تعليقًا على مهرجان الجونة.. عباس شومان يكتب: التبرُّج رفض للتكريم الإلهي
أ.د عباس شومان - وكيل الأزهر السابق
لقد كرَّم ربُّ العالمين الآدميين، ورفعهم فوق كافة مخلوقاته على الأرض، وسجَّل هذا التكريم في أشرف الكتب، فقال: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، وتلحظ هذا التكريم في كلِّ ما يتعلق ببني آدم، فمن حيث الخِلْقَة خلق الله الإنسان على أبهى صورة وأشرفها: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ،{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، ومن حيث التعامل مع الحياة بمكوناتها كرَّمه بالعقل المفكر الذي يستطيع الموازنة بين المنافع والمضار، ولديه القدرة على الاختيار{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } .
وحتى لا تتعطل هذه الهبة والمنحة الربانيَّة طالبنا ربُّنا باستغلالها، وحرَّم علينا تعطيلها، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وأمرنا بأن نستفيد من أخطاء غيرنا حتى لا نقع فيها : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ،{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
ومن مظاهر هذا التكريم أنه أراد للجسد البشري أن يكون مستورًا؛ حتى لا يطلع الناس على ما يؤذيهم في حين بقيت المخلوقات مكشوفة من دونها :{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ، وأمرنا بارتداء أفضل ما نملك منها عند الصلاة، حيث نقف بين يديه – تبارك وتعالى - : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وإذا كان الستر للجسد البشري مطلوبًا من جميع البشر لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم، فإن ستر الرجال يختلف عن ستر النساء، فإن الستر المفروض على الرجال يقتصر على الجزء المحيط بالعورة المغلظة، فاكتفي بوجوب الستر من السرة إلى الركبتين، وأخرج باقي الجسد من العورة؛ ولذا لابأس بكشفه، ويخضع في ستره وكشفه لأعراف الناس وما يعدونه مناسبًا، فيكون من غير الملائم الاقتصار على ما يجب ستره في أحوال يناسبها ستر البدن بالزي المتعارف عليه، والذي قد يصل لتغطية سائر البدن غير الوجه والكفين، وهذا الذي ناسب أعراف الناس في أعمالهم وسيرهم في الطرقات ومناسباتهم واحتفالاتهم؛ ولذا يُنْتَقَدُ تاركه وإن ستر ما وجب ستره شرعًا، فالعرف معتبر في شرعنا، وما يعده الناس حسنًا فهو حسن، وما يعدونه قبيحًا فهو قبيح.
وبكلِّ تأكيد لا يستسيغ الناس حضور الرجال إلى أعمالهم وسائر شئونهم في الحياة، وقد ستروا ما أوجب الشارع عليهم ستره لا غير، ولعل هذا هو المقصود من الأمر بأخذ الزينة عند الصلاة في المسجد أو في المنزل، ففوق ما يجب ستره شرعًا من الملائم أن يكون الواقف بين يدي الله، ومثله من يكون في مجالس الناس مرتديًا زيًّا يناسب تقاليدهم وأعرافهم، وهذا الزيّ الذي يناسب أعراف الناس، وألفوه في شأنهم في الحياة يتنوع بتنوع الأعمال والأغراض، حتى إنك تجد الناس قد اعتادوا على أنَّ زيَّ بعض الأعمال يخالف زيَّ سيرهم في الطرقات والتوجه لأعمالهم، فترى العامل في المصنع إذا خرج إليه من بيته في زي يتجانس مع زي غيره من الناس في الطرقات إلى أعمالهم، بينما إذا دخل إلى مصنعه توجه إلى غرفة معينة فخلع زيَّه وارتدى زيًّا خاصًّا ومناسبًا لعمله، وقد يكون موحدًا لجميع العاملين، وكذا طلاب المدارس ورجال الشرطة والجيش، وحتى في المناسبات تعارف الناس على أنواع زيٍّ تختلف باختلاف المناسبات.
والذي يوافق مقاصد الشرع هو عدم الخروج على ثقافات الناس المتعلقة بالزي طالما كان في إمكان المرء امتلاك الزي المناسب لها؛ ولذا شاع بين الناس قولهم كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)؛ ولذا فإن مخالفة الشباب والرجال لما تعارف عليه الناس وارتداء ملابس غريبة تنفر منها الطباع السليمة يعاب على فاعله، حتى وإن كان مرتديًا لما يستر بدنه كاملًا وليس العورة فقط، فقد يكون لباس الرجل ساترًا لبدنه، ويستقبح الناس لونه، فبعض الألوان تعارف الناس على أنها لا تناسب سنًّا معينة ، وهنا يكون على من بلغ هذه السن تركها، وعدم الخروج على ما ألفه الناس مناسبًا للشباب ولا يناسب كبار السن ، ناهيك على الملابس المبللة والساقطة والممزقة والمشابهة لملابس النساء ،حيث للرجال زيُّهم وللنساء زيُّهم.
أمَّا النساء فإنَّ تكريمهن من قبل شرعنا جعل زيَّهن موافقًا لما تقبله الأعراف السليمة، فالأسوياء من الناس يغارون على نسائهم، ولا يقبلون انكشاف شيء من جسدها ،لا فرق بين رجال عصر وعصر حتى في عصور الجاهلية، فالغيرة على النساء طبع بشري ناسبه أن تكون زينة المرأة متوافقة مع الذوق العام، وما تألفه النفوس القويمة، فأوجب شرعنا ستر جسد المرأة كاملًا ماعدا الوجه والكفين، حيث إنَّ وجوب سترهما يحملها مشقة زائدة، ويؤثر سلبًا على حركتها وممارسة أعمالها اليوميَّة، ولا ينظر الناس إليه على أنه مخالف للذوق العام أو يخل بستر المرأة في أعراف الناس، ومع ذلك لم يحرِّم عليها الشرع سترهما إن هي أرادت ذلك من تلقاء نفسها ، فقررت ارتداء النقاب أو الجاونتي ، فلا حرج على من سترت الوجه والكفين، ولا حرج على من كشفتهما على رأي جمهور العلماء.
وهذا القدر المفروض فرضًا ستره من المرأة دلَّ عليه قول ربِّنا:{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، والأمر في الآية للوجوب لعدم وجود القرينة الصارفة عن هذا الوجوب؛ ولذا فإن من غير المقبول علميًّا جنوح بعض المعاصرين المنتسبين للعلماء، وتشكيكهم في فرضية الحجاب مع وضوح النص القرآني في دلالته، وتأكيد هذا الفهم للمعنى بنصوص السنَّة، ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – لأسماء بنت أبي بكر، وقد رأى عليها ثابًا رقاقًا :" يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ " .
وهذا الزي الذي جاء به شرعنا للرجال والنساء على ما فيه من تفصيل هو من التكريم اللائق بكلِّ نوع من نوعي البشر، ويكون رفضه ردًّا ورفضًا للتكريم الإلهي وبخاصة من النساء، حيث اعتبرن في شرعنا كالجواهر النفسية، التي يجب أن تصان، وتحفظ عن أعين ضعاف النفوس من الرجال، الذين تدفعهم شهوة الجنس إلى إطلاق أعينهم لتقع على ما كشف من جسد المرأة، حتى لو كان بينهم وبينها حائل يحول دون الالتحام الجسدي بين النوعين.
وحتى يتحقق صون المرأة مكتملًا فإن شرعنا الذي أمرها بستر جسدها كاملًا بزي لا رقيق يظهر شيئًا من الجسد تحته، ولا ضيِّقا يحجم أجزاء الجسد، أمر الرجال بغض البصر:{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وأباح لهم النظرة الأولى التي جبلت عليها النفوس، ويحتاجونها لاستكشاف الطريق ومعرفة القادم، وتبيّن نوعه حتى يحتاط منه إن كان مؤذيًا، كالحيوان غير الأليف ونحوه: "لَا تُتْبِعِ النَّظَرَ النَّظَرَ، فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ".
وتجاوز هذه الضوابط التي أراد بها شرعنا صون الرجال والنساء على السواء، يعد رفضًا صريحًا لهذا التكريم الإلهي، وحطًا من منزلة الرافض لهذا التكريم، ومخالفة صريحة للأوامر الإلهية التي جاءت به، ويتمثل هذا بجلاء في هذه المشاهد التي تطلع علينا من خلال مواقع التواصل عن هذا التبرج، ومشاهد العري ليس للنساء فقط ولا في المهرجانات فقط،ولكن يشارك كثير من الشباب والفتيات فيها في أماكن كثيرة، وهو غير جائز على الإطلاق ولأي سبب من الأسباب، و لا يليق بمجتمع جميع من فيه من أتباع الديانات والشرائع التي تأمر بالاحتشام، وتحرم كشف العورات، فليعد الجميع إلى الاحتشام والوقار إنقاذًا لأنفسهم وأنفسهن من النار.