باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
تحقيق
موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه من الفتنة (4)
نفض
الغبار عن تاريخ الأخيار (8)
الحمد لله، والصلاة والسلام على
رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على تحقيق موقف عثمان رضي الله عنه من الفتنة، وقد سلَّطنا الضوء فيما سبق على حجم الفتوحات والإنجازات التي تمت في عصر خلافته، ثم أشرنا إلى أهم العوامل التي ساعدت على تأجج نار الفتنة، ومنها: تعدد الثقافات في المجتمع، وموت كثير من جيل كبار الصحابة الكرام، ثم عدم التعامل الحسن من الناس تجاه رأفة عثمان وحلمه، وكذا العودة إلى العصبية الجاهلية وتآمر الحاقدين والمنافقين، ودور عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة، وفي هذا المقال نلقي الضوء على أهم الوقائع والأحداث التي سبقت مقتل عثمان رضي الله عنه.
الأحداث التي
سبقت مقتل عثمان رضي الله عنه:
لقد نجح الثوار المجرمون الكاذبون
في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعيَّن عثمان رضي الله عنه سعيد بن
العاص واليًا جديدًا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعد ما
حمد الله وأثنى عليه قال: “والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني
عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن
وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم”([1]).
واستطاع سعيد بن العاص أن يتعرف على
توجهات الناس فيها، وأدرك حقيقة الفتنة، وأن مجموعة من المنافقين والحاقدين وأعداء
الإسلام هم السبب في هذه الفتنة، وقد سيطر الرعاع والأعراب على الرأي فيها [2]).
وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين
عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، فرد عليه عثمان رضي الله عنه
برسالة، طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها، وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد،
وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان رضي
الله عنه وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم
بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت
بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس([3])، ولا تطعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور مَن ليس
أهلًا لها لم يقم بها، بل يفسدها، وهنا تأذى أهل الحقد والغل مِن تقديم أصحاب
السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا
يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم.
واستغل الحاقدون هذا الأمر في
نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة وأعوانه والدولة بصفةٍ عامةٍ، وكان أعداء الإسلام
من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون
الإشاعات والأكاذيب ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في
تهييج العامة ضدهم، وهذا كله بهدف نشر الفوضى، وتعميق الفرقة بين المسلمين، وأوصى
ابن سبأ أتباعه المجرمين فقال لهم: “انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن
على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؛ لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر”([4]).
وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب
والافتراءات، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وبذلك استطاع
السبئيون أن يشعلوا نارَ الفتنة في المجتمع، ويؤثِّرون على كيان الأمة، فأضعفوا
الوحدة والشوكة، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة
عثمان نفسه([5]).
ثم توجَّه ابن سبأ إلى الشام ليفسد
بعض أهلها وينشر بينهم الفتن، ولكنه لم ينجح في هدفه الخبيث، فقد كان له معاوية
رضي الله عنه بالمرصاد.
ثم شكى سعيد بن العاص مِن بعض
الرعاع عنده في الكوفة الذين لا يزالون ينشرون الفتن في المجتمع، فأمره عثمان
بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلًا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام
بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: “إن أهل الكوفة قد أخرجوا
إليك نفرًا خُلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم
رشدًا فاقبل منهم”.
وبذل معاوية رضي الله عنه كل طاقاته
الفكرية والثقافية والسياسية مِن أجل صلاح أحوالهم وتغيير فكرهم، وإبعادهم عن
إيثار الفتن في المجتمع([6])، وبالفعل
تم إرسالهم إلى معاوية رضي الله عنه في بلاد الشام، وهنا كتب معاوية إلى عثمان رضي
الله عنهما قائلًا: “بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من
معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقوامًا يتكلمون
بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس -زعموا- مِن قِبَل القرآن،
فيشبِّهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون
فتنة؛ قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا
كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولستُ آمن إن أقاموا وسط
أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم، فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم
الذي نجم فيه نفاقهم”([7]).
ثم كتب عثمان إلى سعيد بن العاص
فردهم إليه، فلم يلبث أن شكى منهم سعيد مرة أخرى، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم
إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان أميرًا على حمص، فلما وصلوا إلى عبد الرحمن
بن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلامًا شديدًا، وكان مما قاله لهم: “يا آلة
الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهلًا، لقد رجع الشيطان محسورًا خائبًا، وأنتم ما زلتم
نشيطين في الباطل، خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر مَن لا
أدري مَن أنتم: أعرب أم عجم؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن
خالد بن الوليد، أنا ابن مَن قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله
لأذلنكم”.
وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده
شهرًا كاملًا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه،
وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان
إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: “يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن مَن لم
يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن مَن لم يصلحه اللين أصلحته الشدة؟”.
وكان يقول لهم: “لماذا
لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا
تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟!”، ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم
حزمه وشدته وقسوته، وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: “نتوب إلى الله
ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله”([8]).
أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم
بن جبلة، فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها، وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان مِن أفضل وأتقى
أهل البصرة (أشج عبد القيس)([9])،
فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه
معاوية وعامله، عرف براءته وصدقه، وكذب الخوارج وافتراءهم عليه.
وفي عام 34 هـ -السَّنة الحادية
عشرة من خلافة عثمان- أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته، ورتب مع
جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي في مصر
بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج،
وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه([10])، وبدأ الرعاع في إثارة الفتن في الكوفة، وتحريض الناس على
العصيان، وبالفعل حدث شيء من الفوضى وطالبوا بعزل سعيد بن العاص وهم يريدون أبا موسى
الأشعري واليًا عليهم، ولما علم عثمان بذلك قال: “قد عيَّنا وأثبتنا أبا موسى
واليًا عليهم، والله لن نجعل لأحدٍ عذرًا، ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرن عليهم كما
هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون”.
وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه
واليًا على الكوفة([11])، وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليًا، كان في مسجد
الكوفة بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد حاولوا ضبط
الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا
على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق!
وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد
والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هما: حذيفة
بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري([12]).
وقد قام أبو موسى الأشعري رضي الله
عنه بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: “أيها
الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا
جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير. فقالوا: فصلِّ بنا، قال:
لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان”([13]).
وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من
أهل الكوفة كتابًا يبيِّن فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي
موسى بدله([14])، وهي
رسالة ذات دلالات مهمة، وتبيِّن طريقة عثمان رضي الله عنه في مواجهة هذه الفتن،
ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن
مواجهتها؛ فهذا ما علمه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم
عثمان في رسالته: “أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله
لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما
لا يُعصَى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا
استعفيتم منه، حتى لا يكون لكم عليَّ حجة”، وكتب بمثل ذلك في الأمصار.
رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره!
وكم ظلمه السبئيون والخارجون
والحاقدون، وكذبوا وافتروا عليه([15])!
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
([1]) تاريخ
الرسل والملوك للطبري، ج5 ص280.
([2]) خلافة
عثمان بن عفان، مأمون غريب، مركز الكتاب للنشر ص110.
([3]) جولة
تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد السيد الوكيل، الناشر: دار المجتمع، طبعة
1323ه – 2002م، ص 385.
([4]) تاريخ
الرسل والملوك للطبري (8/345).
([5]) خلافة
عثمان بن عفان، مأمون غريب، ص 118
([6]) عثمان
بن عفان ذو النورين، محمد رضا، ص135.
([7]) المصدر
السابق للطبري (5/327)
([8]) تاريخ
الرسل والملوك للطبري (5/329)
([9]) واسمه
عامر بن عبد القيس، وكان زعيمًا لقومه، وقد وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ
يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ) (رواه مسلم). وكان عامر بن عبد
القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيمًا في البصرة، وكان على قدرٍ
كبيرٍ من الصلاح والتقوى.
([10]) تاريخ
الخلفاء الراشدين: الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش، ص 390.
([11]) تاريخ
الرسل والملوك، للطبري، (5/ 339)
([12]) جولة
تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد السيد الوكيل، ص 390.
([13]) عثمان
بن عفان ذو النورين لمحمد رضا، ص137.
([14]) تاريخ
الخلفاء للسيوطي، ص133.
([15]) الكامل
في التاريخ لابن الأثير، (2/519)