باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
تحقيق موقف عثمان بن عفان رضي الله
عنه من الفتنة (5)
نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (9)
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على تحقيق موقف عثمان رضي الله عنه
من الفتنة، وقد سلَّطنا الضوء فيما سبق على حجم الفتوحات والإنجازات التي تمت في
عصر خلافته، ثم أشرنا إلى أهم العوامل التي ساعدت على تأجج نار الفتنة، ثم تحدثنا
عن أهم الوقائع والأحداث التي سبقت مقتل عثمان رضي الله . الوقائع
والأحداث التي سبقت مقتل عثمان رضي الله عنه
وقد ذكرنا أن عثمان -رضي الله عنه- استجاب إلى مطلب
الثوار، وقام بعزل سعيد بن العاص وولَّى بدلًا منه أبا موسى الأشعري واليًا عليهم
كما أرادوا، وقد قال عثمان رضي الله عنه:" والله لن نجعل لأحدٍ عذرًا، ولن نترك لأحدٍ حجة،
ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا"
محاولات الصلح ثم مكيدة الكتاب المزور:
خرج
أهل الأمصار من أوطانهم وهم يريدون عثمان رضي الله عنه، وبلغ خبر قدومهم عثمان
-رضي الله عنه- قبْل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة، فلما سمعوا بوجوده فيها،
اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، وكان أول مَن وصل فريق المصريين، فقالوا لعثمان: "ادعُ
بالمصحف" فدعا به، فقالوا: "افتح السابعة"، وكانوا يسمون سورة يونس
بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم
مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ
أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59]، فقالوا له: "قف، أرأيتَ ما حميت
مِن الحمى؛ الله أذن لك أم على الله تفتري؟!"، فقال: نزلتْ في كذا وكذا؛ فأما
الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتُ زادت إبل الصدقة؛ فزدتُ في الحمى
لما زاد مِن إبل الصدقة”، فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: نزلتْ في كذا، فما يزيدون..
وبعد
هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبيَّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت،
وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ لذا خططوا تخطيطًا آخر يشعل الفتنة ويحييها، وزوروا
كتابًا على أمير المؤمنين عثمان.
ففي أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل
يتعرض لهم، ويفارقهم يُظهر أنه هارب منهم، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال:
أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ثم أخرجوا منه الكتاب، فإذا هم بكتابٍ على
لسان عثمان رضي الله عنه وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر
بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى
عثمان رضي الله عنه أن يكون كتب هذا الكتاب([1])، وقال لهم: “إنهما
اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ
ولا أمللتُ، ولا علمتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم”، فلم يصدقوه!
وقد أقسم لهم عثمان بأنه ما كتب هذا الكتاب([2])، وقد زور المجرمون كتبًا أخرى على علي وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان
وعليه خاتمه، يحمله غلامه على
واحدٍ من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين،
هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان رضي الله عنه([3]).
قرار حصار أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:
وبعد عودة الرعاع قرروا حصار عثمان في بيته، وبالفعل
تمت عملية الحصار لعثمان رضي الله عنه، وأحاط الخارجون على عثمان رضي الله عنه
بالدار، وطلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه، فرفض عثمان رضي الله عنه خلع نفسه، وقال:
“لا أخلع سربالًا سربلنيه الله”([4])؛ يشير إلى ما أوصاه به
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بينما كان قلة من الصحابة رضوان
الله عليهم يرون خلاف ما ذهب إليه، وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه،
ومِن هؤلاء: المغيرة بن الأخنس رضي الله عنه، لكن عثمان رضي الله عنه رفض ذلك.
وقد دخل ابن عمر رضي الله عنهما على عثمان رضي الله عنه
أثناء حصاره، فقال له عثمان رضي الله عنه: “انظر إلى ما يقول هؤلاء! يقولون:
اخلعها، ولا تقتل نفسك”، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: “إذا خلعتها أمخلد أنت في
الدنيا؟!”، فقال عثمان رضي الله عنه: “لا”، قال: “فإن لم تخلعها: هل يزيدون على أن
يقتلوك؟”، قال عثمان رضي الله عنه: “لا”، قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال:
“لا”، قال: “فلا أرى لك أن تخلع قميصًا قمَّصكه الله، فتكون سنة، كلما كره قوم
خليفتهم أو إمامهم قتلوه!”([5]).
وبينما
كان عثمان رضي الله عنه في داره، والقوم أمام الدار محاصروها، دخل ذات يوم مدخل
الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج من المدخل ودخل على مَن معه في الدار
ولونه ممتقع، فقال: “إنهم ليتوعدونني بالقتل آنفًا”، فقالوا له: “يكفيكم الله يا
أمير المؤمنين”، فقال: “ولِمَ يقتلونني، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد
إيمانه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس”؟ فوالله ما زنيت في جاهلية ولا
في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلًا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسًا، ففيمَ
يقتلونني؟!”، ثم أشرف على المحاصرين، وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم.
ولما
رأى عثمان رضي الله عنه إصرار المتمردين على قتله حذَّرهم من ذلك ومن مغبته، فاطلع
عليهم من كوة وقال لهم: “أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني
لا تقاتلوا جميعًا أبدًا، ولا تجاهدوا عدوًّا أبدًا؛ لتختلفن حتى تصيروا هكذا”،
وشبك بين أصابعه.
الصحابة رضي الله عنهم يتدخلون لحماية أمير المؤمنين عثمان رضي الله
عنه والدفاع عنه:
جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: “إن معي
خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يستحل به دمك، فقال:
جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم بسببي”([6]).
وعن أبي حبيبة([7]) قال: “بعثني الزبير بن العوام
إلى عثمان وهو محاصر فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي،
وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلتُ: بعثني إليك الزبير بن
العوام، وهو يقرئك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدل ولم أنكث، فإن شئت دخلت
الدار معك، وكنت رجلًا من القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن
يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع يعني عثمان الرسالة قال:
الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: مكانك أحبّ إليَّ،
وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما
سمعت أذناي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: بلى، قال:
أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «تكون بعدي فتن
وأمور»، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: «إلى الأمين وحزبه»، وأشار
إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟
فقال: “أعزم على مَن كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل”([8]).
ودخل عليه المغيرة بن شعبة وهو محاصَر، فقال: “إنك إمام
العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالًا ثلاثة اختر إحداهن: إما أن تخرج
فتقاتلهم، فإن معك عددًا وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابًا
سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما
أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن
أكون أول مَن خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته بسفك
الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني، فإني سمعت رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: “يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب
العالم”، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فلن
أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”([9]).
وقد حثَّ كعب بن مالك رضي الله عنه الأنصار على نصرة
عثمان رضي الله عنه وقال لهم:” يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين”، فجاءت
الأنصار عثمان ووقفوا ببابه، ودخل زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: “هؤلاء
الأنصار بالباب، إن شئتَ كنا أنصار الله مرتين”(6)، فرفض القتال وقال: “لا حاجة لي في ذلك، كفوا””(7).
وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال له: “أخترط
سيفي؟ قال: لا، أبرأ إلى الله إذًا مِنْ دمك، ولكن ثم (8) سيفك، وارجع إلى أبيك”.
وجاء أبو هريرة -رضي الله عنه- ودخل الدار على عثمان
وأراد الدفاع عنه، فقال له عثمان: “يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعًا
وإياي؟ قال: لا، قال، فإنك والله إن قتلتَ رجلاً واحدًا؛ فكأنما قُتِل الناس
جميعًا، فرجع ولم يقاتِل”(9).
ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان رضي الله عنه على رفض
قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن
يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربًا مِن المحاصرين، فقد روي أن عبد الله
بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقًا؛
فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان رضي الله عنه يرفض كل هذه العروض.
(10).
ونستكمل
في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
([1]) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد أذن له
بالمجيء إلى المدينة، وهو يعلم أنه خرج من مصر، وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط
محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة. ومضمون الكتاب المزور قد
اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه، انظر: محب الدين الخطيب، العواصم من القواصم
ص110.
([2]) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 191). وانظر: محمد
غبان، المرجع السابق، ص161.
([3]) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان (2/515).
([4]) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، لمحمد يحيى
الأندلسي ص47.
([5]) الخلفاء الأربعة أيامهم وسيرتهم، لأبي القاسم التيمي ص
171.
([6]) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/395)
([7]) هو أبو حبيبة مولى الزبير بن العوام، روى عن الزبير،
وسمع أبا هريرة وعثمان محصور.
([8]) فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل (1/ 511، 512).
([9]) البداية والنهاية لابن كثير (7/211).