عزة عز الدين تكتب: نفحةٌ من روح القاهرة

  • أحمد حمدي
  • الأربعاء 18 أغسطس 2021, 10:33 صباحا
  • 970

منذ أيام تلقيتُ دعوة من صديقة لمناقشة روايتها، وقررتُ الحضور مَحبةً لها ثم لسببٍ آخر، فالندوة ستُعقد في منتدى ثقافي بأحد شوارع وسط البلد.  


 حسناً سيتيحُ لي الحضور إذن التجول بهذه التقاطعات المضيئة. ومنذ وقتٍ طويل، ربما عدة أشهر لم أنعم بهذه النزهة البسيطة جداً.


منذ ساعاتٍ قليلة ماضية عشت هذا التجوال بين الأروقة واللافتات المضيئة والشوارع المزدحمة بالمارة، منهم من عَقدَ على ملامِحِه بعضاً من الشقاء ومنهم من أنارت وجهَه البسمة، يتكلمون ويتشاجرون ويضحكون ويهرولون كل في اتجاه، فوضى الشوارع لم تفقدني المتعة، والصخب لم يفقدني الحماس.


 ابتسمتُ في وجه فتى يحمل " غزل البنات" والتقطتُ الصورة وسألني" مش هتنفعيني؟" فابتسمتُ مجدداً وتذكرتُ عشق الصبايا وهدايا المحبوب، وهذا المزمار الذي طالما انطلق فركضنا نحو الشُرُفات نستوقفه للشراء أو نتأمل هذا اللون البهيج، وهذه القطع الحُلوة التي تذوب في الفمِّ حتى يتلاشى الطعم ولا تتلاشى الفرحة.


 تجاوزتُ الفتى وعلى ناصيةٍ أخرى وجدتُ الحلواني الشهير وقد التف الكثير حول ماكينة " الآيس كريم" ويا له من طيب المذاق، لم أسعد بالشراء والتذوق فقد اقترب موعد الندوة.


 تجاوزته أيضاً وعلى مقربةٍ وجدتُ بائع الذرة، راقَ لي المنظر والرائحة وهممتُ بالتقاط الصورة فتوارى الصبي الصغير ربما خجلاً، وكم وددتُ لو أُقبّل رأسه احتراماً لهذا الكفاح والحياء الغير مبرر، ثم هرولتُ بعد أن قررت عدم الالتفاف، ولكن هيهات فأجواء الصخب والحياة راقت لي.


هذه سينما مترو، كنت قد نسيتُ السينمات واليوم تساءلت ألا زالت تَعرِض؟ الإجابة كانت صوتاً وصورةً وإدراكاً، تجاوزتها وكدت أنسى الندوة و عنوانها لولا علامة مميزة نبهتني.


 دخلتُ القاعة وقد ازدحمت برأسي أفكار وتفاصيل لم تنتِه بعد، وانتقلتُ لحالٍ آخر، وأجواء مختلفة تماماً، هذه الرواية التي تناقَش، هؤلاء المبدعين، هذه المداخلات حول تفاصيل ترسمُ وجهاً آخراً للحياة، وبحجم إدراكي كم للحياة وجوه كثيرة، شعرتُ بشغف أن أكمل انطلاقي، استأذنت قبل الانتهاء وهرولتُ وانتقلتُ بين التقاطعات مرة أخرى، أعلو بناظري للبنايات القديمة وفيها من عبق الماضي ما يُشعلُ الحنين، أبواق السيارات لا تهدأ، والخطوات تتواصل دون انقطاع، وأصوات البشر تتلاحق كل في حكاياتِه.


هناك على ناصيةٍ أخرى افترش المقهى جزءاً من الشارع خارج حدود جدرانه، وامتلأت المقاعد، وعلا صوت أم كلثوم "أمل حياتي يا حب غالي ما ينتهيش" ابتسمت، فما أشبه اليوم بالبارحة، ابتعدتُ قليلاً وتجاوزت مسرعة تلك المحلات التي ارتفعت فيها الأغاني الشعبية الهابطة، وودتُ لو أخبرهم أنه لاتزال هناك فرصة للارتقاء فعندنا من الأرصدة ما يكفي لتنقية الذوق العام ولكن فقط لمن يريد.


وعلى مسافةٍ قريبة بائع "التين الشوكي" عِشقي الكبير، يلبس الرجل في كلتا يديه قفازاً خاصاً يحميه من الأشواك، وبخِفِة ومهارة ينزعُ القشرة السميكة الشائكة ويُلقي بالثمرة في الطبق، ياله من مُحترف، بهرتني رشاقة اليد وعلامات الرضا التي اعتلت الوجه، وصوته وهو يدندن " حلاااااااااوة يا تين" تلقفتُ طبقين وانصرفت، سأضعهم في الثلاجة عندما أصل، بقليل من البرودة تكتمل فعلاً حلاوته.


افتقدت كثيراً بائع الترمس وهذه العربة ذات الأواني الفخارية الممتلئة بالماء، والمحاطة بالقراطيس البيضاء، لم ألمحه الليلة ليضع بصمته في لوحة الجمال.


هناك على بعد خطوات زحام أكبر، فلما اقتربت عرفتُ السبب " عصير القصب" عشق الجماهير، الأكواب المثلجة الكبيرة ذات الطبقةِ البيضاء، والضخ بماكينة يطيب لي مذاقها الطازج، ارتكنتُ على جدار وشربتُ كوباً وتمنيتُ لو معي أمل وأماني صديقتا الصبا وشريكتا العمر الجميل، لا بأس فقد اتفقنا على لقاء الأحد القادم بإذن الله. 


هذه بائعة الفُل، فتاة باسمة حلوة تتجول بين السيارات، وتمد يدها بالعطرِّ والجمال، لم أتمكن من اللحاقِ بها لأشتري وألتقط صورة كم تمنيتُ أن أكون فيها معها والفُل، لكنها راوغتني بخفتها واختفت بين زحام السيارات بعد أن طالني أريج ما حملت فانتشيتُ كمن عانقت الحياة.


أكملتُ خطواتي وتمنيتُ لو طال الوقتُ في هذه الأجواء التي أسعدتني، ولولا تأخر الساعة وحذائي العنيد لأكملتُ جولتي وما مللتها أبداً.

 

لم يعكر صفو الليلة سوى انتباهي لهذا الحشد رغم الكورونا وتساءلت هل نحن شعب بهذه القدرة الفائقة على تحدي المحن؟ أم أنه اتكال وجهل وإهمال لا نُحسَد عليه؟ على أي حال كنتُ أضع الماسك وأتناسى المحنة حتى لا تُفسد حماسي، وأدعو الله بالسلامة. 


عدتُ لبيتي وبداخلي صورة قديمة -حديثة- عطرة لملامح وجه من وجوه القاهرة، في ليلٍ مختلف جميل بالنسبةِ لي.


سكبتُ شعوري في حروفي وكتبت، وتمنيتُ لو أتقن رسم الملامح كما أدركتُها بكل هذا البهاء.

تعليقات