د. علي حسن الروبي يكتب: احتضار فليسوف

  • أحمد عبد الله
  • الإثنين 23 أغسطس 2021, 07:16 صباحا
  • 1246


 

كانت الرُّحَضاء تعلو جبينَه، وصدرُه يرتفع وينخفض بشدةٍ، والآهات التي تخرج منه لها صوتٌ عالٍ مسموعٌ، لكن لا أحد معه، لا أحد يحاول التخفيف عنه ولو بالكلام، كم نحن محتاجون إلى الناس وإنْ زعمنا أننا مُسْتغنُون عنهم تماماً!

أهكذا يموتُ وحدَه بعد أن عاش حياتَه كلها للناسِ، ونذرَ عمرَه كلَّه لتثقيفهم وتنويرهم، فلم يتزوجْ ولم يفكرْ في تكوين أسرة حتى لا ينشغل بأي شيءٍ آخر سوى الكتابة والتأليف. إنه لم يكن يتوقف عن الكتابة حتى في أيام مرضه، بل لا بد أن يكتب ولو مقالة صغيرة، ولكن مرضه هذه المرة مختلفٌ، فهو لا يقوى على مجرد النهوض.. يبدو أنه المرض الأخير!

آهٍ لو مات في هذه الساعة! سيموت منفرداً لا يسمع بموته أحدٌ ولا يبكي عليه باكٍ حتى يأتي الخادم صباح غدٍ.

كيف سيكون وقْعُ خبرِ وفاته على الناس؟ وهل سيحزنون لفراقه بعد أنْ قدّم لهم كلَّ هذا العطاء منقطع النظير؟

 هل ستقوم وسائل الإعلام بنعيه على الوجه الذي يليق به وبمكانته في دنيا الأدب والفكر؟

ماذا ستقول عنه الأوساط الثقافية والفنية بعد رحليه؟

ترى كيف سيكون شعور خادمه المخلص "إدريس" عندما يجده قد قضى؟ هل سيقوى على هذا الفراق بعد عِشرةٍ بينهما دامت 30 سنةً؟ هل سيغلبه هول المفاجأة ويُذهله عن المبادرة إلى إخبار الزميل الدكتور (أمجد) الذي سيتولى أمور التشييع والدفن على ما اتفقا عليه مسبقاً؟

الألم يزداد وآهاته المنبعثة من أعماقه تُحدث صدًى في الغرفة الرطبة التي يرقد على السرير الذي بوسطها، لو يمكنه أن يتجاوز هذا الألمَ وتعود إليه قواه مرةً أخرى، ولو لمدة نصف ساعة فحسب ليكتب عن " الآم الموت " وكيف هي، أو ليُدبِّج كلمةً عن " فلسفة الموت "  ...

حالته تزداد سوءً، النهيج يرتفع بصورةٍ حادةٍ نظراً لازدياد الألم، والعرق يتصبب من جبينه وليس يقوى على مجرد مسحه بمنديله حتى لا يدخل إلى عينيه، كأن روحُه ستفارق جسدَه الآن.

فجأةً ينشق جدار الغرفة ويدخل منه أشخاصٌ وجوهُهم مرعبةٌ جداً كما أن ملابسَهم سوداءُ قبيحةٌ، أحسّ برعبٍ شديدٍ يجتاحه يكاد يُنسيه الألمَ المريرَ الذي يعانيه.

 قال بصوتٍ مرتجفٍ:

-     من أنتم؟ وماذا تريدون؟

قال أحدهم بصوتٍ بغيضٍ:

-     نحن الذين كنت تنكر وجودنا وتسخر منه وتكتب في ذلك الكتب والمقالات وتُعطَى على ذلك الجوائز!!

-     أُنكرُ وجودَكم؟!

-     نعم! ألم تك تسخرْ من وجود الملائكة والجن والشياطين وتقول: إنها خرافات لا ينبغي التصديق بها في عصر سفن الفضاء؟!

 آخر:

-     نحن الملائكة! ملائكة الموت جئنا لقبضِ روحك!

-      إلى أين تذهبون بها؟

-     إلى العذاب

-     العذاب؟ أنا مصيري إلى العذاب؟!

-     ولم لا؟! ألم تك تاركاً للصلاة، مصراً على شرب الخمر، مقترفاً لفاحشة الزنا، إلى سيئاتٍ كثيرةٍ جداً بجوار ذلك.

بارتجافٍ شديدٍ:

-     لكني لم أقتلْ أحداً ولم أسرقْ مال أحدٍ طوال عمري، وما اعتديت على أحدٍ في حياتي.

-     ولا حتى على الله؟!!!

-     الله؟!

-     أجل! ألم تسخرْ منه ومن دينه في كتاباتك؟! ألم تعترضْ على أوامره في جُل أعمالك؟ ألم تبذلْ جهدك في تضييع هيبته في النفوس وصرف الناس عن أحكامه وشريعته؟

-     أنا كنت ...

-     مثلا في كتابك "الحرية" ص 100: " لن يتحرر الإنسان حق التحرر ما لم يقتل في داخله كل هيمنةٍ خارجيةٍ تحت اسم الإله أو الدين أو الأخلاق"

وفي روايتك " رباب " ص 200  قلت على لسان بطلك : " الله والشيطان وجهان لعملة واحدة"

وفي أطروحتك " التراث " ص 70 : " قطع يد السارق ورجم الزاني في القرن الحادي والعشرين همجية غير مقبولة"

وفي كتابك " رسائل تنويرية" " ص 20  " الحديث عن الموت وما بعده علمٌ لا ينفع وجهلٌ لا يضر ولن تتقدم أمة أكثر علومها وكلامها فيما لا ينفع"

وفي مسرحية ...

آخر مقاطعاً:

-     كفى لسنا هنا لمحاسبته بل لنقبض روحَه وسيعرض عليه كل ذلك أمام الله تعالى يوم القيامة.

-     أنا خدمتُ الناس وأفنيت عمري في ذلك ..ثلاث شهادات  دكتوراه من جامعاتٍ مختلفة في حقول علمية متنوعة ،عشرون كتاباً في الفلسفة وغيرها، تسع رواياتٍ، خمس عشرة مسرحية، عشرات البحوث، مئات المقالات!

-     كل ذلك ذهب هباءً منثوراً ولا قيمة له عندنا، بل هو من أسباب شقائك؛ فقد كنتَ تصرف الناسَ عن التفكير في آخرتهم التي تنتظرُهم، وعن الاستعداد لهذا الموقف الذي أنتَ فيه الآن ..كنتَ تملأ حياتَهم بتفاهاتٍ ومُلهياتٍ دُنيويةٍ سافلةٍ، فيغرقون في الغفلة والاغترار بالدنيا وشهواتها، ويُعرضون عمّا خُلقوا له، ويَنْسَون المصير الذي سيصيرون إليه حتى تباغتهم الحقيقةُ التي تعيشها أنتَ الآن يا حضرة الفيلسوف، فيندموا حيث لا ينفع الندمُ.

-      لكني كنت أريد بهذا السعادةَ للناس!

-     قد أضللتَهم وأهلكتَهم وجنيتَ عليهم.

-     ...

-     هيا الآن أعْطنا روحَك لنهبطَ بها إلى سجين، ثم لتذوق عذاب القبر ، وتعرف بنفسك ما إذا كان حقيقةً أو خرافة فأنت لا تؤمن إلا بالمنهج التجريبي، أليس كذلك؟!

-     مهلا مهلا ! صدَّقْتُ وآمنتُ. اتركوني أرجعْ إلى الدنيا أخبر الناس بهذه الحقائق، وأعيش حياتي على ضوئها.

-     كلا! انتهتْ فرصتُك! أمهلَك اللهُ 75 عاماً، وكم قرأتَ واطَّلعتَ وكم رأيتَ من دلائل على قدرة الله وحكمته وصدق رسوله، وكان عندك القرآن فيه الهدى والشفاء، وكان بإمكانك أن تراجعَ نفسَك، وكم مرةٍ بدا لك خللُ منهجك لكنك كنتَ تكابر وتركن إلى الشهوات الحاضرة والشهرة العريضة التي حقَّقْتَها، والآن حان انتقالك إلى الدار الآخرة، فلا يمكن أن تعود إلى الدنيا.

-     فرصةً أخيرةً!

-     كلا! هاتِ رُوحَك!

-     آه آه!! اتركوني اتركوني! رويداً رويداً!! آهٍ آهٍ....

 

استيقظ الدكتور " ذكي " وهو ينهجُ نهَجاً شديداً وقد وضع يده على حلقومه، رافعاً صوتَه بالتأوه حتى استيقظتْ زوجتُه الدكتورة " نوال" منزعجةً.

-     "ذكي " ماذا أصابك؟

-     لا شيء لا شيء، فقط "كابوسٌ" مزعجٌ جداً، ذلك أني كنتُ أقرأ قبيل نومي في أحد الكتب الرجعية التي تتكلم عن الموت والآخرة!

 

 

تعليقات