كيف نوفق بين "لن يدخل أحد الجنة بعمله إلا بفضل الله ورحمته"، و"ادخلو الجنة بما كنتم تعملون"
- الأربعاء 27 نوفمبر 2024
منذ أن أُعيد افتتاح جامع الأزهر على يد الملك الظاهر بيبرس، أصبح الجامع الأزهر أكبر المساجد والمدارس السُنيَّة في العالم، وقبلة طلاب العلم الديني، لتصبح مصر في قلب العالم الإسلامي نبراسًا يشع بالعلم والثقافة ومنبعًا للفكر الوسطي؛ ليطمح الكثير من أبناء العالم الإسلامي من أن يكونوا جزءًا من هذا الفكر وينهلوا من العلم الديني داخل أروقة الأزهر الشريف، فيستقبل الآلاف سنويًّا من شتى بقاع الأرض.
وفي إطار ما تقوم به وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر من تقديم لعلماء مسلمي الصين إلى القارئ العربي، تستمر الوحدة في سرد الشخصيات المسلمة الصينية، والدور الذي لعبه ولا يزال يقوم به الأزهر الشريف في بناء الشخصية الإسلامية الصينية المعتدلة في الفكر والمحافِظة على المنهج الوسطي الذي يحمله كل من يقوم بالدراسة داخل الأزهر الشريف وأروقته الشامخة، فقد انبثق من هذا الصرح العظيم روافد كثيرة نهلت من علومه وأنارت بها جميع أنحاء العالم، ومن أقصى شرق الدنيا من حضارة بلاد الصين وَفَد الصينيون؛ لينهلوا من علوم الأزهر الشريف، ويعودوا إلى بلادهم حاملين العلوم الإسلامية والفكر الوسطي الذي يحمل لواءه الأزهر الشريف، ومن حرص وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر على تعريف المسلمين بميراثهم الثقافي والديني نستعرض في هذا التقرير أهم البعثات الصينية إلى الأزهر الشريف وأثرها الثقافي والديني على الشخصية الإسلامية الصينية.
البعثات الصينية
إلى الأزهر
لم تسجل لنا دفاتر التاريخ القديمة قوائم أسماء مُفصلة للطلاب الصينين القادمين إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، فقد كان محط الرحال للطلاب، ومنهم من اختار البقاء في مصر ليكون أحد شيوخها، ولم يفرق الأزهر يومًا بين أحد من أبنائه، ولم تعرف الرحلات المنظمة أو الابتعاث المسجل إلا في بداية القرن العشرين، فقد أرسلت أول دفعة من الطلاب المغتربين الصينيين إلى مصر عام 1931م، وآخر دفعة منهم كانت في عام 1938م، وخلال هذه السنوات السبع، أُرسل إجمالًا (٣٣) طالبًا على (٥) دفعات.
وقد تمتع طلاب هذه الدفعات بطموح كبير، وجد، واجتهاد في الدراسة، ومنهم من نال شهرة واسعة مثل الأستاذ محمد مكين Ma Jian الذي ترجم القرآن الكريم فيما بعد.
وكان لهؤلاء الطلاب دور كبير في إثراء الثقافة الصينية بالعلوم العربية والدينية، وذلك بعد انتهاء دراستهم وعودتهم إلى موطنهم، كما كان لهم دور كبير في تحفيز التبادل الثقافي والاقتصادي بين العالم الإسلامي والصين.
وقد لاقت البعثة الأولى للطلاب الصينيين اهتمامًا كبيرًا في اليوم التالي لوصولها مصر، حيث سجلت أكبر الجرائد المصرية (جريدة الأهرام) خبر وصول أول دفعة من الطلاب المسلمين الصينيين إلى مصر، وبالرغم من أن أول البعثات للطلاب المغتربين تكونت من (٥) طلاب، فقد استغرقت مدة هذه الرحلة أكثر من (٥١) يومًا، بدأت من مدينة هونج كونج في ٢٢ نوفمبر لعام 1931م، واجتازوا البحر، ووصلوا إلى وجهتهم، فكانت جامعة الأزهر محط رحالهم في ديسمبر من نفس العام، حيث وجدوا ترحيبًا حارًّا من جامعة الأزهر الشريف.
وفي مدة وجيزة بدأ الطلاب الصينيون الدراسة، وقام المشرف على البعثة السيد "شا قوا تشنغ" Sha Guozhen برفع طلب بإنشاء قسم للطلاب المغتربين الصينيين.
وفي ٥ مايو عام 1933م تمت الموافقة على الطلب، وعُين السيد "شا قوا تشنغ" رئيسًا لقسم الطلاب المغتربين الصينيين.
ولم تمض مدة وجيزة حتى أصبح السيد "نا تشونغ" Na Zhong أول صيني مبتعث يستطيع الحصول على لقب "العالمية" بحصوله على أعلى الدرجات.
وفي هذه المدة شهدت الثقافة العربية والصينية تواصلًا كبيرًا؛ فقد تمت ترجمة العديد من الكتب الصينية إلى العربية، أهمها مجلد "آراء أكبر معلم في الثقافة القديمة للصين (الحوار)" لكونفوشيوس إلى اللغة العربية، وقام بتعريفه للعالم الإسلامي، كما ظهر أيضًا كتاب (نبذة عن الإسلام في الصين) باللغة العربية.
الأثر الديني والثقافي للطلاب المبتعثين
ما لبث أن عاد الطلاب الصينيون إلى بلدانهم ليكونوا سفراء للأزهر، يحملون العلم الشرعي واللغوي الذين نهلوه من الأزهر الشريف لينشروه في ربوع الصين.
ومن أهم الشخصيات التي أثرت على الثقافة الصينية: "نا تشونغ" Na Zhong(1909م-2008م)هو أحد أبناء قومية "هوي" المسلمة، درس في المدرسة الصينية الفرنسية، وشارك في الكتابة للعديد من الجرائد الرسمية، ونشر عددًا كبيرًا من النصوص الأدبية، واهتم بالتاريخ والثقافة الإسلامية حتى تم اختياره عام 1931م للسفر إلى مصر للدراسة، فأحب دراسة التاريخ العربي، وفي عام 1936م استطاع أن يتخرج من جامعة الأزهر، واستطاع خلال إقامته في مصر ترجمة العديد من المؤلفات، منها كتاب "الإسلام والحضارة العربية" لمؤلفه محمد كرد علي، و"سلسلة كتب في التاريخ الإسلامي" لأحمد أمين، وفور عودته إلى وطنه عمل بمدرسته بـ"يونان" Yun Nan ثم عمل بالجامعة المركزية (التي يطلق عليها الآن جامعة نانجينغ)، ثم عُين بجامعة يونان، ثم عمل أستاذًا بكلية اللغات الأجنبية، حتى أصبح متخصصًا في التاريخ العربي، ومن أشهر مؤلفاته "تاريخ العرب العام" والكثير من المؤلفات.
و"دينغ جونغ مينغ" Ding Zhongming والذي أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغة العربية بجامعة تايوان، ومن أشهر مؤلفاته "العودة إلى مصدر الطريق الصحيح"، وغيرها من المؤلفات التي أطلعت الصين على الثقافة العربية الإسلامية، كما استطاع أن يكون له ثقل في المجال الدبلوماسي والأكاديمي في تايوان.
و"ما تزين بينغ" Ma Jinpeng أستاذ اللغة العربية بقسم اللغات الشرقية بجامعة بكين، واشتهر في مجال البحث العلمي والتدريس، حيث قام بترجمة كتاب "رحلة ابن بطوطة" ونشره.
السيد "ليو لين روي" Liu Linrui الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة بكين، والذي يعود له الفضل في وضع الكثير من مناهج اللغة العربية بالصين.
ومحمد مكين، ويعد أشهر هؤلاء المبتعثين وأكثرهم أثرًا في التاريخ الصيني المعاصر، ويُطلق عليه بالصينية "ما جيان"، والذي شغل منصب الأستاذ بجامعة بكين والجامعة المركزية الوطنية، واشتهر بالعديد من التراجم باللغتين الإنجليزية والعربية المتعلقة بالثقافة، والتاريخ وتعاليم الدين الإسلامي. مثل: "التاريخ العربي العام"، و"مختصر تاريخ الأدب العربي"، و"حقائق دين الإسلام"، و"سجلات تاريخ الإسلام"، و"تفسير القرآن الكريم"، و"الإسلام والمسيحية والثقافة الأكاديمية" وغيرها من المؤلفات.
وكان قد أُوكِل إليه تأليف "القاموس العربي الصيني" وغيره، لكن يعتبر أعظم أعماله "ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الصينية"، ليصبح النص المترجم الأكثر اقتباسًا من قبل العلماء داخل الصين وخارجها، إضافة إلى عمله مترجمًا لمدة طويلة لكل من السيد "ماو تسي دونغ" مؤسس الصين الحديثة، و"ليو شاوتشي" Liu Shaoqi و"تشو إن لآي" Zhou Enlai وغيرهم من قادة الدولة في الصين.
الدراسات الإسلامية باللغة الصينية
لم يكتف الأزهر الشريف بطلاب العلم القادمين من بقاع العالم كافة إلى الأزهر لينهلوا من علومه، فبدأ في إنشاء كلية اللغات والترجمة، ومن بين أقسامها قسم الدراسات الإسلامية باللغات الأجنبية؛ ويهدف هذا القسم في تعليم الطلاب الملتحقين العلوم الدينية باللغات المختلفة، ومع ظهور الصين قوةً عظمى، وتوافد العديد من الصينين على العالم العربي للتجارة والدراسة؛ أصبحت الحاجة ماسة إلى افتتاح أقسام اللغة الصينية في العديد من الجامعات.
وانطلاقًا من دور الأزهر الديني والدعوي، ولمواجهة التحديات التي يواجهها المسلمون، أنشأت كلية اللغات والترجمة عام 2001 قسم الدراسات الإسلامية باللغة الصينية، والذي يُعد واحدًا من أهم الجامعات التي تدرِّس العلوم الإسلامية باللغة الصينية؛ ليكون طلابه قاعدة وركيزة أساسية لنشر العلوم الإسلامية باللغة الصينية.
وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر
في ظل انتشار الفكر المتطرف في العالم، ومع تزايد مخاطر الإرهاب؛ كانت الحاجة إلى مواجهة من نوع آخر تختلف عن المواجهة المسلحة، وهي الردود الشرعية والفقهية على دعاوى الجماعات المسلحة، والتي اتخذت الدين ستارًا لأفعالها المتطرفة، ومن هنا جاء دور الأزهر الشريف ليستغل طاقات شبابه في الدفاع عن الإسلام الوسطي المعتدل، الذي يقوم بتدريسه في جامعاته ومعاهده؛ ليفتتح فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف» في الثالث من شهر يونيو 2015م ليكون أحد أهم الدعائم الحديثة لمؤسسة الأزهر الشريف، وقد وصفه فضيلته بأنه «عين الأزهر الناظرة على العالم»، وحرص فضيلة الإمام الأكبر من أول يوم أن يكون المرصد ناطقًا بالعديد من اللغات الأجنبية؛ حيث تنشر كل وحدة مخرجاتها من أخبار ومتابعات ومقالات ورسائل توعية باللغة الأجنبية على الصفحة المخصصة لهذه اللغة على الفيسبوك وبوابة الأزهر الإلكترونية.
وقد حظيت اللغة الصينية من أول وهلة باهتمام فضيلة الإمام الأكبر، الذي حرص على متابعة ما تنشره الوحدة إضافة إلى زياراته المتعددة إلى مرصد الأزهر، ليكتسب الأزهر الشريف تنوع وثقل آخر في تكوين الشخصية الصينية المسلمة؛ من خلال الكتب ورسائل التوعية التي يصدرها مرصد الأزهر.