم إلى مظالم ماقبل الطلاق التي عساها أن تكون وقعت بين الزوجين قبل أن يتخلصا بالطلاق،ومن هذه المظالم: تعمد بعض المطلقين عدم توثيق الطلاق الذي أوقعوه شفويا لدى جهات التوثيق حيث تبقى المطلقة في نظر القانون زوجة ، حيث إنها تزوجت بوثيقة زواج رسمية وتحمل بطاقة رقم قومي دون بها أنها زوجة لهذا المطلق،وعلى ذلك ترتكب جريمة إن هي أقدمت على الزواج قبل أن تحصل على لقب مطلقة مع أنها مطلقة ديانة من تاريخ نطق المطلق بطلاقها،ولرفع هذا الظلم فإن المطلق يلزمه شرعا وقانونا أن يوثق طلاقه هذا لتتمكن المطلقة من اختيار الكيفية التي تريدها لحياتها الجديدة،وحتى في حال الطلاق الرجعي الذي يعيد الزوجة فيه زوجته إلى عصمته في العدة فإنه يلزمه توثيق طلاقه ورجعته حتى يحصى عدد طلقاته ،فهو لايملك إلا طلقتين ورجعتين،فإن طلق الثالثة بانت منه بشكل نهائي:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }،ولاينتبه كثير من الرجال وهو يظلم زوجته من باب التنكيل بها بمماطلته في توثيق طلاقها أنه قد يكون أضر بورثته ،لأنه إن مات قبل توثيق طلاقه فإن المطلقة سترثه قانونا ،حيث إنها في نظر القانون أرملته،ومن وجهة نظري فإن المطلق طلاقا رجعيّا وهو من طلق زوجته شفويا الطلقة الأولى أو الثانية يُمهل ثلاثة أشهر من تاريخ تطليقه لزوجته، فإن انتهت فإنه يلزمه أن يوثقه على الفور حيث تكون بأنت منه بحكم الشرع لانتهاء عدتها،وإنما أمهل ثلاثة أشهر لأنه خلال هذه الأشهر يتمكن من رد مطلقته إلى عصمته واستئناف الزواج مالم تكن قد حاضت ثلاث حيضات بعد طلاقها ،على أنه إن كان قد عزم أمره عند الطلاق وقرر في نفسه وبشكل قاطع عدم ردها إلى عصمته قبل انقضاء عدتها، فلا ينتظر مضي هذه المدة وليبادر بتوثيق طلاقه لتتزامن العدة الشرعيّة مع العدة القانونية التي تبدأ بالتوثيق ،ويكون من الجيد التاغم الرسميّ مع الآثار الشرعيّ ،فتحتسب العدة وكافة الحقوق المترتبة على إيقاع الطلاق من تاريخ الإيقاع وليس من تاريخ التوثيق،فإن أقر مطلق أنه طلق زوجته قبل ثلاثة أشهر ولم تكن المطلقة حاملا وصدقت كلام مطلقها ،فينص في وثيقة الطلاق على أنها قد بانت منه بانتهاء عدتها ،فإن لم تكن أتمتها فينص على مابقي منها بعد تاريخ التوثيق،فتحل للأزواج فور صدور الوثيقة إن كانت قد اتمتها أو بعد اتمام المدة المتبقية،وليعلم المطلقون أنهم يرتكبون إثما كبيرا بتعمدهم المماطلة أو الامتناع عن تخليص مطلقاتهم من هذا التعليق ،حيث لاتكون المرأة زوجة له ولا هي حرة إن ارادت الزواج من غيره،حيث إنه يكون من العضل المنهي عنه في كتاب ربنا
:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فهذا خطاب يصح حمله على من طلق زوجته فانتهت عدتها منه إن أرادت أن تتزوج من غيره،ويشمل ولي المرأة أيضا إذا أراد أن يمنعها من الزواج بعد انتهاء عدتها سواء أكان من زوجها الذي سبق وطلقها رجعيا ولم يردها حتى انتهت عدتها من الطلقة الأولى أو الثانية ،أم أرادت أن تتزوج بمطلقها من جديد وكان هو راغبا فيما رغبت فيه،فلاينبغي للولي أن يمنعها من الزواج به بحجة أنه سبق وطلقها،فقد يقف كل واحد منهما بعد تخلصه من ضغط الخلافات بينهما على أخطائه ويندم على ترك الأمر يستفحل حتى يصل إلى الفراق،وحتى بعد حصوله لم يستفيدا بمدة العدة التي شرعت لحِكم منها :اتحاحة فرصة التفكير والتدبر في المضي قدما نحو إنهاء هذه العلاقة أو العودة لاستئنافها من جديد،ومع ذلك فقد تمضي المدة وتنقضي العدة وبعدها يكتشف كلاهما أن الخير في العودة لاسئناف العلاقة الزوجيّة من جديد،وهنا لايجوز لولي المرأة منعها من الزواج بزوجها السابق،بل إن بعض فقهائنا أعطوها الحق إن تعنت وليها في أن تتولى أمر نفسها وتوافق على الزواج من دون وليها تخلصا من هذا التعنت والعضل، ومن هذا الظلم الذي يوقعه المطلق استغلال فرصه عدم تحديد مهرللزوجة عند عقد العقد ربما لثقة أولياء الفتاة فيه،فلا يدفع لها شيئا بعد طلاقها متى طلقها قبل أن يدخل بها،مع أنه يلزمه أن يجبر خاطرها بمتعة تناسب حاله من الفقر والغني
وذلك لقوله تعالى:{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }،ومن الظلم أيضا من طلق زوجته قبل الدخول فلم يدفع لها نصف المهر المتفق عليه بينه وبين المرأة أو وليها وذلك لقوله – تعالى -:{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}،كما أنه من الظلم في هاتين الحالتين عدم الثوثيق الفوري بعد التطليق دون إمهال،حيث إن الطلاق الواقع قبل الدخول لاعدة فيه،ولايملك المطلق رد المطلقة إلى عصمته مالم يتزوجها من جديد بعقد ومهر جديدين لاعلاقة لهما بالعقد،كما يلزم المطلق التوثيق الفوري إذا طلق زوجته الطلقة الثالثة،فهي وإن كانت لها عدة إلا أنها لارجعة لها،فيكون تأخير التوثيق لامبرر له إلا المماطلة والإمعان في ظلم المطلقة،وليعلم من كانت هذه نيته أنه قد ينقلب السحر على الساحر فيضر بورثته، فقد يموت قبل توثيق طلاقه فترثه مطلقته لأنها في حكم القانون أرملته،ومن الظلم للمطلقات البائنات بينونة صغرى أو كبرى عدم دفع مؤخر الصداق الذي اتفق على تأخيره لحين ميسرة عند العقد ،كما أن لها نفقة يتفق عليها أو يحددها القضاء عند الاختلاف،ومن الظلم مايقوم به بعض المطلقين من إخفاء لدخله الحقيقي كتقديم أوراق يثبت فيها أساس مرتبه فقط مع أن الراتب الذي تحسب على أساسه النفقة هو مجمله ،ويدخل في تقديرها كافة الدخول المؤكدة من تجارة وغيرها ،فإن لم يفصح عنها واكتفى بمرتبه فقد أكل حق المطلقة الذي نقص من نفقتها بتدليسه،وليعلم المطلقون والمطلقات أن التفرق بإحسان كما أمر به كتاب ربنا :{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } يعود بالإيجاب على الأبناء إن وجدوا،
ويبقى على أواصر الصلة والمودة بين أسرة المطلق والمطلقة،وليتذكر أطراف العلاقة الزوجية من الأولياء والزوجين أن الجميع مطالب بالحرص على استمرار العلاقات الإنسانية بقيمها من العدل والإحسان وذكر الآخر بالخير وعدم إفشاء عيوبه لقوله تعالى:{... وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ...} وليعلم الجميع أن وصية رسولنا بالنساء الواردة في قوله – صلى الله عليه وسلم- :" اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا " لاتقتصر كمايفهمه البعض على الزوجات الباقيات في كنف الزوجيّة فقط، بل هي وصيّة بالنساء عامة تشمل الأم والبنت والأخت وغيرهن من محارم الرجل ،وتشمل الزوجة والمطلقة،وتشمل سائر النساء حتى من لا صلة بينه وبينهن ،فالوصيّة بهن تكون بصيانتهن وعدم إيذائهن بالقول أو الفعل وبمد يد العون لصاحبات الحاجة منهن كالفقيرات والأرامل منهن.