باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
لم تكن الظاهرة الغريبة
التي تسترعي الانتباه اليوم هي وجود ملحدين من أبناء المسلمين يرتدون عن الإسلام
ويكفرون به؛ فهذه الظاهرة مع خطورتها لا تبدو غريبة فهي طبيعة الناس في كل العصور.
لكن الظاهرة الخطيرة
والغريبة هي وجود فئة بين المسلمين، أعدادها في زيادة، لم تترك الإسلام علانيةً
كما تركه الملحدون ولا حتى تركته سراً كما يفعل المنافقون، بل هي مستمرة على
انتمائها له فيما بينها وبين نفسِها وفيما بينها وبين الناس، لكن هذه الفئة أو
الطائفة لا تؤمن بالإسلام كما أنزله الله وكما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم،
بل تؤمن به على النحو الذي يُمليه عقلُها والقيمُ ( الغربيّةُ) المقدسةُ عندها،
فتأخذ منه، بجانب التعبدات والطقوس الشعائرية، ما وافق هذين المُقدسَين عندها (
العقل- القيم الغربية في الحقوق والحريات)
وتترك ما خالف ذلك وترفضه ولا تعرِّج عليه.
إن هذه الفئة من الناس
باختصار توافق أن تكون مسلمةً ومنتميةً إلى الإسلام كدين لها، لكنها في الوقت نفسه
تتحفظ على بعض ما جاء به الإسلام، تماماً كما
يتحفظ بعض أعضاء مجلس النواب على بعض المواد في قانون قدمته الحكومة، أو كما يتحفظ
بعض القُراء على فكرة أو أفكار في كتاب جميل أعجبهم، أو كما يتحفظ بعض المؤيدين من
ذوي العقل والخُلق على تصرفات وأخلاق زعيم سياسي فذٍّ تعشقه الجماهير.
ترضى هذه الفئة من الإسلام بالصلاة والصيام
والزكاة والحج وقراءة القرآن، وتحب ما جاء مِن أمرِه بالإحسان إلى الآخرين ومساعدة
المحتاجين والعطف على الفقراء والمساكين وقضاء حوائج الناس إلى غير ذلك مما جاء
الإسلام به من أبواب البر والإحسان ونفع الناس، لكنها في الوقت نفسه تتحفظ على بعض
الأحكام الإسلامية التي تراها منافية لقيم العدل والإنسانية في نظرها!
فمن هذه الطائفة مَن
يتحفظ على جُلِّ الأحكام المتعلقة بالمرأة كفرض الحجاب عليها أو ككونها ترث نصف
ميراث الرجل أو كونها لا تملك عُقدة النكاح ويملكها الرجل، أو كون الرجل يباح له
التعدد والزواج بأخرى معها ....إلخ
وبعضهم يتحفظ من
الإسلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعضهم يتحفظ على العقوبات الشرعية
والحدود المتعلقة بمخالفات الزنا والردة وغير ذلك.
وبعضهم يتحفظ على عدم
المساواة بين المسلمين وغير المسلمين فيما يتعلق بتولي الولايات العامة أو نشر المعتقد
الديني وترويجه، ونحو ذلك من الأحكام المقررة في هذا الباب.
وغني عن البيان أن
الإسلام الذي يعتنقه هؤلاء مع التحفظ على ما يتحفظون عليه منه= ليس هو الإسلام
الذي ارتضاه الله وأمر المؤمنين أن يدخلوا فيه بجميع شعبه وأحكامه وأوامره ونواهيه،
كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
[البقرة: 208] والسلم هنا هو الإسلام. وليس إسلام هؤلاء هو الإسلام الذي أقسم الله
تعالى بذاته العلية أنه لا يتحقق إيمانُ مؤمنٍ ولا يكمل إسلامُ مسلمٍ إلا بتحكيم
الوحي الذي بعث به رسولَه صلى الله عليه وسلم في سائر ما يعرض للمؤمنين من أمور
وقضايا، مع الرضى التام عن أحكام الله تعالى التي جاء بها كتابه أو سنة نبيه صلوات
الله عليه، قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65]. وليس إسلام هؤلاء هو إسلام
المؤمنين الصادقين في إيمانهم وإسلامهم الذين لا ينبغي ولا يصلح أن يكون لديهم
اختيار ذاتي في الأمور التي جاء فيها الشرع بتحليل أو بتحريم، كما قال تعالى {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]؛ فالمسلم الحق ليس له
رأي ولا مذهب ولا وجهة نظر ولا تعقيب في مسألةٍ حكمَ الله تعالى فيها بحكمٍ وقضى
فيها بقضاءٍ؛ إنما يكون له ذلك فيما لا حكم لله تعالى فيه بإيجاب أو تحريم أو ندب أو كراهة، وقد تُرك له
الاختيار فيه، فهاهنا يصح أن يكون للمسلم رأي واختيار ووجهة نظر، أما حيث حكمَ
اللهُ وفيما حكم الله= فشأنه التسليم والقبول والرضى والانقياد.
إن الإسلام الذي يعتنقه
أولئك المتحفظون عليه المتخيرون منه= يصلح أن نسميه " الإسلام
الاشتراطي" أو " الإسلام الانتقائي" أو " إسلام العقل
البشري" أو " إسلام القيم الغربية" لكون صاحبه لا يقبل من الإسلام
الإلهي الذي أنزله إلا ما ارتضاه عقله أو توافق مع القيم الإنسانية أو المفاهيم
الغربية التي يقدسها ويجعلها المعيار للحق والعدل.
وبكل حال؛ فهذه الفئة
المنتسبة للإسلام لم تفهم معنى الإسلام بعدُ، ولا حتى معنى الدين؛ فإن الإسلام هو
الاستسلام والدين هو الخضوع، ومَنْ يقبل من وحي الله ويرفض ويأخذ منه ويترك ويرضى
عن بعضه ويسخط بعضَه= ليس في الحقيقة دائناً لهذا الوحي ولا خاضعاً وليس مستسلماً
لِمُنزل هذا الوحي؛ بل استسلامه الحقيقي لعقله وما ارتضاه من قيمٍ ومعايير إنسانية
حول الحق والعدل، وأمّا ما قد آمن به من الإسلام وارتضاه = فما هو إلا تلاقٍ
وتوافق في القيمة والفكرة وليس نابعاً من خضوع عبدٍ لربٍّ ومخلوقٍ لخالقٍ ومُتألهٍ
لإلهٍ. فحاله مع الوحي أشبه ما يكون بحال رجلٍ مثقفٍ مع نظرية فلسفية أو أخلاقية
يطرحها فيلسوف ما أو مفكر ما، فيرتضي هذا الرجل المثقف بعضَ الأفكار التي قدمها
ذلك الفيلسوف أو المفكر نتيجة توافقها مع قيمٍ وأفكارٍ مُسبقة يعتنقها هذا الرجل
المثقف، فيأخذ بها ويستعملها ويحيد عما لم يقبله ويرتضيه.
وليست تلك الصورة هي
صورة المسلم مع وحي ربه وشرع خالقه؛ فإن مبنى العقيدة الإسلامية أن الله تعالى هو
خالق الإنسان وصانعه وربه وباريه وفاطره وإلهه، ووظيفة الإنسان هي عبادة الله
وعمارة الأرض كما استخلفه الله، واتباع ما أنزل الله من الهدى والبينات؛ ليحظى
الإنسان في الدار الآخرة برضا الله وثوابه ويجتنب سخطه وعقابه، ووحي الله تعالى
وما أنزله من كتاب وما شرع على لسان نبيه صلوات الله عليه من سننٍ= هو الوسيلة
والسبيل القويم ليعلم الإنسان مراد الله ويفرق بين الحق والباطل والصواب والخطأ
والعدل والظلم والخير والشر.
وبناء على ذلك فوحي
الله وما تضمنه من شرائع وأحكام= هو القيمة المركزية التي يعلم بها الإنسان ما هو
خيرٌ وما هو شرٌ وما هو عدلٌ وما هو جورٌ وما هو مساواةٌ وما هو حيفٌ وما هو حقوقٌ
وما هو واجباتٌ.
ومعنى كون المرء مسلماً
أو دائناً بدين الإسلام= أنه خاضع ومستسلم لدائرة الوحي وأنها المعيار الأول عنده
في معرفة ما هو خيرٌ وعدلٌ ورحمةٌ ومساواةٌ، ومعرفة ما هو ضد هذه الأمور؛ ومن ثَم
فليس له سبيل إلى الانتقاء من مقررات الوحي وقبول بعضها وردّ بعضٍ آخر؛ لمنافاة
ذلك لمعنى العبودية والخضوع والاستسلام التي هي أسس العلاقة بين العبد والرب،
بينما القبول والرفض والانتقاء والاختيار والتصحيح والتخطئة يكون أساس العلاقة بين
العبد والعبد. فمن حقك أن تقبل بعض أفكاري وترد بعضها أو تردها كلها أو تقبلها
كلها؛ لأننا متساوون في الرتبة والدرجة والمنزلة؛ فكلنا بشر نصيب ونخطئ ونعلم
ونجهل، ولم يأمر الله تعالى أحداً أن يكون عابداً خاضعاً ذليلاً لغيره من الناس
يمتثل جميع أوامره ونواهيه بحذافيرها دون أن يقوم بتقويمها وعرضها على ميزان آخر؛
بل أمر أن يكون ذلك له وحده سبحانه.
إن أبجديات إعلانك
الانتماء للإسلام هو خضوعك خضوعاً تاماً كاملاً لوحي رب العالمين وشريعته وأحكامه،
وجعلِها القيمة الكبرى والمعيار الأعلى الذي تزن به وتحاكم إليه جميع النظريات
والأفكار البشرية والمفاهيم الإنسانية في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ وشاردةٍ وواردةٍ؛ وإلا
فأنت لا تعبد الله كما يقرر الإسلام، بل تعبد نفسَك وعقلَك وأفكارَك وما اقتنعتَ
أنه معيارُ الخير والشر والصواب والخطأ.
وفي الختام، أراني لست
بحاجةٍ إلى سرد أقاويل الفقهاء في حكم مَن يقبل أشياء من الإسلام ويرد ولو شيئاً
واحداً منه، ويرضى عن أحكام منه ويسخط ولو
على حكمٍ واحدٍ، وأنه بذلك يكون مرتداً عن الإسلام إنْ لم يكن له عذرٌ من جهلٍ أو
تأويلٍ؛ فإنني هنا لم أقصد التناول الفقهي للموضوع، بل أردت بيان القضية من حيث
أصلها ومناقضتها لمقتضى الإسلام ومعنى العبودية والدين.