أكاديمية بناء تحتفل بتخريج الدفعة التاسعة في حفل علمي فريد لنقد الإلحاد
- السبت 19 أبريل 2025
الإلحاد يُسمم العلوم
عندما تحاور أحد الملحدين فإن الجملة المعهودة التي يبدأ
حواره بها تكون كالتالي: أنا فقط أُسلم بالعلم التجريبي والمحسوسات، فلا تُعطني
أدلة خارج هذا النطاق!
وهذه المقدمة هي أحد أصول الوضعية المنطقية Logical
positivism وهي حركة فلسفية إلحادية
نشأت في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين. -1-
وتنادي هذه الحركة بإبعاد جميع العلوم والمعارف التي لا
يُمكن الاستدلال عليها من خلال التجربة الحسية المباشرة، فهي تحارب بشدة أية معرفة
يتم رصدها بخلاف التجربة الحسية، كما سيأتي بيانه.
وهذا التأسيس الذي تطرحه هذه الحركة يتيح لها في مرحلة لاحقة أن تزعم أن
الأدلة الدينية ليست من جنس الأدلة التي تريدها، فتُضيق خناق الأدلة حتى تُخرج منها كل
دليل غير تجريبي غير حسي!
لكن في واقع الأمر تجارب الإنسان وخبراته أثرى وأغنى وأكبر
بكثير من العلم الطبيعي التجريبي الحسي، فهل نحن مطالبون بأن نحذف من قواميسنا
وجامعاتنا وأكاديمياتنا كل العلوم والمعارف التي لا تخضع لأدوات العلم التجريبي؟
إنه استبداد مريع لم نسمع عنه إلا إبان حكم الكنيسة
على العلم واعتبار أن ما تملكه هو العلم وغيره هرطقة!
هل هذا غاية ما يريده الملحد من العلوم؟
ألا يدري الملحد أنه أخرج بذلك كل علوم الأخلاق والفلسفة
والاجتماع والقانون والآداب وعلوم التاريخ وعلوم التاريخ الطبيعي- البيولوجيا Biology-، وعلوم عملاقة مثل
علم النفس، واللسانيات، والاجتماع!
هل علوم التاريخ تخضع لأدوات العلم التجريبي؟
هل علوم الأخلاق والفلسفة والاجتماع وكل العلوم
الإنسانية يمكن رصدها في الإطار الحسي؟
إن هذا الإطار الذي يريد أن يُقيدنا الملحد به يجعله في
صدام مباشر مع أكاديميات علمية عملاقة يريد أن يغلقها فقط لأنها لا تتناسب مع
مقاييسه الخاصة.
أليست
هذه لعنة Anathema على العلم
والعلماء؟
أليس هذا تسميمًا مباشرًا لأغلب العلوم؟
ومن عجيب ما يُذكر أن مؤسس الفلسفة الوضعية المنطقية وهو
ألفريد آير Sir
Alfred Jules "Freddie" Ayer تنبه إلى أن هذه الفلسفة بالفعل تمحو أغلب
العلوم وتجعلها لغوًا فارغًا، وأن العلوم الإنسانية الأصيلة مثل الأخلاق والمنطق تصبح
بهذه المقاييس مجرد وهم! وهنا تراجع ألفريد آير عن فلسفته وبدأ في الرد عليها من خمسينيات
القرن الماضي.
لكن الهزة الكبرى التي قلبت طاولة الوضعية المنطقية كانت
قبل وفاته بقليل، إذ عاين ألفريد آير تجربة الاقتراب من الموت Near-death experience ورأى
الاحتضار بأم عينيه، وأسر لطبيبه المعالج د.جيرمي جورج Dr Jeremy George بعد أن أفاق بكلماتٍ عجيبةٍ قائلاً:
"لقد رأيت قوى إلهية غيبية، أخشى أني في طريقي لمراجعة كل كتبي وآرائي."
-2-
هكذا كان تقرير مؤسس الوضعية المنطقية في لحظة تجاوز
العالم المادي إلى عالم لم يكن يؤمن بوجوده يومًا ما {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون
﴿٨١﴾ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴿٨٢﴾ فلولا إذا بلغت الحلقوم ﴿٨٣﴾ وأنتم حينئذ
تنظرون ﴿٨٤﴾ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} سورة الواقعة.
واليوم تتعرض الوضعية المنطقية لضرباتٍ شديدة من الحركات
المادية ذاتها قبل غيرها، فالمنهج ما بعد البنائي post-structuralist مثلاً يرى أن العلم التجريبي
الحسي في قمة تجريبيته يقوم على فروض يستحيل التحقق منها مثل : معقولية الكون، وإمكان
استيعابه، وانضباط قوانينه كحقيقة خارجية مستقلة!
وكلها مسلمات يقوم عليها العلم التجريبي وليس بإمكانه
التحقق من شيءٍ منها، ولو اعتبرنا أنه لا حقيقة سوى المنهج التجريبي فساعتها
سيدمر المنهج التجريبي ذاته بذاته لاستحالة التحقق من الشروط التي قام عليها! -3-
وهذه حقيقة تضع المنهج التجريبي كله في حرج بالغ، يُضاف
إلى ذلك أن مصدر المعرفة في العلم التجريبي هو العمل العقلي في مُدخلات الحس
والمشاهدة والتجريب –إذن لابد من العمل العقلي والأدلة العقلية-، وأساس العلم
التجريبي هو البديهيات العقلية والمُسلمات المنطقية ثم يكون الإستقراء المعرفي بدرجاته، هذه بداية العلم
التجريبي ونهايته.
فالذي يرفض الأدلة العقلية ويُسلم فقط بالأدلة الحسية
التجريبية نقول له: وكيف تُسلم بصحة التجربة بدون عمل عقلي في مُدخلات الحس
والرصد؟
فلا يُتخيل التسليم بالأدلة التجريبية دون تأسيس عقلي
ومنطقي ورياضي ومعرفي وبديهة أسبقية A-Priori مستقرة في عقل
الباحث أو العالم أو الفيزيائي. -4-
فالأدلة
المعرفية العقلية سابقة على الأدلة التجريبية، ولا ينضبط الدليل التجريبي بدون
فروض مسبقة وبديهيات أولية.
وفوق هذا وذاك؛ لم يعد الدليل التجريبي إلا وجه من وجوه
الأدلة وليس كل الأدلة... وإلا فكما قلنا سابقًا ما مصدر القيمة الأخلاقية ؟ وما
مصدر الحِس الفني؟ وما مصدر الحس الجمالي؟
يقول
الملحد الدارويني المتعصب ريتشارد داوكينز Richard Dawkins : "أنا ضد الداروينية ولا أُطيقها حين يتعلق
الأمر بحياتنا." -5-
فلا تستطيع الحركات التجريبية المادية الوضعية أن تمدنا
بالقيم المعرفية الأخلاقية، ولا أن تضبط معيارية علومنا الإنسانية!
وهذا نفس ما يذهب إليه شرودينغر Erwin Schrödinger أبو ميكانيك الكم حين يقرر أن العلم التجريبي عندما
يتحدث عن القيمة الأخلاقية أو القيمة الجمالية أو القيمة الفنية فهو
أراجوز نستمع له لنضحك لا لنأخذ كلامه على محمل الجد.!-6-
وقد صدر
مؤخرًا في (2012) كتاب لفيلسوف الوعي الملحد الشهير توماس ناجل Thomas Nagel بعنوان Mind and Cosmos: Why
the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature is Almost Certainly False
والكتاب أثار ضجة في الأوساط العلمية والإلحادية، ويمثل ردة صريحة للفيلسوف عن
كفاية المذهب الطبيعي التجريبي.
وفكرة الكتاب كما يظهر من العنوان: "التدليل على
قصور التصور المادي عن الطبيعة."
فالعلم التجريبي لا يُغطي إلا جانب ضيق جدًا من حقل المعرفة!
ومن هنا يتقرر أن: الإلحاد عبء على العلوم والمعارف
ويُسمم القيمة ويدمر مؤسسات وأكاديميات عملاقة فقط حتى يتسق مع ذاته!
يقول د.عبد الله الشهري: "محاولة إصدار أحكام شمولية
universalist- absolutist من واقع
تجريبي ضيق هو تصرف لا مبرر له، لذا يعبر القرآن الكريم عن هذا الشعور الوهمي
بإصدار أحكام شمولية يعبر عنه بلفظ السلطان Authority فقال تعالى: }الذين يجادلون في
آيات الله بغير سلطان أتاهم ﴿٣٥﴾ سورة غافر.
فهذا التخويل المقترن بذلك السلطان يُمنَح من سلطان يتجاوزنا، وليس
شيئًا نمتلكه {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} ﴿٣٥﴾ سورة الروم. -7-
فلا يجوز لك أن تُسمم كل العلوم بدعوى أنها لا تتسق مع
فلسفتك المادية الإلحادية، ثم تزعم أن رأيك هو الصواب وكأن لك سلطان تحذف ما يروق
لك وتقرر فقط ما يصلح لفلسفتك!
-----------------------
1- Michael
Friedman, Reconsidering Logical Positivism (New York: Cambridge
University Press, 1999) P.xiv
2- "I saw a Divine Being. I'm afraid I'm going to have to
revise all my books and opinions."
3- http://www.princeton.edu/~achaney/tmve/wiki100k/docs/Post-structuralism.html
4- آلة
الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين، أبو الفداء ابن مسعود، دار الإمام مسلم، ص 577
بتصرف.
5- اللقاء الذي أجرته قناة الجزيرة انجليزي مع ريتشارد داوكينز
دقيقة 42
6- شرودنغر في كتابه الطبيعة والإغريق Nature and the Greeks
7- ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، د. عبد الله
بن سعيد الشهري، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى.